قدَّم الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) بشكل مفاجئ استقالته من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير التي تعتبر أعلى هيئة قيادية في منظمة التحرير الفلسطينية. وبالإضافة إلى أبي مازن فقد استقال أكثر من نصف أعضاء اللجنة، وذلك بهدف الدعوة لاجتماع طارئ للمجلس الوطني الفلسطيني (برلمان منظمة التحرير) الذي لم ينعقد رسميًّا منذ عام 1996. وقد أحدثت هذه الاستقالات فراغًا قانونيًّا ضمن أطر المنظمة، وهو ما تطلَّب دعوة المجلس الوطني الفلسطيني للانعقاد بدورة طارئة خلال شهر بهدف انتخاب قيادة جديدة للجنة التنفيذية. ولم تنتقد حركتا حماس والجهاد الإسلامي -اللتان لم تنضمَّا بعد إلى منظمة التحرير- خطوة أبي مازن فحسب؛ وإنما اعتبرتها حركة حماس عملًا باطلًا وتمثل انقلابًا، واعتبر تيسير خالد، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، خطوة أبي مازن تعسفية وتهدف إلى السيطرة على مؤسسات المنظمة وهيئاتها.
فتحت استقالة أبي مازن النقاش مجددًا حول مستقبل النظام السياسي الفلسطيني والتحديات الداخلية التي تقف حجر عثرة في سبيل إصلاح مؤسساته وخاصة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية؛ فقد جاءت استقالة أبي مازن بعد أسابيع قليلة من إعفائه ياسر عبد ربه (1) من منصبه كأمين سرٍّ للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو ذات المنصب الحيوي الذي شغله أبو مازن سابقًا وأهَّله بعد ذلك ليصبح رئيسًا للسلطة الفلسطينية. ولم تمضِ أيام على خروج عبد ربه من منصبه، بعد شكوك باجتماعه مؤخرًا مع خصم أبي مازن الأقوى محمد دحلان، حتى قام أبو مازن بتعيين صائب عريقات، مسؤول ملف المفاوضات في منظمة التحرير، مكان عبد ربه. ودفعت هذه الخطوات البعض للاعتقاد بأن أبا مازن يسعى لإعادة تشكيل الأطر القيادية في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية، ضمن مساعيه لترتيب ملف خلافته بما يضمن له ولأتباعه إقصاء جميع منافسيهم وإحكام السيطرة على المنظمة والسلطة.
قد تشكِّل استقالة أبي مازن وإخراج عبد ربه أحد أبرز المؤشرات على سخونة التنافس على خلافة أبي مازن؛ حيث جاءت هذه الخطوات بعد أسابيع قليلة من قرار حجز أموال مؤسسة فلسطين الغد التي يديرها رئيس الوزراء الأسبق سلام فياض بدعوى أنها مال سياسي(2). كما تُسلِّط الضوء على انقسام أعمق داخل أركان السلطة بين مراكز نفوذ متنوعة، وتطرح سؤالًا مركزيًّا حول قدرة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية على تجديد بنائهما الداخلي في ظل الصراع على خلافة أبي مازن الذي تجاوز عمره الثمانين عامًا. وفي حال غيابه بصورة مفاجئة، لأي سبب كان، فإن ذلك يعني فراغًا كبيرًا في مؤسسات السلطة وحركة فتح والمنظمة. ويتعزز ذلك في ظل عدم وضوح الإجراءات القانونية للانتقال السلس للسلطة مع تعطل المجلس التشريعي الفلسطيني وعدم وجود إجماع حتى الآن على أي مرشح محتمل لخلافة أبي مازن داخل حركة فتح، وهو ما يثير الشكوك حول مستقبل السلطة الفلسطينية ويطرح سؤالًا جوهريًّا متعلقًا بقدرتها على تجديد هياكلها القيادية؛ حيث يكشف هذا الصراع عدم الاستقرار الكامن في النظام السياسي الفلسطيني ومؤسساته.
