أمريكا والنظام السوري.. عصا بشار وجزرة أوباما

أمريكا والنظام السوري.. عصا بشار وجزرة أوباما

169

عام 2011، انتفض العرب وقادوا حملة شعبية عربية للتغيير، وقف جموع المحتجين في أشهر الميادين العربية يهتفون حرية ويتنفسون كرامة، سلاحهم لافتة تلعن الفساد وقميص يفضح الاستبداد.

هزمت جموع المتظاهرين السلميين أقوى الأنظمة العربية وأشدها بأسًا، وتدخل العالم ضد الأنظمة التي رفعت السلاح فتنحى الجميع عن الحكم، عدا نظام واحد أعلن منذ اللحظة الأولى بأنه باقٍ في السلطة وأن صوت الشعب مجرد ذبذبات مزعجة لسيادة الرئيس ينبغي استخدام كل أشكال القوة للتخلص منها.

بدأ الأسد مواجهة الثورة السلمية بالعتاد العسكري، وحمل جيش المقاومة المزعوم سلاحًا كان يخبر الجميع أنه سيقاتل به العدو الذي يدندن النظام السوري بشرف مقاومته كما يزعم. لم يكن الشعب السوري أو العرب يحسنون قراءة مصطلحات الممانعة؛ فالعدو هو “الشعب” والصديق هو كل من يقف مع هذا النظام المتجبرت في حملة القضاء على البشر التي دشنها الأسد مع أول صرخة ثائر قال “ارحل ارحل يا بشار“.

أعداء الممانعة (أصدقاؤها بلغة المقاومة) اكتفوا بالكثير من التصريحات المتضاربة والقليل من الأفعال الحقيقية. أعداء بشار -كما يزعم- حملوا دومًا راية الوصاية على البشر فقاتلوا وجهزوا الجيوش من أجل قضايا لم يُكتب لها أن تسير وفق رؤية العم سام؛ إلا أنهم -ويا للعجب- في الشأن السوري ورعون عن التدخل، متعففون عن إقحام أنفسهم كما عودونا، وكانوا في هذه القضية بالذات دبلوماسيين للغاية، وضاقت أروقة مجالس الأمن والمحاكم الدولية، واختفت من قائمة أولوياتهم عمليات حشر الأنف التي يمارسونها منذ القدم.

بدأت الثورة السورية بشعار كتبه صبية سوريون في الثالث من مارس عام 2011 على أحد جدران مدينة درعا، وهو شعار المرحلة وصوت الشعب الذي اكتسح العالم العربي آنذاك: “الشعب يريد إسقاط النظام“. تم اعتقال الصبية ورفض الأمن الإفراج عنهم، ويروي الناشطون السوريون كيف تهكم رئيس الأمن حينها بالآباء واستخف بأعراضهم عندما قال: “انسوا أولادكم واذهبوا لنسائكم وأتوا بأولاد غيرهم، وإذا لم تستطيعوا ذلك أحضروا النساء لنقوم نحن بذلك“؛ فاشتعلت درعا وخرجت الاحتجاجات في كل المدن السورية بعد ذلك. بدأت الثورة في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما واستمرت طيلة فترتي رئاسته، التي شارفت على نهايتها.

ورغم تسويق النظام السوري وحلفائه للعداء الأمريكي ونظرية تآمر الكون بقيادة الولايات المتحدة عليه؛ إلا أن الواقع يقول غير ذلك. تتبعتُ منذ عام 2011 مواقف وتصريحات أوباما وإدارته من الثورة السورية وسأقدّمُ لكم هنا أبرزها، بتسلسلها الزمني، الذي سيكشف أن أوباما وضع جزرة في عصا بشار وبدأ منذ اللحظة الأولى للثورة السورية ممارسة لعبة الموت البطيء التي تجرعها ولا زال يتجرعها السوريون:

عام 2011: البحث عن العصا

جاءت بداية الثورة السورية في وقت محرج للغاية للولايات المتحدة؛ حيث شرعت الدول الغربية في التدخل في ليبيا للقضاء على نظام القذافي، فتوقع الجميع مصيرًا مشابهًا للأسد، لكن ذلك لم يحدث، مع أن الأسد وجد أنصارًا دعموه منذ الشهر الأول للثورة السلمية كحزب الله وإيران، ومن ثم روسيا.

وبررت هيلاري كلينتون، وزيرة خارجية الولايات المتحدة، تضارب الموقف الأمريكي بين قضيتين متشابهتين (ليبيا وسوريا) قائلة: “هناك فرق بين استخدام الطائرات وإطلاق النار عمدًا وتدمير المدن داخل الوطن الواحد، وبين استخدام الشرطة للقوة المفرطة بصورة تتجاوز توقعاتنا جميعًا“.

لم تقم الولايات المتحدة بأضعف الإيمان فيما يخص العلاقات الدبلوماسية، وهو سحب السفير، مع تزايد قمع النظام السوري للمتظاهرين السلميين عام 2011، وصرح حينها مسؤول كبير بوزارة الخارجية الأمريكية لصحيفة الشرق الأوسط في 10 مايو أنه لا توجد أي خطط لدى وزارة الخارجية الأمريكية لاستدعاء السفير الأمريكي روبرت فورد من دمشق بحجة سخيفة وهي رغبتهم في أن يُعرب عن (قلق) الحكومة الأمريكية مما يقوم به الأسد. حيث قال: “إن سفيرنا في دمشق يحسن قدرتنا على تسليم رسائل قوية للحكومة السورية، ويقدم بوضوح اهتماماتنا وأولوياتنا، وقد قام السفير فورد -بشكل منتظم- بالإعراب عن قلقنا لكبار المسؤولين السوريين بشأن استمرار العنف ضد المظاهرات السلمية، وقيام الحكومة السورية باعتقال المواطنين والنشطاء السياسيين“.

