باتت جثامين العراقيين تُكدَّس داخل مقبرة واحدة يطلق عليها اسم “وادي السلام الجديدة”، أو “مقبرة كورونا”، حيث تختفي الطائفية إذ يدفن الجميع من كل الأديان والمذاهب جنبا إلى جنب.
بغداد – لا توجد إشارات على الطريق المؤدي إلى مقبرة وادي السلام الجديدة أو كما يسميها العراقيون “مقبرة كورونا”، ولكن ليس من الصعب العثور عليها: فقط اتبع السيارات. إنه المكان الوحيد الذي تتجه إليه على الطريق الصحراوي الوعر.
تم إنشاء هذه المقبرة الواقعة في جنوب العراق قبل أربعة أشهر. والآن تحوي أكثر من 3200 قبر، ولا تزال الحفارات تعمل كل ليلة لشق أخاديد جديدة في التربة الرملية.
وأعلنت وزارة الصحة العراقية الثلاثاء 4 أغسطس تجاوز إجمالي عدد الوفيات في البلاد منذ بداية ظهور الفايروس الـ5 آلاف حالة.
وقبل مدة قصيرة كان الحصول على قبر أكبر أحلام العراقيين، بسبب رفض المدافن الرسمية والسكان استقبال جثث ضحايا فايروس كورونا، لاعتقادهم بأنها من مصادر العدوى، مما أدى إلى تكدس الجثث في ثلاجات الموتى.
وتأسست المقبرة بأمر من المرجعية الدينية علي السيستاني، وهي صغيرة جدا بالنسبة لمقبرة وادي السلام القريبة، الأكبر في العالم.
ومقبرة وادي السلام هي الأضخم في العالم على الإطلاق. يقدر عدد القبور فيها بأكثر من خمسة ملايين، ويوجد فيها مرقد الإمام علي بن أبي طالب.
وتتجاوز مساحة المقبرة الواقعة في محافظة النجف 10 كيلومترات مربعة.
وتسود حالة من القلق الشديد خوفا من فقدان السيطرة في العراق.
ويواجه العراق الفايروس اليوم بعدد قليل من الأطباء والمستشفيات التي أنهكتها الحروب المتتالية.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، في العراق 14 سريرا في المستشفى لكل عشرة آلاف نسمة، ومن باب المقارنة، فإن فرنسا التي غلب الفايروس نظامها الصحي، تملك سريرا لكل 60 شخصا.
طقوس كوفيد – 19
يقول طاهر الخاقاني، المشرف العام على ميليشيا كتائب الإمام علي القتالية، واحدة من أوائل الميليشيات التي تشكلت لمحاربة تنظيم داعش، “بدأت أرى هذه المشاهد على شاشات التلفاز، مازلت أذكرها، عندما ألقيت سبعة أو ثمانية جثامين خارج مشرحة المستشفى وتركت هناك”.
وترتبط فرقة الإمام علي برجل الدين الشيعي آية الله العظمى علي الحسيني السيستاني.
من هنا جاءت الفكرة إلى الخاقاني بأن الحل يكمن في بناء مقبرة جديدة مخصصة لمن ماتوا بسبب فايروس كورونا. وتشاور بشأن المقترح مع محافظ النجف والسيستاني ورئيس ديوان الوقف الشيعي في العراق، المسؤول عن جميع الأمور المالية والعقارية الشيعية.
وفي غضون أيام حصلوا على رقعة أرض مساحتها 1500 فدان على بعد 20 ميلا من مدينة النجف، مخصصة لدفن ضحايا كورونا.
وتطوعت فرقة الإمام علي القتالية لإدارة المقبرة. وتولت فرقها الطبية مهمة استقبال الجثامين، وتطهير أكياس الجثث التي وصلوا فيها، ثم غسل الموتى.
وتولت مجموعات أخرى مسؤولية حفر القبور ودفن الموتى، فيما قام آخرون بدور المرشدين لمساعدة أفراد الأسرة عندما يأتون إلى المقبرة للعثور على قبور أقاربهم، من بين الآلاف من القبور الممتدة في قلب الصحراء. مع العلم، أن الزيارات العائلية يسمح بها بعد انقضاء 10 أيام من الدفن.
واكتسب المسعف العراقي سرمد إبراهيم خبرة أثناء علاج المقاتلين العراقيين في الحرب على داعش، لكنه الآن يدفن ضحايا فايروس كورونا وهي مهمة مرهقة تتطلب منه التعامل مع طقوس دفن إسلامية ومسيحية.
مقبرة كورونا تأسست بأمر من المرجعية الدينية علي السيستاني، وهي صغيرة جدا بالنسبة لمقبرة وادي السلام، الأكبر في العالم
وقال إبراهيم، بينما كان متطوعون من كتائب الإمام علي يستعدون للتعامل مع نعش وصل للتو من بغداد، “حتى الآن، نتعامل مع الوضع، لكن إذا بدأنا في استقبال المزيد من الجثث، فقد لا نتمكن من الدفن وفقا للقواعد الدينية”.
