لم يكن زلماي خليل زاد، المبعوث الأميركي إلى أفغانستان، يدرك أن عملية إطلاق سراح مسلحين من حركة طالبان الجهادية في إطار عملية تفاوضية طويلة قد تجلب للبلد المدمر والباحث عن الحرية المزيد من الهجمات والإرهاب والتعقيدات في طريقه لرسم السلام بعد الصعود المثير للقلق لتنظيم الدولة الإسلامية وتنافسه الشرس مع حركة طالبان على الزعامة والأرض والسلطة خاصة في مناطق شرق البلاد.
القاهرة – اختار تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان أكثر الرسائل دموية وربحا للوقت لإثبات حضوره في قلب المعادلة الأفغانية في ظل تحركات حثيثة داخلية وخارجية لإخراج البلد الغارق في الفوضى إلى طريق السلام الذي تتحسسه على حد سواء السلطات المحلية وحركة طالبان الجهادية صاحبة التاريخ الجهادي الطويل.
بعث فرع التنظيم المتشدد في أفغانستان “ولاية خراسان” رسالة مفادها أن “ما تحصل عليه حركة طالبان بالسياسة وعبر موائد المفاوضات يحققه هو بالعنف وقوة السلاح”، بعد أن بدأ بتنفيذ خطة محكمة لهدم الأسوار وتحرير سجنائه بالقوة المسلحة.
وتزامن توجيه تنظيم الدولة الإسلامية أنصاره في أفغانستان لاقتحام السجون وتحرير أسراه مع البدء في تنفيذ بنود اتفاق الدوحة، الذي أبرم في فبراير الماضي، والخاص بإطلاق حكومة كابول سجناء طالبان، ما عكس عزم داعش على ألا يقف متفرجا أمام الانتصارات السياسية للحركة دون أن يحرز نصرا بأدواته الخاصة.
ووافقت السلطات في كابول على إطلاق سراح 400 من سجناء طالبان في إطار تمهيد الطريق لمحادثات سلام أوسع لوقف إطلاق النار وبدء صفحة جديدة من السلام في البلاد.
وسعى تنظيم الدولة الإسلامية من عملية اقتحام عناصره للسجن المركزي، في جلال آباد شرق أفغانستان في الثاني من أغسطس، إلى إرسال رسائل، حيث أدت عملية الاقتحام إلى فرار خمسمئة سجين من أصل ثمانمئة، من بينهم ثلاثمئة داعشي والباقي معظمهم ينتمون لطالبان.
ويقول الإعلام التابع لتنظيم الدولة الإسلامية وحسابات عناصره على تليغرام إن الهدف الرئيسي من العملية هو مناكفة طالبان والتقليل من شأن ما أحرزته من مكاسب في ملف تبادل الأسرى بعد الاتفاق مع واشنطن.
وقارن قادة التنظيم المتشدد بين سجناء محررين بجهود طالبان يُطلب منهم تقديم ضمانات عدم القتال مجددا والتوقيع على شرط عدم حمل السلاح، وآخرين مُحررين بجهود داعش في حِل من تلك الضمانات والشروط.
صدام المشروعات
يعمل تنظيم الدولة الإسلامية بكل قوة على إثبات عدم تأثير منجز طالبان التفاوضي على مكانته بالنظر لإحراز الثانية مكاسب ملموسة، خاصة في ملف الأسرى في حين يقبع قادته وعناصره في السجون، ما يعد إحراجا له وقصفا عمليا لما يروجه بشأن عدم جدوى السياسة والمفاوضات، لذلك كثف عناصره من التشويش على مكاسب طالبان بالتزامن مع محاولات تحقيق مثيلاتها بقوة السلاح.
وخاطب تنظيم داعش أعضاء طالبان للمفاضلة بين حركة تعرضهم لمذلة التوقيع على شرط ترك الجهاد والتخلي عن السلاح، مقابل ما منح التنظيم لسجناء طالبان الفارين في الهجوم الأخير من حرية دون شروط.
وكان تنظيم الدولة الإسلامية، من عملية مهاجمة السجون، يهدف إلى استقطاب عناصر من صفوف سجناء طالبان الفارين في هذا التوقيت لتعويض رأس ماله البشري المستنزف بعد خسارته الآلاف من المقاتلين والعشرات من القادة مؤخرا، إضافة إلى تهريب من لهم خبرة والقادرين على شن هجمات جديدة في مرحلة تبدو مختلفة عن سابقاتها.
