لم تحقق الحكومات التونسية المتعاقبة منذ اندلاع ثورة يناير 2011 نتائج ملموسة في جهود محاربة الفساد في البلاد، حيث كشفت هيئة مكافحة الفساد عن تلقيها 39 ألف ملف في الآونة الأخيرة. ويعزو المتابعون استشراء هذه الظاهرة إلى غياب الإرادة السياسية واستغلال الفساد كورقة انتخابية أو لتصفية حسابات بين الأحزاب المتنافسة على السلطة، فيما يتواصل استشراء هذه الظاهرة بشكل مقلق.
تونس – أثارت أرقام تتعلق بملفات فساد في تونس جدلا واسعا حيث وضعت السلطات التشريعية منذ سنوات الكثير من القوانين التي تستهدف مكافحة الفساد بيد أن الظاهرة استفحلت أكثر.
وكشفت ألفة الشهبي ممثلة هيئة مكافحة الفساد في تدخل لها خلال جلسة التنسيقية الوطنية لإعداد وإنجاز الاستراتيجية الوطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد للخماسية القادمة عن تلقي الهيئة “أكثر من 39 ألف ملف فساد وتمت إحالة أكثر من 1800 على الفضاء”.
ويجري في تونس حاليا التجهيز لاستراتيجية وطنية بشأن الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام.
وأوضحت نائب رئيس مجلس النواب (البرلمان) سميرة الشواشي أن “التنسيقية الوطنية لإعداد وإنجاز استراتيجية وطنية للحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام للخماسية القادمة ستواصل اجتماعاتها وعملها حيث من المقرر أن تنتهي من استكمال إعداد وثيقة الاستراتيجيا والتوجهات يوم 09 ديسمبر المقبل تزامنا مع اليوم الوطني والعالمي لمكافحة الفساد”.
وبالرغم من أنها نجحت في السنوات الأخيرة في إقرار العديد من التشريعات التي تهدف إلى مكافحة الفساد غير أن الظاهرة استفحلت ما أثار تساؤلات بشأن الأطراف المستفيدة من ذلك خاصة وأن الحرب على الفساد تحولت إلى شعارات تتغنى بها الأحزاب زمن الانتخابات وتزايد بها على خصومها ومن ثم تغيب الحلول الفعلية لوضع حد لهذه الظاهرة التي تكبد البلاد خسائر فادحة.
ورأى بدرالدين القمودي رئيس لجنة الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد في البرلمان التونسي أن “العقبة الرئيسية التي تقف أمام محاربة الفساد في تونس تكمن في غياب الإرادة السياسية” وتابع القمودي في تصريح لـ”العرب”، “إذا كانت هناك إرادة سياسية فإن هناك ملفات بالنظر لخطورتها سيتم البت فيها بسرعة قضائيا”.
وحمل القمودي الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، التي أقيل رئيسها العميد شوقي الطبيب مؤخرا، مسؤولية استشراء الفساد قائلا “الهيئة لا تتعاطى بشكل جدي مع ملفات الفساد على الأقل في الفترة الأخيرة، تحيل ملفات ليست لها أهمية على القضاء بينما الملفات المرتبطة بنهب المال العام وغيره لا تتم متابعتها وإحالتها على القضاء”.
وكان قد تم تأسيس الهيئة بعد ثورة 2011 وهي مكلفة بالتقصي حول الفساد والرشوة.
وأضاف القمودي “هناك مشاكل أخرى تحول دون وضع حد للفساد على سبيل المثال غياب استقلالية القضاء وعدم تمكين القضاة من الفرق الفنية وغيرها من أجل معاضدة جهودهم، لأن مكافحة الفساد تتطلب أشخاصا مختصين في طبيعة الملفات تتطلب تخصصات في الجانب الاقتصادي والجبائي والمالي” مشيرا إلى أن “جهاز القطب القضائي المالي مثلا وضع من أجل الدعاية أكثر منه لمكافحة الفساد”.