وكان إبراهيم ورفاقه انضموا إلى أحد الكتائب التي تحارب داعش قبل عدة سنوات، إلا أن هذا العدو مختلف تماما، فإن هذا العمل يستنزفهم جسديا ونفسيا.
وعادة ما تصل الجثث أثناء الليل، ويقوم المتطوعون، الذين يرتدون سترات واقية كاملة، بأعمال الغسل والتكفين في أغطية سوداء قبل إعادة الجثث إلى التوابيت، ويحملون التوابيت إلى القبور على أضواء المصابيح الأمامية لسياراتهم.
وأشار أحد أفراد الفصائل المسلحة ويدعى أبوسجاد (46 عاما) إلى أن الفريق عندما يواجه نقصا في عدد المشاركين في دفن الضحايا فإنه يضطر لطلب المساعدة من الأصدقاء أو من مقاتلين آخرين، مضيفا أنه يخشى أن يصاب أحدهم بالفايروس فيتلقى اللوم من أقاربه.
ولم يخبر أبوسجاد عائلته بأنه يعمل في المقبرة وقال إن أصدقاءه الذين يعلمون بالأمر مترددون في لقائه.
وكانت بعض العشائر وكبار رجال الدين المحليين رفضوا دفن الضحايا في المقابر المحلية، وهو من أسباب حفر المقبرة الجديدة.
وقال قائد فريق الدفن عبدالحسن كاظم “رجعوهم إلى الثلاجات وبقوا فيها 15 يوما تقريبا وصار الدفن عشوائيا في بعض المناطق… يدفنونهم دون غسل ودون تجهيزات شرعية”.
وينقل تقرير لصحيفة الإندبندت عن مصادر أن هناك توجيهات بأن تفتح المقبرة، ولو كان الشيعة هم الذين يديرونها، أبوابها لاستقبال الموتى على اختلاف عقائدهم وأطيافهم، وأن يكون الدفن بالمجان، دون تحميل ذوي الموتى أي تكاليف.
ويتحدث آري ساهاك ديرتال، وهو مسيحي أرمني يبلغ من العمر 33 عاما، عن الألم الذي لا يزال يشعر به منذ دفن والده يوم 1 يوليو. يقول “ذهبت على الفور إلى الكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية في بغداد؛ لأنني كنت أعرف أن والدي يريد أن يدفن هناك، لكني فوجئت عندما قالوا إنهم لا يستطيعون دفنه هناك”. فما كان منهم إلا أن توجهوا بالجثمان إلى “مقبرة كورونا”. وفي الطريق إلى هناك، أجرى الابن بعض الاتصالات على عجل لمعرفة الصلوات التي يتعين عليهم تلاوتها أثناء الدفن. يقول إنه مازال يشعر بغُصَّة في حلقه لأن أحدا من الكنيسة الأرمينية الأرثوذكسية لم يرافقه لمواراة أبيه الثرى.
وعند وصوله إلى المقبرة، استقبله الشيوخ المسؤولون عنها، وأخبروه بأن والده يمكن أن يُدفَن في أي مكان. فقال لهم “أريد أن يكون قبر والدي بعيدا عن الآخرين. وبالفعل دفن على بعد كيلومتر من قبور المسلمين”.
ويقول الابن إن متعهدي الدفن بذلوا قصارى جهدهم من أجل تكريم والده، وأرسلوا له شريط فيديو يوثق مراسم الدفن، حتى أن أحد أفراد الطاقم الطبي الشيعي كان يرتدي ملابس واقية ويشير بعلامة الصليب على جثة والده.
وهذه الطقوس مألوفة أكثر للمسلمين السنة، وبالتالي كانت لحظة الوداع أسهل، وأكثر حميمية. دُفِن المئات من المسلمين السنة هنا، لكن الدفن بعيدا عن المنزل لا يزال صعبا. لم تقبل المقبرة السنية الرئيسية في بغداد استقبال جثة والد المرتضى أحمد جاسمين، على الرغم من أنها تواري جثامين جميع أفراد أسرته”.
ويقول المرتضى البالغ من العمر 22 عاما “طوال الطريق إلى مقبرة وادي السلام الجديدة، كنت أناجي والدي وأقول له: سامحني لأنني لم أستطع تنفيذ وصيتك بأن تُدفَن وسط الراحلين من أبناء عائلتك”. ولكن بعد وصوله إلى المقبرة، ذهب كل التعب والغضب؛ لأنه وجد “مقبرة نموذجية”، على حد وصفه، وكان بمقدوره زيارة والده في أي وقت.
وأضاف “شعرت بارتياح كبير، وقلت في نفسي لا بد وأن الله يحب والدي لأنه اختار له هذا المكان ليدفن فيه”.
العرب