تشوهات النشأة والبنية
لقد أسفر إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عن إنشاء السلطة الفلسطينية ككيان مؤقت في الضفة الغربية وقطاع غزة. وكانت قيادات المنظمة تأمل أن يتحول الكيان الناشئ تدريجيًّا إلى دولة أو كيان مستقل في مدة أقصاها خمس سنوات من اتفاق أوسلو (أي مع نهاية عام 1999). وبدلًا من ذلك، انهارت مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 بين الرئيس الراحل ياسر عرفات ورئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك واندلعت الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى) في سبتمبر/أيلول من ذات العام.
وفي عام 2002 اجتاح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون الضفة الغربية في “عملية السور الواقي” وقام بتدمير ممنهج لمؤسسات السلطة وبنيتها التحتية بالإضافة إلى محاصرة الرئيس السابق ياسر عرفات. وأدَّت الإجراءات الإسرائيلية إلى تآكل شديد في بنية السلطة وأجهزتها المختلفة وضعف شامل في أدائها.
لم تتلاشَ فقط أجهزة المنظمة المختلفة لصالح مؤسسات السلطة الفلسطينية التي بدأت تحل تدريجيًّا مكان مؤسسات المنظمة، بل تحولت إلى جهاز “إداري مقاول” تابع للإدارة المدنية الإسرائيلية يُعفي إسرائيل من تحمل تبعات احتلالها للضفة الغربية ومحاصرتها لقطاع غزة كقوة احتلال. ورغم المحاولات الحثيثة التي قامت بها قيادة السلطة، سواء من خلال المفاوضات الثنائية مع الجانب الإسرائيلي أو التوجه للمؤسسات الدولية للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية، لم تستطع السلطة الخروج من هذه الثنائية حتى الآن. فقد قيدت الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية أية إمكانية حقيقية لإحداث تحولات بنيوية في مؤسسات السلطة؛ حيث رهنت هذه الاتفاقيات أي تغييرات بنيوية في أجهزة السلطة ومؤسساتها بالموافقة الإسرائيلية المسبقة، وهو ما دفع أحد الوزراء السابقين في السلطة إلى القول بأن “دور السلطة بات مقتصرًا على صرف رواتب (الموظفين والأجهزة الأمنية)”(3).
لم تفشل السلطة فقط في تحويل مؤسساتها إلى كيان فاعل وذي سيادة بل على العكس من ذلك ورثت مؤسسات السلطة الترهل الإداري والفساد المقنَّن(4) الذي كانت تخضع له أجهزة المنظمة المختلفة. وكما هي الحال في أجهزة المنظمة التي تعاني من خلل بنيوي عميق؛ فقد أوجد الفساد المستشري والترهل البنيوي بأجهزة السلطة بيئة خصبة لنشوء سلسلة متشعبة ومتشابكة من العلاقات الزبائنية التي هدفت إلى المحافظة على مؤسسات السلطة وضمان استمراريتها. وتقوم هذه الزبائنية على توزيع للوظائف والترقيات والمنح والهبات من خلال أجهزة السلطة البيروقراطية وشبكة واسعة ومعقدة من المصالح الشخصية والسياسية والاجتماعية التي تحكمها قواعد غير رسمية تحت إشراف هرم النظام.
وبشكل مشابه للعلاقات الزبائنية داخل المنظمة لا تُعطى الغالبية العظمى من المناصب العليا في السلطة الفلسطينية بناء على الكفاءة والمؤهلات العلمية والأكاديمية، بل تُوزَّع على أساس الولاءات المرتبطة بشكل وثيق بنظام الحوافز والمكافآت والمحاصصة الحزبية التي تُشكِّل أداة مهمة في الحفاظ على تماسك النخبة الحاكمة وتضمن استمراريتها(5). لذلك أصبحت العلاقات الزبائنية التي تم ترسيخها خلال السنوات الماضية تتخلل كامل النظام السياسي الفلسطيني وتتحكم في بنيته من خلال نظام معتمِد بشكل كامل على العلاقات المتبادلة ما بين الهرم الحاكم والقاعدة الشعبية والتنظيمية الداعمة له على مختلف المستويات.