بل إن كبيرة الباحثين بمعهد كارنيغي، مارينا أوتواي، صرحت لنفس الصحيفة أن “هناك عدة عوامل تحول دون قيام الولايات المتحدة بممارسة مزيد من الضغوط على النظام السوري، منها عدم اليقين في قدرة المحتجين على مواصلة ضغوطهم وتظاهراتهم ضد النظام السوري، كما تخشى الولايات المتحدة من أن يؤدي سقوط نظام الرئيس بشار الأسد إلى صعود تيار الإخوان المسلمين، وهي مخاوف تتشارك فيها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل“.

وفي تصريح للرئيس أوباما في خطاب خصصه للثورات العربية في 19 مايو 2011، قال إن “على الرئيس بشار الأسد أن يقود التحول في بلده أو يتنحى جانبًا“، كما شدد على ضرورة توقف قوات الأمن السورية عن إطلاق النار والاعتقالات العشوائية “وإلا فإن النظام السوري سوف يواجه تحديًا داخليًا وعزلة دولية“.

أصرت الولايات المتحدة، رغم انتقادها لاستخدام النظام السوري للعنف ضد المتظاهرين، على جعل الأسد -الذي مثل لب المشكلة بالنسبة للثوار- جزءًا من الحل؛ فجاء تصريح مسؤول في وزارة الخارجية الأمريكية في السادس عشر من شهر يونيو عام 2011 الذي قال فيه: “نحن نضغط على النظام السوري لنحقق الانتقال إلى مستقبل ديمقراطي لسوريا“. ورغم أن ذات المصدر لم يستبعد تقديم مسؤولين سوريين إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة جرائم حرب؛ إلا أنه اعتبرها نصًا “عملية معقدة ومطولة ولم تبدأ بعد“. وتوالت بعد ذلك تصريحات مسؤولين في الخارجية الأمريكية تدور حول ثلاثة محاور: القلق، التنديد، دعوة الأسد للعمل على إصلاحات عاجلة.

وفي شهر يوليو 2011، اتخذت الولايات المتحدة أكثر الخطوات حدة مع النظام السوري، وهي “فرض عقوبات” على بعض رموز النظام السوري وهم: الرئيس بشار الأسد ونائبه فاروق الشرع، رئيس الحكومة عادل سفر، وزير الداخلية محمد إبراهيم الشعار، وزير الدفاع علي حبيب محمود، مدير المخابرات عبد الفتاح قدسية، مدير الأمن السياسي محمد ديب زيتون. وتتضمن العقوبات تجميد أي أموال خاصة بهم في الولايات المتحدة وحظر التعامل التجاري معهم داخلها. وسبقها عدة إجراءات اعتمدها الرئيس الأمريكي أوباما في 29 أبريل من نفس العام على 13 مسؤولًا سوريًا، بينهم ماهر الأسد، الشقيق الأصغر للرئيس السوري.

أزعج هذا التهاون مجموعة من أعضاء الكونجرس فوجهوا رسالة شديدة اللهجة لأوباما طالبوه فيها بأن يكون أكثر حزمًا مع الأسد، وانتقد آخرون موقف رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي آنذاك ووزير الخارجية الحالي جون كيري الذي كان حينها يمتدح الرئيس السوري ويصفه بأنه “إصلاحي”.

شجع هذا التساهل الدولي إجمالًا والأمريكي خصوصًا الأسد على تصعيد العنف؛ فقام بعدة مجازر نهاية شهر يوليو ومطلع أغسطس عام 2011، كانت أكثرها دموية في مدينة حماة؛ حيث ارتكبت قوات الأسد مجزرة مروعة سقط فيها أكثر من مئة قتيل.

وصرح أوباما في حديث له تعليقًا على مجزرة حماة قائلًا: “مرة أخرى أظهر الرئيس الأسد أنه غير قادر وغير مستعد تمامًا للاستجابة إلى تظلمات الشعب السوري. إن استخدامه للتعذيب والفساد والترويع يضعه في مواجهة مع التاريخ ومع شعبه“. وأضاف: “إن بشار الأسد من خلال أعماله يؤكد أنه سيصبح هو ونظامه جزءًا من الماضي وأن الشعب السوري الشجاع الذي تظاهر في الشوارع هو الذي سيقرر مستقبله. إن سوريا ستصبح مكانًا أفضل عندما يحدث انتقال ديمقراطي“.

فيما اكتفت الخارجية الأمريكية بوصف المجازر بأنها “إعلان حرب شاملة على الشعب السوري“. وكرر مسؤولون في الولايات المتحدة منذ ذلك الحين خطابات عن قرب نهاية الأسد واستنكار استخدامه للقوة المفرطة ضد شعبه.

واستدعت بعض الدول العربية سفراءها في دمشق، فيما ازداد موقف روسيا وإيران تمسكًا بالأسد، في حين أصرت الولايات المتحدة على ضرورة بقاء السفير، ودعت هيلاري كلينتون العالم حينها للعمل على رحيل الأسد.

ومع تصاعد وتيرة العنف ضد المدنيين، اضطر أوباما أخيرًا أن يطلب من بشار الأسد أن يتنحى. إلا أنه أكد في الثامن عشر من شهر أغسطس عام 2011 على رفضه القاطع للتدخل الأجنبي في تحديد القيادة السورية المقبلة، كما شدد على عدم رغبة القيادة الأمريكية أو تأييدها لأي تدخل عسكري أجنبي في سوريا.