ويعتقد قادة فرع داعش في أفغانستان أن امتلاك طالبان لنفوذ أعلى على حساب الحكومة المحلية وراءه دفع أميركي وُظف فيه التهديد بقطع المساعدات عنها للتعجيل بالإفراج عن سجناء طالبان، ليس فقط لإنجاح الاتفاق وإتمامه، إنما لتمكين الحركة من إحراز ما عجزت عنه الحكومة وهو القضاء على داعش وتقويض مشروعه المُهدِد لخطة السلام في أفغانستان وتداعياتها على المصالح الأميركية.
واستفاد داعش من تعطل اتفاق الدوحة بين واشنطن وطالبان نتيجة الخلاف على عدد من الملفات، أبرزها ملف الأسرى، ما أدى لانشغال طالبان والقوات الحكومية بمهاجمة أحدهما للآخر، بما حال دون التعاون بينهما والتفرغ لمواجهة الخطر المشترك، وهو خطر فرع تنظيم الدولة في أفغانستان.
ولم يكن الوضع الحالي بمفرداته في صالح الولايات المتحدة التي خططت للخروج من أفغانستان مع وضع حليف يؤمن لها مصالحها في المنطقة، ويسمح استمرار النزاع بين حكومة كابول وطالبان للأخيرة بالتمادي في فرض أمر واقع من غير التقيد باتفاقيات وعهود أبرمتها مع واشنطن، مستغلة ضعف الحكومة الأفغانية ورغبة الإدارة الأميركية الملحة في سحب قواتها من أفغانستان بسلام.
وعملت واشنطن لذلك على إخراج المشهد في صيغته التفاوضية والتوافقية بين الحكومة وطالبان لجني مكاسب، في مقدمتها إلزام الحركة بوصفها القوة الأكبر حاليًا في المشهد بعدم السماح لأي من عناصرها أو عناصر القاعدة أو أي أفراد ضمن تشكيلات أخرى في الداخل باستخدام الأراضي الأفغانية لتهديد أمن الولايات المتحدة وحلفائها.
وتسببت حنكة داعش في جعل طالبان أضحوكة التنظيمات الجهادية على خلفية اتفاقها مع واشنطن، وضاعف من حرص الأخيرة على تمكين طالبان من الصعود كطرف فاعل يمتلك كل أدواته السياسية والأمنية والإعلامية، ما يمنحه القدرة على لجم حركات التمرد المعادية للولايات المتحدة والغرب.
يقول زلماي خليل زاد، الممثل الأميركي للمصالحة الأفغانية، إنه بعد 40 عاما من الحرب أصبحت الفرصة التاريخية لإحلال السلام ممكنة ومن شأنها إفادة الأفغان وتحقيق الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي، لكن في المقابل هناك من لا يرى ذلك ممكنا في ظل المنافسة الشرسة بين الحركات الجهادية.
فالولايات المتحدة سعت إلى التأسيس لسلام دائم في أفغانستان لإنهاء أطول صراع مسلح في تاريخ الولايات المتحدة من خلال قبول جماعة متطرفة طرفا سياسيا، بل ربما تصبح لها الغلبة عقب انسحاب مجمل القوات الأجنبية نظرا لقوتها على الأرض، في سبيل تفكيك المعضلة الأكبر التي نجمت عن تطورات هذا الصراع الطويل بإعلان مجموعات منشقة عن طالبان وغيرها الولاء لتنظيم داعش منذ خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين تحولت ببطء إلى تهديد في شرق أفغانستان الجبلي، وصولًا إلى العاصمة كابول.
تعي الولايات المتحدة التغييرات التي طرأت على الحركات الراديكالية المسلحة والتباينات بينها، حيث لا يعد فرع داعش في أفغانستان مجرد رقم بجانب غيره من الحركات الإسلامية لاحتواء مجموعات هاربة ومشتتة، إنما ككيان فائق الخطورة انتقل من أجل الثأر ممن دمروا دولة خلافته في العراق وسوريا عبر حرب جوية مكثفة، امتدت من منتصف عام 2014 إلى بداية عام 2018، ما أسفر عن مقتل حوالي ستين ألفًا من أنصار تنظيم الدولة وقادته وعدة آلاف من المدنيين.