ومع تزايد الضغوط على القضاء والسلطات على حد السواء للتحرك ضد الظاهرة التي نخرت القطاع العمومي وأرهقت خزينة الدولة طيلة سنوات تُطرح أسئلة من بينها: من يتحمل مسؤولية استشراء الفساد إذا كانت هناك هيئة وطنية دائمة ومستقلة لمكافحته؟ وماذا عن الحكومات التي تعاقبت على تسلم مفاتيح الحكم منذ 14 يناير 2011 وأكدت جلها على محاربتها للظاهرة؟ وأي مصداقية للذين يروجون بأنهم يحاربون الفساد؟
من جهته يرى القاضي جمال سحابة أن هناك تضخما تشريعيا لكن المشكل في التطبيق والتنسيق بين كل المتدخلين في محاربة الفساد، داعيا إلى ضرورة أن “تشخّص التنسيقية البرلمانية جيدا مواقع الخلل ومتابعة تقارير دائرة المحاسبات وما إذا كانت نشرت فيها قضايا أم لا؟ وهل من حق النيابة العمومية قراءة ملفات للدائرة ورفع قضية أم لا؟”.
ويعتقد سحابة أن تكوين تنسيقية لمكافحة الفساد ”سيعقد الدفع نحو نجاعة مكافحة الفساد في تونس” موضحا أن” قضايا الفساد المالي مثلا تمتد من تونس إلى الخارج وهي قضايا تتطلب أشهرا” مشيرا إلى أن “القطب القضائي والمالي قام منذ 2018 إلى 2020 بنشر نحو 915 قضية مالية وقد أمكن الفصل في نحو 500 قضية منها”.
وفي تونس، هناك العديد من الشخصيات المتحزبة والمستقلة على حد السواء تسوق لأنها في حرب على الفساد لكن هذه الحرب يبدو أنها لم تؤت أكلها بعد فالظاهرة تستفحل يوميا ومعها تستنزف الدولة مواردها في صفقات عمومية وغيرها ليبقى بذلك التساؤل المطروح: من المخول له مكافحة الفساد؟
نظريا وقانونيا، تختص هيئة مكافحة الفساد والقضاء بذلك، لكن ومع سن تشريعات جديدة فيها ما يتعلق بحماية المبلغين عن الفساد وغيرها أصبح للجميع الحق في خوض حربه ضد هذه الآفة وهو ما فتح الباب -على ما يبدو- على مصراعيه أمام استغلال الأحزاب لهذه الورقة لغايات انتخابية ولتسجيل نقاط ضد الخصوم.
في هذا الصدد يشير سحابة إلى مشاكل كبيرة تنتظر إجابات، قائلا ”أولا من هي الأطراف المؤهلة لرفع قضايا فساد وتحديد متى تصبح قضية رأي عام؟ ومن يسمح بنشرها على مواقع التواصل الاجتماعي أو الصحف؟ ومن يحدد من هو الفاسد؟” معتبرا أنه من غير المعقول أنه بمجرد شكاية يضعها أي شخص بأي موقع يتم ابتزاز أي مواطن مسؤولا كان أو غيره.
وبدوره يلفت النائب بدرالدين القمودي إلى أنه من “حق وواجب هيئة مكافحة الفساد والإعلاميين والبرلمانيين وغيرهم إبلاغ القضاء بملفات فساد لكن بعض الأطراف استغلت شعار مكافحة الفساد لغايات سياسية..” ويتابع “يكفي لأن نتمعن في الحكومات منذ عهد زين العابدين بن علي (الرئيس السابق الراحل) إلى حد الآن لنكتشف مدى متاجرة هذه الحكومات بشعار الحرب على الفساد لكننا لم نر نتائج ملموسة”.
ويخلص القمودي بالقول “تُرفع شعارات مكافحة الفساد للتوظيف السياسي فقط.. مثلا حكومة يوسف الشاهد رفعت شعارات وقامت بحملات ولكن الأطراف الضالعة في الفساد لم تتم محاسبتها”.
العرب