فما كان من الأسد إلا رفض هذا الطلب والمضي قُدمًا في ارتكاب المجازر ضد المدنيين. وبقي السفير الأمريكي في سوريا والسفير السوري في أمريكا يمارسان مهامهما حتى بعد حادثة الاعتداء على السفير الأمريكي روبرت فورد في دمشق، التي قام بها مؤيدون للأسد في شهر سبتمبر عام 2011 واكتفت الولايات المتحدة بالرد عليها عبر استدعاء السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى وتوبيخه وطلب تعويض مقابل السيارات الأمريكية التالفة. ومع تكرار الهجمات على السفير فورد اضطرت الولايات المتحدة لسحب السفير أخيرًا نهاية شهر أكتوبر من نفس العام، ولم تعلن واشنطن أن مغادرة السفير نهائية لكنها ألمحت إلى أنها قد تستمر “لمدة غير معلومة”، لكن السفارة لم تُعلق، وردًا على ذلك قامت دمشق بسحب سفيرها من الولايات المتحدة فورًا.

رحبت الولايات المتحدة بكل القرارات الدولية التي تزيد من العقوبات على النظام السوري واقترحت إرسال مراقبين دوليين لسوريا. ووصفت قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية سوريا في الجامعة بأنه “حازم ومتشدد أكثر مما كنا نتوقع“. لكنها أصرت مجددًا على رفض تدخل عسكري دولي مماثل للتدخل في ليبيا.

ودع السوريون العام الأول لثورتهم ومعه نحو 5000 شهيد ضمن جموع المتظاهرين الذين طالبوا الأسد بالرحيل وبدأت الثورة السورية تتجه نحو مسار مختلف؛ فلم يعد للهتافات واللافتات مكان أمام الرشاشات والمجنزرات.

استمرت الإدارة الأمريكية في سياستها تجاه القضية السورية: تصريحات منددة، دعوة لرحيل الأسد، استنكار لفظي للمجازر، رفض قاطع للتدخل الدولي، غض النظر عن تدخل حلفاء الأسد. واستمر النظام السوري في حملة قمع الاحتجاجات السلمية؛ فقرر السوريون اتخاذ خطوة جوهرية في مسار الثورة نحو حمل السلاح والدفاع عن النفس.

وشكل انشقاق قادة في جيش الأسد ضربة موجعة للأسد ونقطة قوة للثوار. حمل الثوار السوريون السلاح وبدؤوا في حماية أنفسهم من جبروت النظام، ومن ثم عملوا على الدخول في حرب معه لانتزاع مناطق آمنة وتحريرها من قبضة الأسد.

كانت باكورة تصريحات الإدارة الأمريكية في مطلع عام 2012 مماثلة لسابقتها؛ حيث صرح جاي كارني، المتحدث باسم البيت الأبيض، في مطلع شهر يناير 2012 أن الرئيس باراك أوباما “لم يسحب أي خيار من فوق الطاولة فيما يخص القضية السورية لكنه يركز كثيرًا على الحل الدبلوماسي“.

عاد أوباما في 26 يناير من نفس العام لتحذير الأسد من عدم قدرته على الصمود، وقال في خطاب خصصه للمباحثات النووية مع إيران: “لا شك لدي بأن نظام (الرئيس بشار الأسد) سوف يكتشف قريبًا أنه لا يمكن مقاومة قوة التغيير ولا يمكن سحق كرامة الناس“.

وفي شهر فبراير 2012، جدد الأسد العهد الدموي القديم مع مدينة حمص؛ حيث ارتكب فيها مجزرة مروعة سقط فيها العديد من الأطفال والنساء. اكتفى أوباما بالتنديد بدموية الأسد ودعاه مرة أخرى للرحيل.

أغلقت الولايات المتحدة سفارتها في سوريا مطلع شهر فبراير ونشرت الخارجية الأمريكية بيانًا يوضح أن السبب هو عجز الحكومة السورية عن حماية الدبلوماسيين، وقالت في البيان إن ما أسمته “طفرة العنف” كان سببًا رئيسًا في إغلاق السفارة، وجاء فيه: “إن الطفرة الأخيرة في العنف، بما في ذلك الهجمات بالقنابل في دمشق، أثارت مخاوف خطيرة بأن سفارتنا غير محمية بما فيه الكفاية من هجوم مسلح. ونحن، جنبًا إلى جنب مع عدة بعثات دبلوماسية أخرى، نقلنا شواغلنا الأمنية إلى الحكومة السورية. ولكن النظام فشل في الاستجابة بشكل ملائم“. لكن السفير فورد بقي محتفظًا بصفته كسفير أمريكا لدى سوريا رغم إقامته خارجها.

ولم يرد في بيان الخارجية الأمريكية أن إغلاق السفارة له أي علاقة بقطع العلاقات الدبلوماسية نهائيًا أو أنه يأخذ صبغة تضامنية مع الشعب السوري واكتفت بتحذير الأسد من “مسار العنف”.

طالب بعض أعضاء الكونجرس في شهر فبراير عام 2012 الإدارة الأمريكية بتسليح المعارضة السورية، فجاء رد الإدارة الأمريكية على لسان المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند التي قالت: “نحن نعتقد أن التوصل إلى حل سياسي هو أفضل السبل“. وأضافت: “نحن لا نعتقد أن من المنطقي المساهمة الآن في تكثيف الطابع العسكري للصراع في سوريا. فما لا نريده هو زيادة تصاعد العنف. لكن… إذا لم نستطع أن نجعل الأسد يستجيب للضغوط التي نمارسها جميعًا، فقد يكون علينا أن نبحث في اتخاذ إجراءات إضافية“.