ولا تمثل أجهزة المنظمة والسلطة سوى واجهة تخفي خلفها العلاقات الشخصية العميقة. وبسبب تهميش المنظمة وأجهزتها المختلفة بدأت التركيبة البيروقراطية لمؤسسات السلطة تأخذ دورًا محوريًّا في الحكم. ولضمان أكبر قدر ممكن من الولاء داخل البيروقراطية، وخاصة الأجهزة الأمنية، تم التوسع في الهيكل البيروقراطي والقطاع الأمني؛ فقد بلغ عدد الموظفين العموميين، حسب ديوان الموظفين العام مع نهاية عام 2011، أكثر من مئة وخمسين ألف موظف ما بين مدني وعسكري(6). وتصرف السلطة أكثر من 60% من ميزانيتها على قطاع الأمن(7)؛ حيث أصبحت فئات كثيرة مرتبطة ارتباطًا وجوديًّا في استمرارها بوجود السلطة، بغضِّ النظر عمَّن يمسك بهرم النظام طالما يضمن استمراريته وتدفق مصادر التمويل.
أصبحت هذه الأعداد المتضخمة من الموظفين سلاحًا ذا حدين؛ فمن جهة تحافظ السلطة من خلالها على قاعدة ولاء عريضة بين الفلسطينيين، لكن من جهة أخرى أصبحت فاتورة الرواتب مرهقة بشكل كبير لميزانية السلطة الفلسطينية التي تعاني من أزمة مالية خانقة وعجز متفاقم. وفي ظل تضخم أجهزة السلطة البيروقراطية بشكل متعاظم زادت متاعب السلطة في التحول إلى مؤسسات فاعلة، حيث تعاني وظائفها من خلل كبير، فضلًا عن استمرار الفقر وارتفاع أرقام البطالة، وعدم وجود تقدم كبير في مجالات الرعاية الصحية والتعليم. ونتيجة للسياسات الإسرائيلية، فقد تحولت أجهزتها ومناطق سيطرتها المختلفة إلى كانتونات مقسمة ومكتظة.
الصراع على خلافة أبي مازن
لا تجري محاولة إعادة ترتيب الأطر القيادية في المنظمة بمعزل عن الأزمة العميقة التي تعصف بحركة فتح التي تسيطر على مؤسسات المنظمة والسلطة. ويعتبر الصراع على خلافة أبي مازن داخل أطر حركة فتح والسلطة الفلسطينية نقطة ارتكاز لفهم أعمق للتطورات المتسارعة التي تعصف بالنظام السياسي الفلسطيني وبنية السلطة الفلسطينية؛ حيث تتجه أعين جميع المتنافسين سواء داخل حركة فتح أو المنظمة للموقع الأهم وهو رئاسة السلطة الفلسطينية؛ فقد استغل أبو مازن سيطرة حماس على قطاع غزة صيف عام 2007 لتعزيز مكانته السلطوية وهيمنته داخل النظام السياسي الفلسطيني. وبعد خسارة فتح للانتخابات التشريعية عام 2006 أمام حماس، سعى أبو مازن لتحويل هذه الخسارة إلى نصر شخصي في الضفة الغربية من خلال العمل على تصفية نفوذ حركة حماس التنظيمي من جهة، وإقصاء منافسيه داخل النظام لضمان بقائه وتثبيت أركان حكمه من جهة أخرى. غير أن سعي أبي مازن لإقصاء منافسيه داخل فتح أدَّى إلى زيادة التصدعات في جسم الحركة، وخاصة مع تيار محمد دحلان، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن خان يونس وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح.
أدرك أبو مازن قدرة دحلان، الذي يعيش حاليًا في الإمارات العربية المتحدة، على توظيف المال السياسي والتأثير على شبكة أبي مازن الزبائنية، وبالتالي تثبيت موقعه داخل النظام. ولهذا السبب بالتحديد، طرد أبو مازن دحلان من حركة فتح في يونيو/حزيران 2011. ومنذ ذلك الحين، يتبادل الطرفان تهمًا بالفساد المالي والإداري والسياسي، حتى إن أبا مازن لمَّح إلى أن دحلان كان له يد في اغتيال عرفات. ولم يكتف أبو مازن بطرد دحلان، بل شنَّ حملة قمع غير مسبوقة ضد شبكات دعمه في الضفة الغربية.
