ظهر اليوم الثلاثاء، وصل رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي،، إلى العاصمة الإيرانية طهران، في أول زيارة خارجية له منذ انتخابه للمنصب في مايو/أيار الماضي، ويرافقه فيها وفد سياسي واقتصادي رفيع يتكون من وزراء الخارجية والنفط والكهرباء والمالية والدفاع والصحة ومستشاره للأمن القومي العراقي.
واستقبل وزير الطاقة الإيراني رضا اردكاني الكاظمي في مطار “مهر آباد”، قبل أن ينظم له الرئيس الإيراني، حسن روحاني، حفل استقبال رسمي في مجموعة قصور “سعد آباد”. من حيث بروتوكول الاستقبال بمستوى رئيس دولة، حين حرص أن تجرى مراسم استقبال رسمية للكاظمي وهو ما يحصل للمرة الأولى برغم أن كل رؤساء الوزراء العراقيين السابقين بعد عام 2003 ما عدا إياد علاوي، كان يجري استقبالهم رسميا من قبل نائب الرئيس الإيراني برغم علاقات بعضهم المتميزة مع إيران مثل إبراهيم الجعفري ونوري المالكي.
وكان مقررا أن تكون الرياض أول من أمس المحطة الأولى في جولة الكاظمي الخارجية لكن دخول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز المستشفى لإجراء فحوصات، أملى إرجاء الزيارة باتفاق مع بغداد إلى ما بعد خروج الملك سلمان من المستشفى لإعطائها المكانة التي تستحقها.
ميزة أخرى خصت طهران الكاظمي بها إذ أعلن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في بغداد الأحد الماضي أن خامنئي وبسبب جائحة «كورونا» لم يستقبل منذ 5 أشهر أي مسؤول إيراني ما عدا الرئيس حسن روحاني لكنه سوف يستقبل الكاظمي، وسيكون مع الكاظمي وزير عراقي واحد هو نائب رئيس الوزراء وزير المالية علي عبد الأمير علاوي.
ويأتي هذا الاهتمام الإيراني الكبير بزيارة الكاظمي جراء تصاعد الصراع الإيراني الأميركي في العراق منذ اغتيال قائد “فيلق القدس”، مطلع العام الحالي في ضربة جوية أميركية في بغداد، كما أن ذلك مدفوع بمخاوف إيرانية من سياسات الكاظمي وتوجهاته، حيث إنه لم يكن المرشح الإيراني المفضّل، لكنه كان مرشح “الاضطرار”، في توقيت، تلقت فيه السياسة الإيرانية في المنطقة عموماً، وفي العراق خصوصا، ضربة بعد اغتيال سليماني وأهم الشخصيات الحليفة لها، أي أبو مهدي المهندس، مما وضعها أمام تحديات جسام، تحاول جاهدة تجاوزها.
وكان الكاظمي قد التقى الثلاثاء المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني. وفيما بدا كلا البلدين يسعيان إلى تخفيف حدة التوتر السياسي بينهما من خلال التأكيد على علاقاتهما التاريخية وإعلان الكاظمي بأن العراق لن يسمح بأي تهديد لإيران انطلاقا من أراضيه ولا أن يكون في الوقت ذاته ساحة معركة بين واشنطن وطهران.
كما قال الكاظمي في مؤتمر صحافي مع الرئيس روحاني بثه التلفزيون الرسمي الإيراني على الهواء مباشرة، إن شعب العراق يريد علاقات طيبة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية مبنية على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين.
وأكد الكاظمي خلال لقاءاته الثلاثاء على أن “الشعب العراقي محب وتواق للتعاون الثنائي والمتميز، وفق الخصوصية التي يمتاز بها كل بلد، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية”.
وأوضح “سياستنا مبنية على حسن النية في التعامل مع الجيران، والتفاهم لإخراج المنطقة من أزمة التوترات، والعمل الشامل للوصول إلى حل شامل لكل التحديات”.وأفاد بأن “علاقتنا الخارجية تعتمد على مبدأ التوازن والابتعاد عن أي محاور”.
وبدا واضحا أن جدول الأولويات بين الطرفين يختلف بشأن أهداف زيارة الكاظمي بين رغبة إيرانية في رفع مستوى التبادل التجاري ورغبة العراق في خلق موازنة في علاقاته الخارجية طبقا لمصلحته الوطنية.
ففي مؤتمر صحافي مشترك عقده مع روحاني، قال الكاظمي إن الشعب العراقي «محب وتواق للعلاقات مع إيران وفق مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية».