وفي نهاية شهر مارس من نفس العام أعلن أوباما (من سيول) قبل انطلاق قمة الأمن النووي عن تقديم دعم للثوار السوريين يتمثل في “مساعدات (غير عسكرية) للمعارضة السورية تتضمن معونات طبية وأجهزة اتصالات لمساعدتها في مواجهة القمع الذي تمارسه السلطات السورية ضد المناوئين للرئيس السوري بشار الأسد“.

ونشرت الواشنطن بوست في شهر مايو مقالًا حول مزاعم تسليح الثوار السوريين جاء فيه: “إن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما لا تقوم بتزويد المعارضة السورية بالأسلحة أو بتمويل هذه العملية، لكنها وسعت شبكة علاقاتها بالقوات العسكرية السورية المعارضة لتزويد الدول الخليجية بتقارير تقيّم (مصداقية) الثورة والبنية التحتية لنظام التحكم والسيطرة العائد لها“، ونقلت الصحيفة عن مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية قوله: “نحن نضاعف مساعدتنا غير المسلحة للمعارضة السورية ونستكمل تنسيق جهودنا مع أصدقاء وحلفاء في المنطقة، وعالميًا؛ بغية الحصول على أكبر تأثير لما نقوم به بشكل جماعي“، وعلق السيناتور جون ماكين على ذلك في برنامج تليفزيوني بقناة إن بي سي الأمريكية قائلًا: “إن المعارضين في سوريا يتعرضون لقتل وذبح وتعذيب واغتصاب، وحقيقة أن الأمريكيين لا يساعدونهم يعد أمرًا مخزيًا“.

وأطلق مايك روجرز، رئيس لجنة المخابرات الجمهوري في مجلس النواب الأمريكي، في شهر مايو من عام 2012 تحذيرًا من تسليح المعارضة السورية، وقال لشبكة سي إن إن: “لست واثقًا من أن تسليح المعارضة هو الرد الصحيح في هذه الحالة، وتحديدًا لأننا لا نعرف تمامًا من هم الأشرار ومن هم الأخيار الآن في سوريا. ولذلك؛ لن نعرف من يكون هؤلاء الذين تقدم لهم الأسلحة في سوريا“. فبدأت الإدارة الأمريكية منذ ذلك الحين بالتلميح لإمكانية تدريب بعض عناصر المقاومة في أبعد خطوة ذهبت فيها واشنطن فيما يخص دعم الثوار في سوريا.

وتركزت تصريحات الإدارة الأمريكية في نهاية عام 2012 على التحذير من استخدام الأسد للأسلحة الكيمياوية. ونشرت نيويورك تايمز في نهاية شهر نوفمبر 2012 تقريرًا لديفيد سانغر وإيريك شميدت جاء فيه: “حتى الوقت الحالي، لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية سوى دعم محدود للعمليات العسكرية الرامية للإطاحة بالحكومة السورية، ولكنها قامت بدلًا من ذلك بتوفير نحو 200 مليون دولار من المساعدات الإنسانية وغيرها من المساعدات غير القتالية. وعلاوة على ذلك، يقوم العدد القليل من ضباط وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، الذين يعملون بصورة سرية في جنوبي تركيا منذ أشهر طويلة، بمساعدة الحلفاء على تحديد أي من مقاتلي المعارضة السوريين المنتشرين عبر الحدود ينبغي أن يحصلوا على الأسلحة، وذلك وفقًا لما أكده بعض المسؤولين الأمريكيين وضباط الاستخبارات العرب“.

وفي مطلع شهر ديسمبر، أطلقت الإدارة الأمريكية تصريح “الخطوط الحمراء” الشهير، الذي أصبح مجال تندر وسخرية الكُتاب ورسامي الكاريكاتير المعارضين لسياسات الولايات المتحدة. حيث حذرت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون النظام السوري من استخدام السلاح الكيماوي ضد المعارضين في سوريا، وقالت: “إن استخدامه (خط أحمر) بالنسبة للولايات المتحدة، ونحن نحذر مجددًا نظام الأسد بأن أفعاله تستحق الإدانة، وأن تصرفاته بحق شعبه مأساوية“.

عام 2013: البدء باللعب

رغم التحذيرات شديدة اللهجة والخطوط الحمراء التي وضعتها الإدارة الأمريكية؛ إلا أن عام 2013 وضع مساحة لعب فسيحة قام أوباما فيها برسم المزيد من الخطوط الحمراء التي تجاوزها الأسد لاحقًا، فما كان من أوباما إلا أن رسم المزيد حتى أصبحت الساحة السورية كلها ميدانًا لممارسة اللعبة الأقذر منذ 2011.

فقد ثبت للإدارة الأمريكية استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري، ووردت بعض التقارير المؤكدة لذلك، لكن الولايات المتحدة -وعلى غير العادة- فضلت التروي والتحقق الذين لا زالا قائمين حتى اليوم.

في الخامس عشر من فبراير عام 2013، ردت الإدارة الأمريكية على ما نشرته صحيفة الفورن بوليسي التي تؤكد استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية ضد الشعب السوري. وكانت الصحيفة قد نشرت تقريرًا يستند إلى برقية مسربة من القنصلية الأمريكية في تركيا حول مزاعم استخدام أسلحة كيماوية (غاز الأعصاب المسمى العنصر 15) بمدينة حمص في 23 ديسمبر عام 2012. وحملت البرقية توقيع القنصل الأمريكي في إسطنبول، سكوت فريدريك كيلنير، وأُرسلت إلى وزارة الخارجية الأمريكية.