رغم أن دحلان لم يعلن حتى اللحظة رغبته في المنافسة على خلافة أبي مازن، إلا أنه القيادي الأبرز الذي تحدى سلطة أبي مازن وهيمنته على مفاصل السلطة علنًا؛ فقد وجَّه مئات الملايين من الدولارات خلال السنوات الماضية لبناء قاعدة شعبية في قطاع غزة والضفة الغربية(8) لمنافسة شبكة أبي مازن الزبائنية. ورغم الضربات المتتالية من قبل أبي مازن لقواعد دحلان ومؤيديه في الضفة إلا أن شعبيته في قطاع غزة لا تزال مؤثرة وخاصة بين قيادات وأعضاء حركة فتح. ويُعتقد على نطاق واسع أن هناك تأييدًا لدحلان ضمن أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح والمجلس الثوري للحركة، بالإضافة إلى دوائر مقربة من أبي مازن.
إلا أن دحلان ليس وحده من ينافس أبا مازن؛ فاستطلاعات الرأي العام تمنح مروان البرغوثي الأفضلية ضمن جميع المرشحين المحتملين لرئاسة السلطة في حال إجراء انتخابات جديدة؛ فقد أظهر أحدث استطلاعات الرأي أنه إذا كانت هنالك منافسة على الرئاسة بين “مروان البرغوثي وإسماعيل هنية”، فإن البرغوثي سيحصل على 58% وهنية على 36% (من أصوات الفلسطينيين). أمَّا لو انحصرت المنافسة بين الرئيس أبي مازن ومروان البرغوثي وإسماعيل هنية، فإن أبا مازن سيحصل على 25% والبرغوثي على 38% وهنية على 34%(9). ولا يتمتع البرغوثي فقط بجماهيرية شعبية خاصة في الضفة الغربية، بل يُعتبر أيضًا أحد أبرز أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح بعدما تم انتخابه غيابيًّا في انتخابات حركة فتح الداخلية في بيت لحم عام 2008. كما أن سمعته غير ملوثة بالفساد.
لقد سعى البرغوثي بشكل جدي لمنافسة أبي مازن في انتخابات عام 2005 ومن المتوقع أن يرشح نفسه مجددًا لأية انتخابات رئاسية قادمة؛ حيث يعتقد هو وأنصاره أنه الأقدر على خلافة نهج ياسر عرفات وإدارة التناقضات المختلفة داخل حركة فتح. غير أن البرغوثي يقضي حُكمًا بالسجن مدى الحياة في السجون الإسرائيلية، ومن المستبعد أن تفرج عنه إسرائيل في حال فوزه في أية انتخابات قادمة.
وضمن دائرة المقربين من أبي مازن، يطمح كل من صائب عريقات وجبريل الرجوب واللواء ماجد فرج للوصول إلى كرسي الرئاسة. ويُعتبر عريقات الأوفر حظًّا لخلافة أبي مازن بعد ترقيته لأمين سرِّ منظمة التحرير وإمكانية قبوله إسرائيليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، لكنه يفتقد إلى قاعدة دعم شعبية داخل حركة فتح وخاصة ضمن الأجهزة الأمنية، وهو ما سيعرِّضه سواء للابتزاز أو الفشل في إمساك مقاليد الأمور وإدارة المصالح المتناقضة داخل حركة فتح وأجهزة السلطة. في المقابل، يعتبر كل من الرجوب، مدير الأمن الوقائي السابق في الضفة الغربية، واللواء ماجد فرج، رئيس جهاز الاستخبارات الفلسطينية، الأقدر على إدارة التناقضات داخل حركة فتح وترويض الأجهزة الأمنية، ويرجع ذلك إلى نفوذ الرجلين الواسع داخل هذه الأجهزة وخاصة فرج. ورغم أن الرجوب الذي لا يُخفي عداوته العلنية لدحلان، يتمتع بدعم جيد بين نشطاء حركة فتح إلا أن صورته قد اهتزت في الشارع الفلسطيني مؤخرًا بعد سحبه اقتراحًا يهدف إلى معاقبة إسرائيل من طرف منظمة الفيفا في مايو/أيار الماضي، وهو ما يُضعف حظوظه في نيل ثقة الشعب الفلسطيني.
