تناولنا في الجزء الأول من هذه الدراسة أهمية الصورة الصحفية في الحروب والثورات، وركزنا على توظيف الصورة الصحفية في الحروب الأولى التي شهدت تغطية مصورة بمعيار ذلك الزمان الذي كانت توجد فيه تغطية مصورة ولكن لم يكن بالإمكان إنتاج هذه الصور لتظهر على صفحات الصحف، فكان الرسامون ينقلونها بريشتهم لكي يمكن طباعتها مصاحبة لقصص المعارك في ميادين القتال، وأوضحنا نشوء التصوير الحربي وظهور أول مصور عسكري. وفي الجزء الثاني من الدراسة نتناول توظيف الصورة الصحفية في سائر الحروب، بدايةً من الحرب العالمية الثانية وحتى حرب أكتوبر 1973.
كانت الصورة التي التقطها المصور جورج ستروك Goerge Strock من أقوى صور الحرب العالمية الثانية لجثثِ القتلى من الجنودِ الأمريكيين يغطيها الدود
أولا- الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)
عندما قامت القواتُ العسكرية الألمانية بالهجوم على بولندا في سبتمبر 1939، انتشر صراع الكلمة، وانهمرت الصورُ بشكلٍ سريع من خلال وسائل الإعلام، مما دفع أحد الباحثين بالولايات المتحدة الأمريكية إلى دراسة الصور الفوتوغرافية لغزو بولندا في أربع صحفٍ أمريكية هي “نيويورك تايمز” New York Times و”شيكاغو تريبيون” Chicago Tribune و”شيكاغو ديلي نيوز” Chicago Daily News و”نيويورك هيرالد تريبيون” New York Herald Tribune.
وكشفت الدراسةُ عن قدرة القراء على رؤية وتفهم تطور الصراع من خلال الصورة الصحفية المتعلقة بالهجوم؛ فقدمت الصور الصحفية للشعب الأمريكى تصورًا مرعبًا عن القوة العسكرية الألمانية تزحف على طول الطريق، وتعبر الأنهار وتبني الجسور، وصور تحرك المعدات العسكرية وانتقال القناصين، وصور قهر الجيش الألماني والأسطول البحري للقوات البولندية، والصور التي تُظهر الخرابَ والدمار اللذين نتجا عن الغزو الألماني، وصور الألغام والقذائف المتفجرة وصور حرق البيوت وخطوط السكك الحديدية والكباري والطائرات المحطمة، وصور الأسرى البولنديين والجنود الألمان يقومون بترحيلهم إلى السجن العسكري، وصور لمواطنين بولنديين يرحبون بالجيش الألماني، وصور هتلر وقواته العسكرية وهي تواصل الغزو، وصور هتلر وهو يراقب جيشه في المعركة ويزور قواته على جبهات القتال ويتشاور مع الضباط والدبلوماسيين ومع الشعب الألماني. وتوصلت الدراسة إلى أن قلة عدد الصور التي صورت إرادة الشعب البولندي لمقاومة الاحتلال الألماني، وقلة صور الجرحى والموتى الألمان أسهمت في تكوين صورة ذهنية عن القوة العسكرية الألمانية وقدرتها على حسم المعارك لصالحها.
ومع ازديادِ شراسةِ الحرب وفرض الرقابة العسكرية على المواد الإعلامية، نقلت الصورُ الصحفية أخبار الحرب ومآسيها. وكشفت عن الجرائم التي تُرتكب في الحرب وبخاصة التي قام بها النازيون. فالاتهامات التي وجهت للنازيين والفاشيين والمتعلقة بغزو بولندا وإثيوبيا أثناء الحرب العالمية الثانية كانت مُقنعة لعديدٍ من المتشككين من خلال الصور المنشورة التي عكست وحشية الغزو.