 فكان الرد على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض، تومي فيتو، في بيان جاء فيه: “التقرير الذي رأيناه من مصادر إعلامية حول حوادث مزعومة لاستخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا لا ينسجم مع ما نعتقد أنه حقيقي في ما يتعلق ببرنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا“. وأضاف فيتور: “الرئيس أوباما كان واضحًا جدًا حين قال إنه في حال إقدام نظام الأسد على هذا الخطأ المأساوي باستخدامه للسلاح الكيماوي أو فشل في تنفيذ التزاماته بتأمين هذه الأسلحة فإنه سيتم تحميل النظام السوري المسؤولية“.

وفي الفترة الرئاسية الثانية للرئيس أوباما حرص وزير الخارجية جون كيري على الدفع نحو “المحادثات” بين الأسد والثوار السوريين. فصرح بعد فترة قصيرة من توليه منصب وزير الخارجية على حرصه الشديد على الجمع بين الأسد وما أسماها “المعارضة السورية” على طاولة المفاوضات؛ وهو ما يعكس الرؤية الأمريكية للصراع في سوريا، التي ترى النظام السوري كنظام شرعي وتعتبر المعارضة جموعًا من الطامعين في السلطة؛ فتتعامل مع الأمر برمته على أن القليل من التفاهم قد يؤدي إلى حل مرضٍ للجميع.

قدمت الإدارة الأمريكية اقتراحًا من وزير خارجيتها عبر حل “الحكومة الانتقالية” منذ ذلك الوقت؛ حيث قال كيري في شهر مارس عام 2013 إن “العالم يريد وقف القتال، ونريد أن نرى الأسد والمعارضة السورية يأتيان إلى طاولة الحوار لخلق حكومة انتقالية بناءً على إطار العمل الذي وضع في جنيف. هذا ما ندفع من أجله، وحتى يحصل ذلك لا بد أن يغير الأسد حساباته؛ فلا يظن أنه قادر على إطلاق النار إلى ما لا نهاية، ولا بد أيضًا من معارضة سورية متعاونة تأتي إلى الطاولة، ونحن نعمل من أجل ذلك وسنستمر في ذلك“.

واستمرت الإدارة الأمريكية في تصريحات التحذير من استخدام الكيماوي التي جاءت هذه المرة على لسان وزير الدفاع تشاك هيغل، الذي صرح مطلع شهر أبريل عام 2013 بأن “الإدارة الأمريكية لا تزال تخطط لمختلف الاحتمالات في سوريا، ومنها احتمالات التدخل في سوريا لتأمين مخزون الأسلحة الكيماوية في هذا البلد التي تزداد يومًا بعد يوم. لدينا خطط جاهزة للرد على كل السيناريوهات الممكنة بشأن الأسلحة الكيميائية، وسيكون الأسد ومن يأتمرون بأمره مسؤولين إذا لجؤوا إلى الأسلحة الكيماوية أو أخلوا بواجبهم في تأمينها“، لكن هيغل تحفظ عن تحديد هذه “العواقب” أو الرد حول تأكيد أو نفي المزاعم عن استخدام أسلحة كيماوية في سوريا.

وفي التاسع من شهر أبريل، أُعلن عن قيام تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام -الذي عُرف باسم داعش- ودخل معارك مع فصائل الجيش الحر بلا استثناء، بما فيها جبهة النصرة التي قاتلت جنبًا إلى جنب مع فصائل الجيش الحر لتحرير المدن السورية من نظام الأسد. قام داعش بأعمال إجرامية مروعة في حق الثوار السوريين ووجه سلاحه في معظم الهجمات عليهم؛ فأصبحوا في مواجهة جبهتين في غاية الشراسة والإجرام: النظام السوري وتنظيم داعش الإرهابي.

لم يغير ظهور داعش موقف الإدارة الأمريكية من النظام السوري، بل يبدو أنه عزز العلاقة بينهما؛ حيث أصبح هناك -إلى جانب المشتركات السابقة- مشترك جديد يجعل الولايات المتحدة أكثر حرصًا على العمل (مع) نظام الأسد أكثر من السابق.

واستمرت الإدارة الأمريكية في مراوغة الثوار السوريين؛ حيث أعلنت في شهر مايو أن تسليح المعارضة السورية لا زال “تحت الدراسة”، كما أكد أوباما مجددًا بعد أيام أنه ليست هناك نية لإرسال قوات أمريكية لسوريا. كما أكد أوباما في مؤتمر عقده في 30 أبريل أن “استخدام الكيماوي هو تغيير لقواعد اللعبة؛ يعني أن أمامنا التزامًا لمعرفة متى وأين وكم ومن قام باستخدام هذا السلاح الكيماوي لنعرف ماذا حدث بالفعل. إذا أمكن إثبات قيام الحكومة السورية باستخدام الأسلحة الكيماوية فسيتعين علينا أن نعيد التفكير في مجموعة من الخيارات المتوافرة لنا“.

وعاد مسؤولون أمريكيون للتصريح مرة أخرى مطلع شهر يوليو بأن إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما “تقترب من الموافقة” على تسليح المعارضة السورية، كما تدرس فرص إرسال قوات جوية لتعزيز منطقة حظر الطيران فوق الأراضي السورية.

وفي 21 أغسطس عام 2013، ارتكب الأسد مجزرة مروعة في الغوطة بدمشق باستخدام الأسلحة الكيمياوية أدت لمقتل نحو 1400 شخص، معظمهم مدنيون من الأطفال والنساء، وأعلن بذلك تجاوزه لكل الخطوط الحمراء التي وضعها أوباما سابقًا.

لم يكتف الأسد بإنكار المجزرة، بل قام بإلصاقها بالمعارضة؛ رغم أن تقارير المنظمات الحقوقية المستقلة أكدت أن الأسد متورط في هجمات الكيماوي.

