لماذا تقدم معسكر التوتر والإرهاب على السلام والتنمية في القرن الأفريقي

لماذا تقدم معسكر التوتر والإرهاب على السلام والتنمية في القرن الأفريقي

تعثرت آمال السلام في منطقة القرن الأفريقي مع عودة التوترات القبلية في جنوب السودان وانشقاق الجبهة الثورية في السودان، إضافة إلى انشغال إثيوبيا بالصراعات الحدودية، ومع عودة التوتر يحذر متابعون من استغلال أطراف خارجية بعينها مثل قطر وتركيا النزاعات لتحقيق أجندتهما التوسعية وضمان استمرار محورهما في المنطقة.

قبل نحو عام أو يزيد، شاع حديث متفائل حول اقتراب الهدوء والأمن والاستقرار والسلام والتنمية من منطقة القرن الأفريقي، وظهرت معطيات إيجابية في غالبية الدول، جميعها ذهبت إلى طي صفحة قاتمة وفتح أخرى زاهية، وبدأ الراغبون في إطفاء الحرائق يتزايدون، والمؤيدون لإشعال التوترات يتراجعون. اطمأنت دوائر متعددة بأن خريف المنطقة أوشك على الرحيل، ليفسح المجال أمام ولوج ربيع سياسي واقتصادي واجتماعي غاب طويلا.

تعزز هذا الاتجاه، مع صمود اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا، ونجاح الثورة السودانية في عبور مرحلة ما بعد رحيل نظام عمر البشير دون انتكاسات كبيرة، وظهور مؤشرات على غلق صفحة الحرب الأهلية في جنوب السودان، ناهيك عن ارتفاع حظوظ التعاون بين غالبية دول القرن الأفريقي، وتجاوز جوانب كبيرة في العداوات السابقة بين معظم الدول، أو على الأقل نمو معالم التجاوب مع رياح السلام ومشروعات التنمية.

بدأت تذهب تدريجيا الأجواء المتفائلة، وتحل مكانها أخرى متشائمة. فإثيوبيا التي لعبت دورا في الانتقال السياسي السلس في الخرطوم تنشغل بمعارك حدودية كامنة مع السودان، أفضت إلى توتر غير مسبوق الخميس الماضي، وتراوغ في أو تتقاعس عن اتخاذ الترتيبات اللازمة لتنفيذ التعهدات المشتركة بين الجانبين، حتى تحولت منطقة “الفشقة” السودانية إلى منغص قوي في جسم العلاقات بين البلدين، يضاف إلى توتر مكتوم بشأن مشروع سد النهضة وآليات ضمان عدم الإضرار بحصص المياه وعناصر الأمان.

تخلت أديس أبابا نسبيا عن دورها كضابط إيقاع في المنطقة وتحولت إلى أحد عناصر التوتر، حيث استأنفت تدخلاتها في الأراضي الصومالية وضاعفت من حضورها في بعض أقاليمه، وتجمدت تقريبا طموحات السلام مع إريتريا، وفتحت قنوات تواصل أوسع مع قوى مثل تركيا وقطر، معروف أن مصالحهما لا تلتقي مع توفير الأمن والاستقرار، ولديهما علاقات مشبوهة مع تنظيمات تمارس الإرهاب في المنطقة، في مقدمتها حركة الشباب الصومالية.

وعادت السخونة إلى الخلاف حول مناطق حدودية بحرية بين الصومال وكينيا، ولم تفلح الجهود السابقة لتجاوزه في أن تحقق تقدما ملموسا، لأن هناك قوى إقليمية عملت على تغذيته، وحالت تصرفاتها السلبية وأطماعها الاقتصادية دون تهدئته، كي يظل الخلاف جرحا غائرا قابلا للنزيف، كلما لاحت في الأفق ملامح سلام بين الطرفين.

حدثت استدارة قوية في دولة جنوب السودان، وعادت لتعيش في كنف بركان قبلي عاصف، وذهب قبل أيام مئات من المواطنين ضحايا اشتباكات في منطقة جونجلي، وبات اتفاق السلام مترنحا مرة أخرى بين الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار، وأصبحت الدولة الوليدة مهددة بالتشرذم أكثر من أي وقت مضى، ولم تتدخل قوى إقليمية أو دولية لسد الفجوات، وإبعاد شبح الحرب الأهلية، وما تفضي إليه من تداعيات داخلية وعلى دول الجوار.

كما أن خطوات تحقيق السلام في السودان خلال الستة أشهر الأولى من عمر الفترة الانتقالية، جرى تجاوزها بنحو ثلاثة أشهر ولم تحرز تقدما حقيقيا، وبدت وساطة جنوب السودان عاجزة أو مكبلة، والمسافات لا تزال متباعدة بين المسارات الرئيسية المنوط بها توفير السلام.

تؤكد هذه المعطيات أن هناك انسدادا واضحا يعتري الدول التي قررت الانخراط في طريق السلام بوتيرة متسارعة، قسرا أو طوعا، ولم يعد المجال ممهدا لتدشين مشروعات تنموية تنقل دول المنطقة إلى فضاء أرحب، وكأن هناك رياحا هبت لتحول دون الآمال والطموحات التي راهنت على توفير السلام والاعتماد على التنمية للخروج من مستنقع الأزمات الذي تعيش فيه منطقة القرن الأفريقي منذ عقود.