وكانت الصورة التي التقطها المصور جورج ستروك Goerge Strock من أقوى صور الحرب العالمية الثانية لجثثِ القتلى من الجنودِ الأمريكيين يغطيها الدود، ونشرتها مجلة ” لايف” Life مصحوبة بتعليق: “هذه أول صورة لجنود الحرب العالمية الثانية”، حتى قالت سوزان موللر Suzan Muller”إن هذه الصور شكلت صدمة للشعب الأمريكي”.
وفي هذا السياق أجرى ماك دانيال Mc Daniel دراسة عن الصحافة الأمريكية المصورة. وأكدت الدراسة أن الصور استطاعت أن تثير الشعور الوطني لدى الجمهور الأمريكي في الحرب العالمية الثانية، وتزيد من تحملهم لتبعات الحرب، كما توصلت دراسة أخرى إلى أن المصورين الحربيين قدموا للشعب الأمريكي صورًا انتقائية للحرب، حيث مجدت الخير ضد الشر. ولقد كان المصورون يقفون أمام الموت غير متمالكين لأنفسهم، وكأن ثمة خوفًا يحول دون اقترابهم من الأحداث.
وفي صباح يوم 6 أغسطس 1945، في ضاحية “ميدوريماشي” على أطراف مدينة هيروشيما اليابانية، كان “ماتسوشيفي” المصور الصحفي الياباني لصحيفة ” شيمبون ” اليابانية اليومية يتناول إفطاره حين شعر فجأة بضغط هائل من اللا شيء يقذفه قريبًا من منزله، وعلى أثره فقد الوعى وحين أفاق وجد أن كل شيء حوله قد تحطم، وبعد ساعة من هروبه مع زوجته إلى أحد الحقول عاد إلى منزله وأخذ آلة التصوير متجهًا صوب المدينة، ولمدة ساعتين صور فيلمًا واحدًا فقط، لأن مواد التصوير كانت كالمواد الغذائية مقننة في اليابان في زمن الحرب، وقد كان لديه الصور الوحيدة التي التقطت بعد قليل من إلقاء القنبلة النووية على المدينة، ويذكر المصور في مذكراته: “إن ما شاهدته كان رهيبًا، حيث إنني كنت كالمشلول وعيناي كانت تملؤهما الدموع ولم أتمكن من وضع العدسة على عيني بصورة دقيقة، وأن إحدى الصور التي أخذتها في ذلك الوقت كانت أفظع صورة حربية في حياتي المهنية، حيث أُضيئت عن طريق ألسنة النيران للقنبلة الرهيبة، خمس صور فقط من الفيلم الذي صوره، إذ إن الصور الأخرى أتلفتها الإشعاعات الذرية. وفي شهر يوليو1945، دُعي المصور الياباني للمثول أمام الأركان العامة في هيروشيما وطُلب منه تسليم صوره؛ لأنها حسب رأي رئاسة الأركان سوف تصدم الرأي العام، وقد أدى نشر هذه الصور إلى حذف المدينة من خريطة العالم وإعلان الولايات المتحدة الأمريكية نهاية الحرب العالمية الثانية دون شروط.
ثانيا- حرب فلسطين 1948
تعددت الأدوات الإعلامية المصرية التي استخدمت في تغطية الحروب العربية الإسرائيلية، وكانت الصور الصحفية إحدى أبرز هذه الأدوات، فقد أدرك الصحفيون أن الصور الصحفية الجيدة لا تستخدم لمجرد إضفاء الجاذبية على الصفحات، وإنما لمساعدة القراء على فهم الموضوعات وحثهم على قراءة أكثر عمقًا بتقديم معلوماتٍ مصورة واضحة بتأثيرٍ درامي، يوازن بين القيم الخبرية والتأثيرات المرئية ويؤثر المحتوى على مجرد العرض، ذلك أن الكلمات مهما بلغت قوتها وبلاغتها لا تستطيع أن تصفَ الحدثَ مثل الصور التي تمكننا من مواجهة مشاعرنا وملاحظة مشاعر الآخرين مما يجعلها وثيقة الصلة بتفاصيلِ أحداثِ الحياةِ اليومية.