بدوره، أشاد روحاني بحركة التجارة بين البلدين، خلال هذه الفترة، لافتا إلى أن مباحثاته مع الكاظمي شملت هذا الجانب، مجددا دعوات سابقة لبلاده لرفع مستوى التبادل التجاري مع العراق إلى 20 مليار دولار سنويا. وأشار روحاني إلى إبرام اتفاقيات بين طهران وبغداد خلال فترة رئيس الوزراء العراقي السابق، عادل عبد المهدي لتجريف شط العرب وإقامة سكة حديد بين حدود الشلامجة والبصرة.
وأضاف روحاني «ناقشنا في مباحثات اليوم القضايا المتعلقة باستقرار المنطقة والدور الذي يمكن للعراق أن يلعبه باعتباره بلدا عربيا قويا في المنطقة».
وفيما يبدو جدول الأولويات الإيرانية اقتصاديا بسبب ما تعانيه من تدهور خطير لعملتها الوطنية (التومان) فإن جدول الأولويات العراقية يذهب بعيدا في الجانب السياسي لجهة أن يلعب العراق دورا متوازنا في المنطقة وألا يبقى ساحة لتصفية الحسابات بين واشنطن وطهران. الخبراء العراقيون المتابعون للشأن السياسي لديهم رؤيتهم في هذه الزيارة والجولة الإقليمية والدولية للكاظمي، وما يمكن أن تترتب عليها من تداعيات سياسية في المستقبل. وفي هذا السياق إن هذه الزيارة لها عدة أبعاد منها أن الكاظمي يريد أن يثبت أن العراق يريد أن يكون منصة للتوازن في علاقاته الخارجية على أساس السيادة والمصالح المشتركة، كما أن لها بعدا آخر وهو أن الكاظمي ينطلق باتجاه تدعيم فكرة أنه رجل التوازنات الصعبة بالإضافة إلى وجود أبعاد سياسية مختلفة لجهة استمرار التعاون بين بغداد وطهران». وأن «هذه الزيارة لها أبعاد داخلية، حيث يحاول الكاظمي أن يثبت مبدأ أنه ليس بالضد من إيران، لا سيما أن هناك جهات سياسية، وخصوصا الفصائل المسلحة، تحاول أن تدفع بفكرة أن الكاظمي يمكن أن يكون بالضد من إيران».
إن الموقف التصعيدي الذي سمعه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في شأن الوجود الأميركي في العراق، وأن إيران لن تتردد في استهداف هذه القوات انتقاماً لمقتل قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني، من المرشد الأعلى للنظام الإيراني آية الله علي خامنئي، خلال اللقاء الذي جمعهما في طهران، لم يمنع الكاظمي من أن يكون أكثر إصراراً ووضوحاً في تأكيد الثوابت العراقية في العلاقة التي تتطلع إليها حكومته مع الجانب الإيراني في المرحلة المقبلة. ويسعى الكاظمي لعلاقة سليمة تُبعد بلاده عن الاستقطاب بين محوري الصراع الأميركي والإيراني على أرضه وعلى حساب استقرار العراق وجهوده للخروج من الأزمات المتراكمة على مختلف الصعد الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
وعلى الرغم من تشابه النقاط والعناوين التي حملها الكاظمي إلى طهران ولقاءاته مع المسؤولين الإيرانيين مع تلك التي سبق أن حملها أسلافه في رئاسة الوزراء العراق السابقون، إلا أن ما حظيت به هذه الزيارة من اهتمام في البلدين وإقليمياً ودولياً، يجعل منها زيارة تأسيسية في مرحلة مفصلية في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين وصولاً إلى الآثار التي من المتوقع أن تشمل المنطقة ودول الجوار.
وإذ سبقت زيارة الكاظمي إلى طهران سلسلة مواقف وضع بعضها قيد التنفيذ، من المفترض أن تسهم هذه الزيارة في التأسيس لمرحلة جديدة من التعاطي والتعامل الإيراني مع العراق تختلف عن المرحلة السابقة في المضمون والجوهر، وأن تخرج عن الشكليات والوعود غير العملية، خصوصاً في ما يتعلق بمسألتي المعابر الحدودية والميليشيات المتفلتة التي تزعزع قبضة الدولة. إضافة إلى قضية استراتيجية تركز على “تحييد” العراق عن الصراعات الإقليمية والدولية.
يمكن القول إن الكاظمي استطاع، في موازاة الكلام التصعيدي لخامنئي، انتزاع موقف واضح وصريح ومباشر من أعلى سلطة في النظام الإيراني بدعم تطلعات الحكومة العراقية من أجل بناء دولة قوية ذات سيادة على قراراتها. وما يعنيه ذلك من حصر السلاح بيد الدولة ومؤسساتها العسكرية الرسمية، فضلاً عن وضع حد لما تقوم به الميليشيات المحسوبة على إيران من هيمنة على المؤسسات الاقتصادية، لا سيما المنافذ الحدودية، وتحويلها إلى مقاطعات تصادر عائدات الدولة المالية لحسابها الخاص.