وبالنسبة للواء ماجد فرج فقد بدأ اسمه يلوح في الأفق في الآونة الأخيرة كأحد أبرز الشخصيات المرشحة لخلافة أبي مازن، وهو شخصية مقربة جدًّا من أبي مازن ويرافقه في أغلب مهامه الخارجية. وفي السنوات القليلة الماضية بدأ نفوذه في التوسع باطِّراد داخل أجهزة السلطة وخاصة الأمنية؛ فقد ترأس جهاز الأمن الوقائي في بعض محافظات الضفة قبل أن يُعيَّن قائدًا لجهاز الاستخبارات العسكرية عام 2006 ومن ثم رئيسًا لجهاز الاستخبارات الفلسطينية. وقد لعب فرج دورًا بارزًا في المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية التي أدارها العام الماضي وزير الخارجية الأميركي جون كيري. كما كان له دور حيوي في ملف المصالحة الفلسطينية والمفاوضات ما بين حركتي فتح وحماس. وفي ظل ظروف استثنائية وللمحافظة على عدم انهيار النظام القائم قد يصبح فرج المرشح الأوفر حظًّا لتولي الرئاسة.
أزمة الشرعية
لا تواجه خطوات أبي مازن تحديات داخلية فقط، بل أيضًا منافسة شديدة من حركة حماس التي اكتسحت انتخابات عام 2006 وتسيطر بشكل محكم على قطاع غزة منذ الانقسام الفلسطيني عام 2007. وفي حال وفاة أبي مازن أو شغور منصب الرئاسة، فإن القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية ينص على أن خليفته يجب أن يكون رئيس المجلس التشريعي لمدة 60 يومًا تُجرى بعدها انتخابات عامة، وهو الإجراء الذي تم اتباعه بعد وفاة ياسر عرفات وتولى رئيس المجلس التشريعي آنذاك، روحي فتوح، الرئاسة حتى انتخاب أبي مازن.
تختلف الصورة هذه المرة عمَّا كان عليه الوضع عام 2005؛ فقد مضى عشر سنوات على آخر انتخابات رئاسية وتسع سنوات على الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حركة حماس، منافس فتح الأقوى. فبعد سيطرة حماس على قطاع غزة في صيف 2007، لجأ أبو مازن إلى تعطيل المجلس التشريعي الذي يعتبر البوابة الرئيسية لأي تغييرات في بنية السلطة. وبينما تصر حماس على أن رئيس المجلس التشريعي لا يزال عزيز الدويك، وهو أحد أبرز قيادات حماس في الضفة الغربية، فإن فتح لا تعترف بهذا الواقع. وفي حال شغور منصب الرئيس، سوف تطالب حماس باحترام الإجراءات القانونية والدستورية، والتي سترفضها حركة فتح التي لا تعترف بشرعية الدويك. إن أي تغييرات تتجاهل حماس، وخاصة إذا أقدم أبو مازن على تعيين نائب له مخالفًا القانون الأساسي الفلسطيني، للالتفاف على الحركة، سيعمِّق الانقسام الفلسطيني ويدفع إلى ترسيخ الانقسام ما بين الضفة وغزة، وبالتالي تعميق أزمة النظام السياسي الفلسطيني.
التشابكات الإسرائيلية، الإقليمية، الدولية
رغم أهمية التوازنات الداخلية في تحديد الرئيس القادم للسلطة إلا أن الموافقة الإسرائيلية والإقليمية والدولية تعتبر ضرورية لأي رئيس قادم، وحسب أحد الوزراء السابقين، فإن العامل الحاسم الذي سيحدد الرئيس القادم لن يكون حركة فتح أو الشعب الفلسطيني، بل نتيجة التوافقات الإسرائيلية والإقليمية والدولية. ولينال خليفة أبي مازن القبول، يجب أن يحصل على موافقة هذه الأطراف جميعها(10)، ولن يتمكن أي رئيس قادم من الحكم وإدارة شؤون السلطة بدون الموافقة الإسرائيلية. ورغم أن إسرائيل لم تصرِّح حتى الآن بشكل رسمي عن موقفها تجاه خلافة أبي مازن، إلا أنها سوف تحرص على أن يكون أي رئيس قادم من ضمن تركيبة قيادة السلطة الحالية، ولن تبدي اعتراضها على أي مرشح محتمل طالما سار على نهج أبي مازن وقَبِل الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية وخضع للشروط الإسرائيلية وخاصة فيما يتعلق بالتنسيق الأمني ومحاربة حماس والمقاومة في الضفة الغربية.