ومنذ إعلان دولة إسرائيل في 14 مايو 1948، كانت الحروب العربية الإسرائيلية نقاط انفجار متتالية لهذا الصراع الذي شهد حروب 1948، 1956، 1967، 1973، بالإضافة إلى 1982 حينما غزت إسرائيل لبنان، وهو ما دعى الكاتب الإسرائيلي آفي شليم إلى القول بأن “إسرائيل قد دخلت التاريخ من خلال بوابة الحرب ضد العرب عام 1948، وكانت بالنسبة للإسرائيليين حرب حياة أو موت، وخلقت هذه الحرب قناعة صهيونية بأن الدولة التي خلقت بالسيف يجب أن تعيش بالسيف.
وفي نفس العام طار المصور محمد يوسف إلى فلسطين ليسجل بعدسته المواقع والأحداث والمعارك، وعاد من هناك ومعه مجموعة صور أبرزها صورة ليس بها جندي واحد ولا أثر من آثار المعركة، إنما كانت صورة “حلوى (بقلاوة) بجوارها رصاص ومسدسات وقنابل”، ونشرت الصورة صحيفة “أخبار اليوم” وكانت تمثل تحولًا كبيرًا في التصوير الصحفي، لقد عبرت هذه الصورة عن معنًى كبير عجزت الصورُ الأخرى عن التعبير عنه”.
وليس ذلك فقط، بل لعبت صور المأساة في البوسنة والهرسك وصور جياع الصومال وصور الجفاف وحروب الدول الفقيرة في بعض القرارات الإنسانية وإن لم تدفع للساحة قرارًا سياسيًا بإنهاء تلك الصراعات إلا أنها حركت بعض الضمائر ضد هذا الظلم.
ولقد اهتمت الصحف المصرية بالتغطية الصحفية المصورة للحروب والأزمات المختلفة فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد أن صحيفة “أخبار اليوم” قد شهدت العديد من الحروب التي خاضتها مصر، والتي تتمثل في حرب فلسطين 1948، والعدوان الثلاثى على مصر 1956، وحرب 1967، وحرب 1973، وقد نشرت صورًا عن معظم هذه الحروب، مما كان يمثل عنصر إثارة للقارئ الذي أخذت الصحيفة تنقله إلى أرض المعركة ليشارك فيها بوجدانه.
وجاءت أحداث لبنان الدامية في يونيو/ حزيران الأسود الكئيب عام 1976، التي سجلتها ألوف الصور والأهوال التي عاشها الفلسطينيون واللبنانيون وهم يتركون بيوتهم وأرضهم هربًا من أبشع سلاح استخدم في أخس حرب.. جثث بالألوف.. بشر أحياء تحاصرهم أدوات الموت في مساحة لا تتعدى 9 كيلو مترات من الأمتار المربعة هي كل بيروت الغربية.. كل هذا العذاب مسجل بالصور ومن بينها الصورة الشهيرة لطفل رضيع بترت القنابل الإسرائيلية يديه.. القنابل الفسفورية والعنقودية تتساقط على الرؤوس كالمطر، ومع هذا أثبت الإنسان العربي أنه فوق كل المخاطر.. وليس أدل على هذا الثبات من آلاف الصور للإنسان العربي في مواجهة الخطر نقلتها إلى بصر وعقل العالم عدسات مصوري الإعلام الغربي.
ومن لا يقدر حتى الآن حجم المأساة عليه أن ينظر إلى الصور التي لعلها أول مرة في التاريخ يعترف فيها المجتمع الدولى باستخدام سلاح الصورة ضد الدولة لكشف جرائمها وإبقاء هذه الجرائم حية مستعرة كالنار تلهب بها الضمير الإنساني في كل مكان وزمان.
