يعيش النظام اللبناني أزمة سياسية ـ ماليّة كبرى انعكست في تدهور غير مسبوق في قيمة العملة المحلية، وموجة غلاء هائلة، وسط أزمة سيولة حادة وشحّ للدولار الذي لامس سعر صرفه في السوق السوداء عتبة 7 آلاف ليرة لبنانية، فيما السعر الرسمي الذي لا يزال مثبتا هو 1507 ليرات، وأصبحت قطاعات واسعة غير قادرة على تأمين قوتها اليومي، فمن كان راتبه يعادل 700 دولار في الصيف الماضي بات أجره اليوم يعادل أقل من 200 دولار.
خسرت شرائح عريضة من اللبنانيين مصادر رزقها أو بعض مداخيلها مما دفع بمئات آلاف اللبنانيين للنزول إلى الشوارع منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي للتعبير عن نقمتهم من الطبقة السياسية القائمة ورغبتهم في تغيير النظام الفاسد والطائفي بنظام ديمقراطي يوقف النهب المعمم وأشكال الفساد، كما ينهي حالة الدولة العسكرية لـ«حزب الله» التي تسيّر شؤون البلاد وترهن اقتصاده وسياسته لجهات خارجية تعاني بدورها من العقوبات السياسية والاقتصادية العالمية.
قدّم اللبنانيون مؤخرا طرقا من التعبير عن الجوع والفقر الممزوجين بالخوف من المستقبل، فقام كثيرون، في كافة أنحاء لبنان، بنشر صور براداتهم الفارغة، وحاول نشطاء في بيروت ومدن أخرى، استعادة زخم الحراك الشعبي الذي أوقفته مخاوف انتشار فيروس كورونا، وردّت السلطات على ذلك بعنف شديد، وخصوصا في طرابلس، التي يعاني مواطنوها أشكالا من التهميش والعنف المفرط، وبمتابعة إيقاف الناشطين واعتقالهم وتعذيبهم، وقوبلت محاولتها البائسة لاستسهال استخدام تهمة «التواصل مع العدو الإسرائيلي»، بحق العلامة الشيعي علي الأمين، بالسخرية الشديدة مما دفعها للتراجع بسرعة، وهذا النظام نفسه الذي جرى نقل أحد العملاء الإسرائيليين الحقيقيين تحت سمعه وبصره، وقبلها تم العفو عن عقيد متعامل مع إسرائيل، لكنه محسوب على تيّار الرئيس ميشال عون، مما يعني أن الطبقة السياسية اللبنانية تعفو عن العملاء الحقيقيين، ثم تستخدم التهمة، وتلفّق الأدلة البوليسية، حين يتعلّق الأمر بممثل مثل زياد عيتاني.
تبدو السلطة اللبنانية التي يقودها الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل ورئيس حكومته حسان دياب في حالة دوران حول النفس، فهي تعلم أنها صارت الركن الأساسي في هذه الأزمة الحاصلة، وهي غير قادرة، بالتالي سوى على أخذ خطوات سياسية فاشلة، من قبيل اجتماع «اللقاء الوطني» الذي دعا إليه الرئيس، والذي تحوّل، مع مقاطعة أطراف سياسية أساسية في لبنان، اجتماعا للجهات التي شكّلت الحكومة نفسها، وهي ما يسمى «فريق 8 آذار».
أحد الطروحات التي تقدم بها الفريق المذكور، على لسان حسن نصر الله، الأمين العام لـ«حزب الله»، كان «التوجّه إلى الشرق»، وقد تمت ترجمة ذلك بفكرة التوجه، بشكل رئيسي، إلى الصين (إضافة إلى إيران وكوريا الشمالية وسوريا)، وحين يجيء هذا الطرح في وقت تبدو فيه الحكومة اللبنانية في وضع اليائس المنتظر لقروض غربيّة، وتكون الصين نفسها، التي تحاول الخروج من تبعات ظهور كورونا المستجد، في حالة صراع مع الغرب لفك الحصار عن قطاعات مهمة في اقتصادها، وفي أن هذا الاقتصاد الذي شهد ازدهارا هائلا في العقود الأخيرة، نابع من الاندماج في المنظومة المالية العالمية، وليس الانفكاك عنها، وكذلك في أن الصين لديها مصالح كبرى وليست جمعية خيريّة للإحسان الماليّ على الدول المفلسة، يبدو الطرح كلّه متهافتا، وجزءا من حالة الدوران حول الفراغ للرجوع مجددا إلى مواجهة الحقائق الصلبة للاقتصاد والسياسة.
القدس العربي