نتيجة للتداخل والتشابك بين أجهزة السلطة خاصة الأمنية، مع المحاور الإقليمية والدولية ستكون أيضًا عملية الاختيار ليست سهلة؛ فبينما ستدفع مصر والإمارات العربية بمحمد دحلان كمرشح محتمل، ربما تجد أطراف دولية أخرى في ماجد فرج أو صائب عريقات خيارًا أفضل. ويسعى دحلان في الآونة الأخيرة لتشكيل محور إقليمي بالتعاون مع مصر والإمارات وبمساعدة من بعض كبار مسؤولي السلطة، وهو ما قد يدعمه لترتيب المرحلة الانتقالية لخلافة أبي مازن. وقد يكون دحلان، المدعوم من دولة الإمارات العربية وله علاقات وثيقة مع النظام المصري، خيارًا مقبولًا إقليميًّا أكثر من أي قيادي فلسطيني آخر؛ حيث ترى فيه مصر حليفًا محتملًا في الحرب الإقليمية على جماعة الإخوان المسلمين وحركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، لذلك ستضع ثقلها خلفه. أمَّا منافسه الرجوب فقد زادت متاعبه في الإقليم حينما لم يدعم بشكل واضح ترشح الأمير علي رئيسًا للفيفا، وهو ما أغضب الأردن التي هددت بمعاقبته.
ويحتفظ ماجد فرج أيضًا بعلاقات متشعبة ليس فقط إقليميًّا بل أيضًا دوليًّا، ويُنسب له دور حيوي في عمليات استخباراتية معقدة في الشرق الأوسط لصالح أجهزة استخبارات عالمية متحالف معها، وخاصة عملية اعتقال القيادي في القاعدة أبي أنس الليبي من قِبل الولايات المتحدة الأميركية، المتهم الأول في قضية تفجير سفارتي الولايات المتحدة في دار السلام ونيروبي عام 1998.
خاتمة
رغم اعتقاد البعض أن خطوة أبي مازن جاءت لقطع الطريق أمام تحركات حماس الهادفة إلى التوصل إلى هدنة طويلة الأمد في قطاع غزة مع إسرائيل، إلا أن العامل الداخلي وترتيب خلافته في السلطة يبقى العامل الأهم. ولكن في ظل حكم أبي مازن الشمولي وشبكة المصالح المعقدة التي يحكم من خلالها سيكون تحول القيادة محفوفًا بالمخاطر ونتائجه غير متوقعة، وذلك بسبب المصالح الفئوية المتناقضة والأجندات الخارجية المختلفة. ويزداد تعقيد هذا المشهد إذا أخذنا بعين الاعتبار فشل حركة فتح حتى الآن في تجديد بنيتها القيادية بعد فشلها في عقد مؤتمرها السابع لانتخاب قياداتها في المجلس الثوري واللجنة المركزية، والأهم انتخاب رئيس جديد للحركة. وفي حال انعقاد المؤتمر في نوفمبر/تشرين الثاني القادم (كما أعلنه بعض قيادات الحركة) سوف تحاول الحركة الحفاظ على قشرة الإجماع داخلها. ويُعتبر ذلك صعبًا ما لم يتم الأخذ بعين الاعتبار احتياجات المصالحة مع محمد دحلان وأنصاره، وهو ما يبدو غير متاح في هذه المرحلة.
لا أحد ينكر الأزمة العميقة التي تعانيها حركة فتح، والتي تتزامن مع قرب انتقال القيادة وضبابية السيناريوهات المتوقعة. ومع توقعات كثيرة، حتى من ضمن قيادات حركة فتح بأن اليوم التالي لأبي مازن سيشهد على الأغلب فوضى وصراعات شديدة على المواقع القيادية التي يحتلها أبو مازن (وخاصة في حركة فتح والسلطة والمنظمة) إلا أن ذلك لا يعتبر السيناريو الوحيد؛ فربما ستدفع شبكة المصالح المعقدة التي تم بناؤها خلال السنوات الماضية الجميع إلى التعاون في التوافق على خليفة لأبي مازن، لإعادة تجديد الهيئات القيادية للحركة، والمحافظة على استقرار النظام وعدم إعطاء حماس فرصة لمراكمة إنجازاتها والاستفادة من أزمات فتح الداخلية.