لعبت الصور في بعض القرارات الإنسانية، وإن لم تدفع للساحة قرارًا سياسيًا بإنهاء تلك الصراعات، إلا أنها حركت بعض الضمائر ضد هذا الظلم
ثالثا- الحرب الكورية – الصينية 1950
أما عن الصور الصحفية للحرب الكورية – الصينية في الثاني من نوفمبر 1950، أجرى “شيرير” Sherer دراسة لمقارنة صور الحربين الكورية والفيتنامية التي نُشرت في المجلات الأمريكية “لايف” Life و”تايم” Time و”نيوزويك” Newsweek، ووجد الباحث أنه في ظل تعتيم إعلامي جاءت الصور الفوتوغرافية المنشورة عن الحرب الكورية قد صُورت قبل أو بعد المعارك. فكانت صورًا لرجال عائدين من المعركة أو صورَ جنودٍ يوجدون في مناطق آمنة بعيدة عن خطوط المواجهة. ولم تظهر أية صورة تُجسد ردَ فعلِ الجمهور تجاه الحرب أو صور معاناة، كما ركزت الصور على عرض مأساة ذات وجهين: مأساة الجندي الأمريكي الذي يخوض حربًا لم يفهمها، ومأساة دولة تُمَزق من جراء الصراع.
وعندما أعلن الرئيس الأمريكي جون كيندي آنذاك فرض الحصار على كوبا لوجود صواريخ نووية روسية فوق أرضها، الأمر الذي أنكره الروس وجعلهم في مواجهة مباشرة في البحر الكاريبي ومجلس الأمن. وقد كان نشر الصور التي تثبت وجود الصواريخ من قبل المندوب الأمريكي حافزًا لتوقيع معاهدة حظر استعمال الأسلحة النووية في 28 أكتوبر 1962، مما أنقذ العالم من حدوث كارثة نووية.
رابعا- حرب 1956( العدوان الثلاثي على مصر)
جاءت هذه الحرب نتيجة مباشرة لتأميم شركة قناة السويس إلى جانب تأييد الثورة المصرية لثورة الجزائر، وبعد عقد صفقة الأسلحة التشيكية كان من المتوقع أن يحدث العدوان الثلاثى على مصر، حيث إن كلَ طرف من الأطراف كان يمارس لعبة الحرب لهدف في نفسه، وانتهى الموقف بإعلان الحرب على مصر في 29 أكتوبر سنة 1956.
وفس الحقيقة أنه رغم ظروف الحرب ورغم أن الرقابة العسكرية كانت إجراءً تُحتمه ظروف أمن الدولة وسلامتها، فإن الصحافة المصرية لم تجد ظلًا للرقيب داخل أروقتها، وكان الالتزام صورة واضحة لدى كل الصحفيين بلا استثناء. ومنذ اللحظة الأولى لممارسة العمل الإعلامي الصحفي أثناء حرب السويس كان تحديد الأفكار التي يجب أن تسيطر على العمل هو أهم ما تسعى إليه الصحافة المصرية. فلقد فشلت خطة العدوان الثلاثي الإعلامية، خاصةً وأن الصحافة جسدت كل ما حدث في بورسعيد من عُدوانٍ وحشي بالوصف والصورة، بل لقد كانت الصحافة تستشهد بما تنشره الصحف الفرنسية والبريطانية ومواقف الرأي العام في البلديْن ضد حكومتيْهما.
فعندما انسحبت القواتُ المصرية المسلحة من سيناء، وبدأت خيوط المؤامرة تتضح من خلال اتجاه بريطانيا وفرنسا لغزو بورسعيد نشرت الصحف المصرية هذه الأخبار، ووضعت تحليلا لأسباب الانسحاب. ووضعت كل الأخبار والصور تحت يد الصحافة، بل كانت هناك تسهيلات تمنح للصحفيين للسفر إلى جبهة القتال كمراسلين حربيين، حيث كان الطريقُ بين القاهرة والسويس والإسماعيلية وبورسعيد مفتوحا أمام الصحفيين، وكانت الاتصالات – التليفونية مستمرة بينهم وبين دور الصحف، إلى جانب هذا لم يقف نشاطُ الصحفيين عند نقل الاخبار التي يصلون إليها بأنفسهم بل كانوا يحصلون على قصصِ المقاومة ضد الغزاة من أفواهِ المناضلين والفدائيين.