ومن غير المستبعد أن تبدأ الترجمة العملية لهذه التوجهات والتفاهمات بالظهور في المرحلة المقبلة، وأن تنعكس إيجاباً على دور الحكومة في فرض سيادتها، وأن يكون المدخل لهذا التعاون مضي الكاظمي في محاصرة وتفكيك الميليشيات التي تقوم بزعزعة الأمن والاستقرار، والتي تستفيد من غطائها “الولائي” للنظام الإيراني في إرباك العملية السياسية الداخلية بهدف الإبقاء على الفوضى التي تضمن لها الحفاظ على مصالحها.
رغبة الكاظمي في تحقيق أحد أبرز بنود رؤيته للمرحلة الانتقالية التي جاء لقيادتها بعد الأزمة التي عاشها العراق في عهد أسلافه وحركة الاعتراض الشعبي الواسعة التي شهدتها مدن العراق، تلتقي مع رغبة لدى النظام الإيراني في الحد من التصرفات غير المنضبطة والمتفلتة التي تمارسها بعض الفصائل المسلحة أو الميليشيات التي تضيف عبئاً إلى الأعباء والأزمات التي تواجهها طهران على الساحة العراقية.
وبدت رسائل رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الموجهة إلى النظام الإيراني خلال زيارته إلى هذا البلد أكثر وضوحا مع تأكيده على أنه يجب احترام قضايا كل بلد وعدم التدخل في شؤونه الداخلية، في إشارة إلى يد طهران الممدودة في الساحة العراقية وهو الملف الذي توقع المراقبون أن يكون على رأس أجندة لقاءات الكاظمي مع الزعماء الإيرانيين.
وقال الكاظمي، خلال لقائه برئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف الأربعاء في طهران، إن العلاقات بين العراق وإيران “يجب أن تكون على أساس المشتركات بينهما” مؤكدا على أنه “يجب احترام القضايا الخاصة وعدم التدخل بالشؤون الداخلية”.
وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي، إن اللقاء بين الكاظمي وقاليباف الأربعاء تناول “بحث سبل تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات، وتناول مُجمل الأوضاع الثنائية والإقليمية وتأثيراتها على العراق وإيران”.
ولعل النتيجة الأهم التي أثمرت عن زيارة الكاظمي إلى طهران وسلسلة اللقاءات العلنية وغير العلنية، المدنية والأمنية والعسكرية، التي عقدها مع أعلى المسؤولين في النظام تكمن في وضع إطار تفاهم حول قضية وجود القوات الأميركية على الأراضي العراقية. إذ يبدو من الأجواء المرافقة للزيارة، وما رشح من حوار بين الكاظمي والمرشد الإيراني، عدم وجود موقف إيراني حاد من المحادثات الاستراتيجية القائمة بين بغداد وواشنطن، وأن طهران اكتفت بالتمني على الجانب العراقي التمسك بمبدأ السيادة العراقية الكاملة من خلال الحد من نفوذ هذه القوات في الشأن الداخلي العراقي. ما يعني أن القيادة الإيرانية لمحت إلى مدى تفهمها الحاجات العراقية، لكنها قد تقبل بأن تذهب مخرجات هذه المحادثات إلى تقليص وجود هذه القوات إلى الحد الأدنى الممكن من دون أن تكون ذات فعالية تسمح لها بفرض أمر واقع ميداني على الحكومة وقراراتها. وأن طهران لن تتأخر أو تتردد في تأكيد التزامها بدعم توجهات الكاظمي في تعزيز سيادة الدولة العراقية ووحدة أراضيها، بما يعنيه ذلك من التأسيس لإحداث نقلة نوعية في أسلوب التعامل بين الطرفين وتعزيز الأطر الرسمية لهذه العلاقات في إطار المؤسسات الرسمية للدولتين بما يخدم الأهداف المشتركة.
منذ تسلّم الكاظمي رئاسة الوزراء في 7 أيار/ مايو الماضي، فالقرارات التي اتخذها على المستوى الداخلي، ومخرجات زيارته الأولى لإيران، يتضح بما لا يقطع مجالًا للشك، أن الكاظمي يسير في طريق يعشقه كعشق نهر الفرات لأرض العراق ألا وهو طريق غرس هيبة الدولة العراقية في الداخل والخارج. هذا الغرس النابع من حس المسؤولية الوطنية المخلصة لتراب العراق.
وحدة الدراسات العراقية