في 28 أغسطس، اجتمع الرئيس الأمريكي باراك أوباما مع مستشاريه الأمنيين وكبار مسؤولي الإدارة لمناقشة توجيه ضربة عسكرية لسوريا؛ ردًا على الهجوم بالأسلحة الكيماوية.

وأشار أحد المسؤولين في إدارة أوباما إلى أن “الإدارة الأمريكية ترى ضرورة معاقبة الحكومة السورية على استخدامها الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين، وفي نفس الوقت توجيه رسائل لقادة الدول الأخرى مثل كوريا الشمالية أن الولايات المتحدة لن تصمت حول أي خطوات لاستخدام الأسلحة الكيماوية أو النووية وانتهاك المعايير الدولية“.

وانتظر العالم توجيه الضربات المزعومة على النظام السوري؛ إلا أن التسويف استمر بحجة عدم اكتمال الأدلة وحاجة الكونجرس للمزيد من الوقت لاتخاذ هذا القرار. ورغم أن أوباما وإدارته استماتا في الظهور بصورة حلفاء الشعب السوري الذين يجوبون عواصم العالم لدعم القرار؛ إلا أن أوباما طلب من الكونجرس في العاشر من سبتمبر التمهل وتأخير التصويت على قرار الضربة “لمنح روسيا وقتًا لحمل سوريا على تسليم أي أسلحة كيماوية بحوزتها“! وكان رد الأسد حينها بأنه “لن يرضخ” للإدارة الأمريكية.

قامت الإدارة الأمريكية بعدها بتجاهل موضوع الضربة العسكرية والبدء في “مباحثات” جديدة مع النظام السوري، تولاها نيابة عنه حليفه الروسي، خلصت أخيرًا إلى الاتفاق على التخلص من الأسلحة الكيماوية السورية. مع إمكانية صدور قرار دولي تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يجيز اللجوء إلى القوة في حال لم يلتزم النظام السوري بذلك، كما تضع إطارًا زمنيًا للعملية؛ إذ يعرض الرئيس السوري بشار الأسد، بموجب الاتفاق، ما لديه من أسلحة في الأسبوع الذي تلى الاتفاق، على أن يجري التخلص منها كاملة بحلول منتصف العام 2014.

وفي 11 سبتمبر 2013، أعلن متحدث باسم المعارضة السورية أن الثوار تلقوا أخيرًا دعمًا عسكريًا من الولايات المتحدة التي عبرت عن قلقها من أن يصل للإسلاميين في الجيش السوري الحر. وتضاربت التصريحات الأمريكية حول حقيقة هذا الدعم بعد أن أعلنت الولايات المتحدة في نفس الشهر أنها توصلت لاتفاق مع الأسد حول الأسلحة الكيماوية؛ مما سيجعلها تتراجع عن قرار التسليح.

عام 2014: الدوران والالتفاف

لم يعد يخفى على أحد أن الأسد والإدارة الأمريكية على قدر عال من الانسجام والتفاهم، فهو نظام حاكم معترفٌ به كنظام شرعي يتم دعوته كل مرة لطاولة المفاوضات ويتلقى بين الفينة والأخرى وابلًا من “تصريحات” غاضبة ومنددة، لكن بشار اليوم لم يعد صديقًا فحسب؛ بل أصبح حليفًا معتبرًا في الحرب على الإرهاب.

ففي مطلع عام 2014 اكتشف الأمريكيون أخيرًا أن من “يقتل ويدمر ويشرد” الأبرياء خطر ينبغي مواجهته بالقوة العسكرية مهما كلف الأمر؛ إلا أن المضحك أن الولايات المتحدة وضعت يدها بيد عملاق مخضرم في فنون القتل لملاحقة فأر قاتل صغير.

استمر السفير الأمريكي لدى سوريا في ممارسة مهامه في التنسيق والمباحثات مع النظام السوري والمعارضة في رحلات مكوكية كثيرة بين الولايات المتحدة وتركيا ولم يعلن ترك منصبه إلا في شهر فبراير عام 2014. وقامت الحكومة الأمريكية بتعيين بديل له على الفور وهو لورانس سيلفرمان.

عاد كيري في السابع عشر من فبراير للتأكيد على أن الدبلوماسية هي الخيار الأصلح للسوريين، ووجه كالمعتاد تصريحًا غاضبًا للأسد لاستخدامه العنف المفرط ضد المدنيين، ودعا كيري ما أسماهم “داعمي النظام إلى الضغط عليه ليضع حدًا لتعنته في المفاوضات ولأساليبه الوحشية على الأرض“.

في شهر مايو، جدد الرئيس الأمريكي أوباما العهد مع لغة الدبلوماسية، وكرر عام 2014 العبارات التي سمعها السوريون منذ 2011 بما ينبغي وما لا ينبغي على الولايات المتحدة فعله تجاه القضية السورية؛ حيث قال أوباما في خطاب أمام حفل تخرج دفعة 2014 من الأكاديمية الأمريكية في وست بوينت بنيويورك: “لا ينبغي وضع القوات الأمريكية في وسط هذه الحرب الأهلية الطائفية، وأعتقد أن هذا هو القرار الصحيح، لكن هذا لا يعني أننا لا يجب أن نساعد الشعب السوري للوقوف ضد ديكتاتور قاتل يجوع شعبه، ومساعدة أولئك الذين يناضلون من أجل حق جميع السوريين في اختيار مستقبلهم… وعلينا أيضًا الوقوف ضد تزايد أعداد المتطرفين الذين يجدون ملاذًا آمنًا في حالة الفوضى“. لكنه أعلن في نفس الكلمة عن إنشاء صندوق بـ5 مليارات دولار “لمكافحة الإرهاب”، فيما “اقترح” على الكونجرس بعد ثلاثة أشهر دعمًا للمعارضة السورية المعتدلة بقيمة نصف مليار دولار فقط!