ويتوقع أن يتحول المشهد في أفغانستان إلى ما يشبه انطلاقة داعش في العراق وسوريا، خاصة بعد نجاحات التنظيم في تأسيس خلافة بدائية في ولايات ننجرهار ونورستان وكونار ولجمان في شمال شرق البلاد بين كابول والحدود الباكستانية.
وعلى النقيض من طالبان، التي تتسم بالمحلية، هيمن تنظيم الدولة الإسلامية على بعض الولايات باعتبارها خطوة ضرورية لاستعادة نشاطه العملياتي ضد “العدو البعيد” في الغرب.
وعمل التنظيم المتطرف على بسط نفوذه في غالبية أفغانستان متذرعا بمزاعم مفادها أن الولايات المتحدة لم تنسحب إلا خوفا من مواجهته وأن حركة طالبان غير مستحقة لحكم “أفغانستان المسلمة” لأنها لن تحكم بالشريعة والمطلوب منها التوافق مع المكونات الأخرى. ووضع التنظيم أفغانستان كمركز لبناء شبكة القاعدة السابقة في جميع أنحاء جنوب شرق آسيا لحسابه، فضلا عن التمدد نحو باكستان والهند وآسيا الوسطى بغرض استخدام تلك الساحات الاستراتيجية للتخطيط والإعداد لعمليات خارجية ضد المدن الغربية.
تعوض أفغانستان بالنسبة لتنظيم الدولة الإسلامية انهيار المخيال المقدس، الذي جذب به الآلاف من المغرر بهم من جميع أنحاء العالم إلى أرض الخلافة المزعومة بالشام والعراق، حيث تجسد الأرض الأفغانية رواية بديلة مستندة إلى أحاديث منسوبة إلى النبي محمد (ص) جعلت تلك المنطقة ساحة سيتجمع فيها “المؤمنون من الطائفة المنصورة رافعين راياتهم السوداء استعدادا للزحف في اتجاه بيت المقدس”.
ويروج تنظيم الدولة الإسلامية لخراسان، التي تحتل مكانة دينية خاصة لدى الجهاديين حول العالم لورودها في نبوءة حديثية أخرى متعلقة بأحداث آخر الزمان، بدلا من رواية تجمع أصحاب الرايات السود في دابق القرية الواقعة بريف حلب شمال غرب سوريا.
ويعكس إعلان تنظيم الدولة عن نفسه عبر عملية هدم الأسوار وتحرير سجنائه بالقوة تزامنا مع بدء تنفيذ بنود اتفاق الدوحة تنافسية متعددة الأبعاد بين التنظيم وطالبان داخل الساحة الأفغانية.
ويسعى التنظيم لاقتناص رمزية نبوءة آخر الزمان لتأسيس خلافة بديلة تضم أفغانستان وباكستان والهند وروسيا وجميع جمهوريات آسيا الوسطى التي حملت اسم خراسان تاريخيا.
وتتعامل حركة طالبان في المقابل كأنها الحاكم الشرعي للحدود الأفغانية من واقع سيطرتها السابقة على مقاليد الحكم في البلاد وبعد انخراطها في حملة مدروسة لتقويض الحكومة المحلية وتوقيعها اتفاق الدوحة مع واشنطن حيث تتهيأ لاستعادة السيطرة على السلطة في غضون سنوات.
وستصبح أفغانستان، في ظل غياب الحكومة عن حاضرها ومستقبلها وبعد إتمام انسحاب القوات الأميركية، أسيرة لمشروعين متنافسين حيث لن تقبل حركة طالبان، التي تتسم بالحرباء والمراوغة السياسية في غيابها، بينما يزايد عليها تنظيم أشد تطرفا وأكثر وحشية.
ويطل كابوس جديد على سكان البلد المسكون بشبح الحرب، حيث يخشى الأفغان حربا أهلية جديدة على غرار تلك التي أعقبت انسحاب الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثين عاما تتراجع على وقعها قضايا الشعب العادلة وأحلامه في الحرية والازدهار والاستقرار وتوفر بيئة صراع مواتية لمن يسعى لينشب مخالب تطرفه ورجعيته في أفغانستان وفي جميع أنحاء المنطقة.
العرب