من الواضح أن جميع العوامل التي أدت خلال السنوات الماضية إلى أزمات متتالية في السلطة تقود حاليًا إلى أزمة لا يمكن تجنبها، خاصة في سياق انهيار عملية السلام وفشل حركة فتح في التوافق على خليفة لأبي مازن، وهو ما قد يؤدي إلى تمزق الحركة وفتح الباب أمام إمكانية انهيار السلطة.
في ظل هذه الأزمات المعقدة التي تعصف بالسلطة والحركة، لم يتبقَّ أمام الفلسطينيين سوى الذهاب مجددًا للتفاهمات الداخلية وإعادة تجديد بنية النظام السياسي من خلال إعادة إصلاح وتفعيل ليس فقط أجهزة السلطة بل ومنظمة التحرير. لكن يبدو أن هذا الخيار ليس مطروحًا بعدُ ضمن جدول أعمال اللاعبين الرئيسيين.
______________________________________
المصادر
1- رفض عبد ربه في البداية قبول قرار إقالته معلِّلًا ذلك بأن “عباس لا يملك صلاحية إقالته من منصبه، مؤكدًا أن هذا من شأن اللجنة التنفيذية بكامل أعضائها، وأن منصبه ليس وظيفة، وهو منتخَب من قِبل الأعضاء كما أن الرئيس منتخب”، لكنه رضح فيما بعد لقرار إقالته واعترف بالواقع الجديد. انظر: موقع الجزيرة نت، ياسر عبد ربه يرفض قرار إعفائه، بتاريخ: 1 يوليو/تموز 2015،
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/7/1/%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%B1-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%B1%D8%A8%D9%87-%D9%8A%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B1-%D8%A5%D8%B9%D9%81%D8%A7%D8%A6%D9%87
2- موقع الجزيرة نت، عباس يكلِّف عريقات بمهام عبد ربه، بتاريخ 4 يوليو/تموز 2015،
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2015/7/4/%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B3-%D9%8A%D9%83%D9%84%D9%81-%D8%B9%D8%B1%D9%8A%D9%82%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D9%85%D9%87%D8%A7%D9%85-%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%B1-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%B1%D8%A8%D9%87
3- مقابلة مع أحد الوزراء السابقين في السلطة الفلسطينية، فضَّل عدم الكشف عن اسمه، بتاريخ: 15 أغسطس/آب 2015.
4- يعتقد الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني (79%) بوجود فساد في مؤسسات السلطة، كما جاء في أحدث استطلاعات الرأي التي يجريها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله، انظر المزيد: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رام الله، 4-6 يونيو/حزيران 2015. ويمكن الاطِّلاع على الاستطلاع من خلال الرابط التالي: http://www.pcpsr.org/ar/node/614
5- مقابلة مع مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للسلطة فضَّل عدم ذكر اسمه، بتاريخ 16 أغسطس/آب 2015.
6- ديوان الموظفين العام (دولة فلسطين)، نبذة عامة عن الوظيفة العمومية. يمكن قراءة المزيد من خلال الرابط التالي:http://www.gpc.pna.ps/diwan/arabic/aboutUs/aboutCivilService.jsp
7- مقابلة مع أحد الوزراء السابقين في السلطة الفلسطينية والذي فضَّل عدم الكشف عن اسمه، بتاريخ 15 أغسطس/آب 2015.
8- مقابلة مع مسؤول سابق في جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للسلطة فضَّل عدم ذكر اسمه، 16 أغسطس/آب 2015.
9- المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، رام الله، 4-6 يونيو/حزيران 2015. يمكن الاطلاع على الاستطلاع من خلال الرابط التالي:http://www.pcpsr.org/ar/node/614
10- مقابلة مع أحد الوزراء السابقين في السلطة الفلسطينية والذي فضَّل عدم الكشف عن اسمه، بتاريخ 15 أغسطس/آب 2015.
د. محمود جرابعة
مركز الجزيرة للدراسات