في يونيو 2014، أجرى بشار الأسد انتخابات رئاسية أعطته ولاية 7 سنوات جديدة، واكتفت الولايات المتحدة بالاعتراض على هذه الخطوة.

في الخامس من يوليو، شن السفير الأمريكي السابق لدى سوريا (روبرت فورد) هجومًا قويًا على سياسات أوباما التي وصفها بالمترددة في القضية السورية. صرح فورد بذلك في لقاء مع شبكة “سي إن إن” أنه استقال من منصبه لأنه لم يكن قادرًا على الدفاع عن سياسات الولايات المتحدة في سوريا. وأضاف: “لم أعد في مركز أستطيع فيه الدفاع عن السياسة الأمريكية في سوريا، نحن لم نتمكن من معالجة جذور المشكلة، سواء الصراع القائم أو التوازن على الأرض، إلى جانب زيادة تهديدات المتطرفين في البلاد“.

وفي شهر أغسطس، بدأت التصريحات من الإدارة الأمريكية بشأن توجيه ضربات ضد داعش في سوريا، تم البت فيها سريعًا؛ فبحلول نهاية شهر أغسطس كانت طائرات الاستطلاع الأمريكية تحلق فوق الأراضي السورية لتحديد مواقع الضربات الأمريكية. دعا الرئيس الأمريكي إلى توسيع التحالف ضد داعش، واستجابت العديد من الدول، على رأسها دول عربية وخليجية. وفي 24 سبتمبر، أطلق التحالف (العربي-الغربي) أولى الضربات الجوية داخل سوريا، وقالت الإدارة الأمريكية حينها إن ذلك ليس “دعمًا لنظام الأسد”؛ بل “للمعارضة المعتدلة”.

توارت أخبار النظام السوري واختفت التصريحات ضده واستغرق الأمريكيون في إطلاق التصريحات والبيانات الخاصة بحربهم على داعش. ففي مطلع شهر أكتوبر، صرحت كلينتون (الطامحة للرئاسة) بأن الحرب على تنظيم داعش ستكون “طويلة الأمد”، كما خرجت تصريحات متتالية من الولايات المتحدة تتابع عمليات تدريب “المعارضة السورية المعتدلة”، ولم تخف الإدارة الأمريكية رغبتها في أن تقوم هذه المعارضة المدربة بقتال “الفصائل المتطرفة”.

بل إن وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل صرح في 14 نوفمبر بأن إزاحة الأسد ليست أولوية للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، واعتبره “جزءًا من العملية”، وقال خلال جلسة استماع للجنة القوات المسلحة بمجلس النواب: “ليست لدينا حكومة أو شريك نعمل معه في سوريا مثل الحال في العراق، وهدفنا في سوريا هو ملاحقة تنظيم داعش ومنعه من الحصول على ملاذات آمنة في سوريا، ومنع (داعش) من تحريك المقاتلين من سوريا إلى العراق“. وأضاف هيغل: “نعم الأسد جزء من العملية، وهدفنا أن نجد حكومة مستقرة في سوريا، لكن (داعش) يهدد العراق الآن، ولهذا نتعامل مع هذا التهديد أولًا“.

استطاع أوباما اتخاذ قرار الحرب على داعش سريعًا؛ إلا أن قرار فرض منطقة آمنة شمال سوريا أخذ من أوباما وقتًا وجهدًا في التفكير جعل وزير خارجيته يصرح مطلع شهر ديسمبر 2014 أن “النقاش يدور كثيرًا حول هذا الموضوع. لكن، من السابق لأوانه القول، في هذه اللحظة، إننا قريبون من اتخاذ قرار معين، أو المضي قدمًا لتأسيس أي شكل من أشكال منطقة آمنة، أو منطقة عازلة“.

عام 2015: هل انتهت اللعبة؟

استمر مسلسل التسويف والمماطلة في القضية السورية، الذي بدأ عام 2015، بإعلان الإدارة الأمريكية مجددًا نيتها لتدريب المعارضة السورية. جاء ذلك مطلع يناير عام 2015؛ حيث صرح البنتاغون أن “الجيش الأمريكي أحرز تقدمًا في مساعيه لتحديد معارضين سوريين (معتدلين) لتدريبهم على مقاتلة (تنظيم الدولة الإسلامية)، وأن مهمة التدريب قد تبدأ مطلع الربيع المقبل“. وكان هذا التصريح هو الأبرز في مقصد الإدارة الأمريكية من تدريب هؤلاء المقاتلين، وهو ما ورد صراحة في بيان البنتاجون الذي ينص على أن الهدف هو تدريبهم لقتال تنظيم داعش جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة وحلفائها، ومنهم نظام الأسد، كما ورد في تصريحات المسؤولين الأمريكيين عام 2014.

كما تجنب البنتاغون في نفس الشهر التعليق على أنباء عن قطع مساعدات أمريكية عن بعض فصائل المعارضة السورية المسلحة التي نشر موقع “ذا ديلي بيست” تقريرًا جاء فيه “أن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إي) قطعت أو قلصت إلى حد بعيد الدعم والتمويل الذي تقدمه لبعض قوى المعارضة السورية خلال الأشهر الأخيرة، والذي يأتي ضمن برنامج سري“.

وورد في التقرير أن الإدارة الأمريكية استبعدت أربعة فصائل من قائمة تضم 16 فصيلًا من المعارضة النشطة شمال سوريا، وعلقت أو قلصت المساعدات التي تقدمها للفصائل الـ12 الأخرى بحجة تقاربها مع جماعات مثل جبهة النصرة أو عدم فعالية أنشطتها.