يمكن صياغة الاستنتاج في شكل أسئلة، هل دول المنطقة غير راغبة في الأمن والاستقرار أم غير قادرة على الوصول إليهما، أم أن ثمة أطرافا خارجية تعبث بمصيرها، وترى أن مصالحها ومكاسبها تتصاعد في ظل انتشار النزاعات والصراعات، لذلك ظهرت فجأة توترات بين دول أوشكت على قطع صلتها بماضي مرير كان لا يعبأ بفكرتي السلام والتنمية؟

تشير النتيجة التي وصلت إليها المنطقة إلى تأثير كل هذه المحددات، حيث أسهمت جميعها في خلق الصورة القاتمة الراهنة، وتضعف الأمل في استئناف الزخم السابق، وتضاف إليها المكونات الناجمة عن أزمة فايروس كورونا، وما أدى إليه من تغير واضح في سلم الأولويات والحسابات، ونجاح بعض القوى في استثماره لتغيير التوازنات في المنطقة.

تعتاش بعض الأنظمة العربية والأفريقية على النزاعات، ولو لم تجدها لابتدعتها أحيانا، وتعتقد أنها كفيلة بعدم توجيه الانتقادات إليها أو تخفيف حدتها، استنادا إلى قاعدة تقول إذا أردت أن توحد شعبا فأوجد له عدوا مخيفا، ولأن معظم حكام المنطقة يعانون من مشكلات داخلية مزمنة، رفعوا هذه القاعدة إلى مكانة عالية، وكلما احتدمت الأزمات الداخلية زادت المناوشات الخارجية عمدا أو عن جهل، كي تتجه الأنظار بعيدا عنهم، وتخجل المعارضة من مواصلة انتقاداتها للأوضاع المحلية.

إذا طبقنا هذه الفرضية، وهي صحيحة غالبا، على دول المنطقة سنجد آثارها جلية، وإذا لم تكن هناك رغبة في افتعال توتر ما، فلا توجد ممانعة في الانسياق خلفه أو رفض تحجيمه، بدواعٍ وطنية زائفة أو التغطية على ملفات شائكة، يأتي ذلك من رحم عدم وجود إرادة سياسية كافية لتطبيق السلام، وعدم الاقتناع بربطه بمشروعات تنموية يمكن أن تغير شكل المنطقة.

راهنت بعض التقديرات على القيادة الواعدة في دولتين تقعان في قلب القرن الأفريقي، هما إثيوبيا والسودان، لتقودا المنطقة إلى نقلة تضفي عليها بريقا، وتجعلها مركزا للتكامل بين دولها وبين دول من خارجها ترى أن هناك فرصا تستطيع أن تغير وجهها من بؤرة للتوترات إلى مركز جذب للاستثمارات ووأد القوى المتشددة التي تقتات على الصراعات.

يتراجع المستوى المتفائل مع عمق المشكلات الداخلية التي تواجهها الحكومة الإثيوبية وتزايد ضغوط المعارضة، والتي دفعتها إلى تأجيل الانتخابات العامة في أغسطس المقبل لأجل غير مسمى، ومواجهة أزمة دستورية حادة، حتى لو كان ستار التأجيل كورونا، كما أن السلطة الحالية في الخرطوم تصطدم بتحديات كبيرة، تحد من قدرتها على الوفاء باستحقاقات سياسية تضمنتها وثيقة دستورية رسمت خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية.

كان من المفترض أن تؤدي هذه الأوضاع في البلدين إلى التصميم على استكمال طموحات السلام وبلورة أحلام التنمية، لكن ما حدث أن القيادتين ارتاحتا للتوترات البينية والإقليمية للخروج من مأزق يطوق عنق كل منهما، والاستسلام للوقوع في فخ الدائرة الجهنمية المليئة بالنزاعات لتخنق رقاب العديد من دول المنطقة، وينطفئ نور أرخى بظلاله لفترة، وأنعش الأمل لدى دوائر سياسية اعتقدت أنه حان وقت الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي.

أسهم في العودة إلى الخندق المظلم، وجود جهات خارجية عملت على استقطاب قوى محلية، في الحكم والمعارضة، وأمعنت في توفير العوامل اللازمة لعدم مبارحة البيئة الصراعية، وأطلقت العنان لتنظيمات متشددة تمارس أنشطتها الإجرامية على نطاق واسع، وتخلط الأوراق التي تصور البعض أنه جرى ترتيبها بما لا يسمح لهؤلاء بالتلاعب بمصير منطقة تعيش منذ زمن على براكين قابلة للانفجار في أي لحظة.

زادت العمليات الإرهابية في الصومال، وتنامى في كل من إثيوبيا وجنوب السودان شبح صدامات قبلية ومناطقية وعرة، وأخذت التحرشات الحدودية تطل برأسها بين دول المنطقة وقد تخرج عن السيطرة، كما تعاني إريتريا أزمة هيكلية تتعلق بالمرحلة التالية لغياب الرئيس أسياسي أفورقي عن السلطة بعد أكثر من عقدين من جلوسه على كرسيها، حيث ترددت معلومات حول اشتداد المرض عليه ووجود نزاعات خفية بين أجنحة متباينة حول خلافته.

وأفضى عدم الاستقرار السياسي الذي يخيم على المنطقة إلى زيادة أطماع دول مثل تركيا وقطر لتحقيق أغراضهما، ووجدتا في ذلك بيئة مناسبة لاستمرار محورهما الذي يتغذى على الهدم والإرهاب، ولذلك أصبح الراغبون في تعميم محور السلام والتنمية مطالبين باستئناف جهودهم لاستعادة الزخم قبل أن تستكين دول القرن الأفريقي لما عرفته من نزاعات.

العرب