واستمر أوباما في صرف الاهتمام نحو قتال تنظيم داعش؛ حيث طلب من الكونجرس في 11 فبراير الماضي منحه تخويلًا للقتال ضد “تنظيم الدولة الإسلامية” دون قيود جغرافية ولكن بقيود على استخدام القوات البرية. ويرقى هذا الطلب لمستوى إعلان حرب ضد التنظيم على أسس قانونية أقوى، وفي الوقت ذاته يوفر له الغطاء السياسي داخل بلاده. بينما جدد كيري على طلب الأسد للتفاوض والحل الدبلوماسي في العام الخامس للثورة.

غير أن الحدث الأبرز مطلع عام 2015 والذي عبّر عن نفاق الولايات المتحدة خصوصًا والعالم بشكل عام في التعاطي مع مجازر النظام السوري هو حادثة تشارلي إيبدو، التي قُتل فيها 12 شخصًا، معظمهم صحفيون. خرجت من عواصم العالم التصريحات المنددة وسار في باريس 50 رئيس دولة وعشرات الوفود من دول أخرى تنديدًا بمقتل الصحفيين وتضامنًا مع فرنسا. وندد الأسد بحادثة تشارلي إيبدو عبر تصريح لصحيفة “ليتيرارني نوفيني” التشيكية دعا فيه دول العالم إلى التعاون معه للقضاء على الإرهاب، وقال: “عندما يتعلق الأمر بقتل المدنيين، وبصرف النظر عن الموقف السياسي والاتفاق أو الاختلاف مع الأشخاص الذين قتلوا، فإن هذا إرهاب ونحن ضد قتل الأبرياء في أي مكان في العالم. هذا مبدؤنا“.

وانتقل اهتمام العالم شيئًا فشيئًا نحو قضايا استجدت على الساحة، ومنها عملية عاصفة الحزم التي قادتها السعودية ضد جماعة الحوثي والمخلوع صالح في اليمن التي انطلقت أواخر شهر مارس الماضي.

كما استمرت الولايات المتحدة في تجاهل الأزمة السورية، وازداد اهتمام الإدارة الأمريكية بالمباحثات النووية مع إيران في عام 2015 التي توجت بتوقيع الاتفاق النووي منتصف شهر يوليو الماضي.

واستمر التحالف العربي الغربي في قيادة عملياته ضد داعش في العراق وسوريا، واكتفت الإدارة الأمريكية بتوجيه مزيد من التصريحات ضد الأسد كان أقواها في شهر مايو الماضي عندما قالت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة (سامنثا باور) إن “مشكلة تنظيم داعش في سوريا ومناطق أخرى من الشرق الأوسط لن تلقى حلًا ما دام الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة“. وكرر أوباما تصريحًا مماثلًا في شهر يوليو الماضي في خطاب ألقاه في البنتاغون قال فيه: “إن الطريق الوحيد لإنهاء الحرب الأهلية السورية هو التوحد ضد داعش في حكومة سورية جديدة وبدون الأسد”.

ودخلت أولى دفعات المعارضة السورية المدربة أمريكيًا، المكونة من 54 مقاتلًا فقط، في شهر يوليو الماضي إلى ساحة القتال؛ حيث اشتبكت مع جبهة النصرة التي اختطفت بعض عناصر المعارضة المدربة أمريكيًا، وألمح أوباما أنه سيقدم دعمًا وغطاءً جويًا للمعارضة المدربة؛ إلا أن الولايات المتحدة فشلت في ذلك، وفقًا لتصريح قادة إحدى الفرق المدربة -“الفرقة 30″- النقيب عمار الواوي الذي قال في مقابلة مع صحيفة ديلي تلغراف: “إن أمريكا كانت مسؤولة عن وفاة خمسة من مقاتليه بعد فشلها في توفير الغطاء الجوي أثناء المعارك كما وعدت“. وسخر الواوي من العدد القليل للفرق المدربة وقال: “يلزمنا وفقًا لهذا المعدل 38 سنة لنبلغ 15 ألف مقاتل!“.

أحيا جموع السوريين والناشطين العرب المهتمين في شهر أغسطس الجاري ذكرى مجزرة الغوطة، وارتكب الأسد في هذا الشهر أيضًا مجزرة جديدة في سوق مكتظة في مدينة دوما؛ فاختلطت مأساة الماضي مع معاناة الحاضر التي عاشها السوريون بكل تفاصيلها المؤلمة.

لستُ في هذا التقرير أروّج للتدخل الأمريكي أو أدعو له؛ لإيماني العميق بأن أمريكا عندما تتدخل فهي تدمر، لكن تتبع مثل هذه المواقف التي امتازت بالتسويف والمماطلة وشراء الذمم من دولة عودتنا على نهمها غير المنتهي للتدخل له دلالات جوهرية؛ فهو يعري نفاق الإدارة الأمريكية ورضاها عما يقوم به الأسد، وإن تظاهرت بعكس ذلك، وينسف في نفس الوقت هرطقات النظام السوري التي أعلنت منذ اللحظة الأولى للثورة أن العالم أجمع وبقيادة الولايات المتحدة يشن حملة ممنهجة عليه ويتآمر كونيًا لتدميره.

 ستستمر الإدارة الأمريكية ونظام الأسد في التلاعب بأرواح السوريين وتخضيب ساحة ملعبهم بدماء الأبرياء، وبعد خمس سنوات من العبث -قرأتم جزءًا يسيرًا جدًا منها في هذا التقرير- فأنتم الآن مثلي حتمًا تتساءلون: “متى ستنتهي هذه اللعبة؟“.

بسمة حجازي

التقرير