ومن هنا تكمن أهمية دراسة فاعلية استخدام الأدوات الإعلامية المصرية المختلفة أثناء الحروب العربية الإسرائيلية، وتقييم الدور التي قامت به الصور الصحفية كأداةٍ إعلامية في هذا المجال، نظرًا لما تتمتع به الصور من مزايا وإمكانات خاصة، وخيرُ دليلٍ على ذلك أن هناك قطاعات كبيرة من شعوب أوربا الغربية كانت تعتقد بشرعية العدوان الثلاثى على مصر عام 1956، رغم جهد كُتَابِنا ومكاتبنا الإعلامية في الخارج في الرد على ما يُنشر، حتى نُشرت مجموعةُ الصور التي التقطها المصور السويدي العالمي آندرسون لآثار العدوان الثلاثي على بورسعيد والتي هزت الضمير العالمي، كما أن الصور التي نُشرت عالميًا للعدوان الإسرائيلي على مدرسة أطفال في منطقة بحر البقر أواخر الستينيات أحدثت تأثيرًا عميقًا لدى قطاعات عديدة من شعوب أوربا ما كان يثيرها شيء من عدوانٍ إسرائيلي على إحدى الدول العربية.
خامسا- حرب فيتنام 1963
أوضحت الحربُ الفيتنامية عام 1963 الدور المهم والمؤثر الذي قامت به الصور الصحفية بتعبئة الرأى العام الدولي ضد الحرب الأمريكية في فيتنام. فكان عدد مجلة “لايف” Life الصادر في 2 يوليو 1965 مليئًا بصورٍ في قمة الإثارة للحرب التقطها المصور “هورست فاس”، وكانت الصورُ لجنودٍ أمريكيين جرحى ملامح الألم بادية على وجوههم، أطفال فيتناميون جرحى مع عائلاتهم المذعورة، جثث مشوهة لرجال “الفيتكونج”، لاجئون، جندي دامع العينين، فكانت هذه الصور الوجه الحقيقي بلا رقابة.
كما أجرت مجلة “نيوزويك” Newsweek مع بداية الحرب الفيتنامية استفتاءً للرأي تبين فيه أن 64% من الأشخاص كانوا مع متابعة الحرب في فيتنام و 26% فقط كانوا ضد حرب النابالم. وبعد سنتين من بداية الحرب انعكست المعادلة ففي استطلاع للرأي أجراه معهد جالوب اتضح أن ثلثيْ الأمريكيين كانوا يرغبون في الحصول على معلومات أكثر وأوفي عن الحرب في فيتنام.
فقبل فبراير 1968، ذكر أحد الكُتَاب أن حربَ فيتنام كانت تقدم للرأي العام الأمريكي على أنها “حرب تكنولوجية نظيفة”!. وبعد عام 1968 وحصار الأيام الثمانية لمجموعة من البحرية الأمريكية من جانب القوات الفيتنامية، أصبحت وسائل الإعلام تركز على قصص التخبط والفوضى والانهيار، وتغيرت التغطية الخبرية من قرب تحقيق الانتصار إلى “فتنمة” الحرب Vietnamization of war، وظهرت القصص الخبرية عن قوة القوات الفيتنامية ومباحثات السلام وإمكانية انسحاب القوات الأمريكية من ساحة الصراع.
فصور مجزرة “ماي لاي” My-laiعام 1968 كانت بمثابة دعوى خاصة مقامة ضد الحرب الفيتنامية؛ حيث كانت الصورُ تشمل تفاصيلَ المجزرة وصورَ الضحايا من الأبرياء والمدنيين، وصورًا مثيرة للشفقة والاشمئزاز في الوقت نفسه، وكانت هذه الصور كانت أصدق شاهد ودليل على بشاعة الجريمة. وقد التقط المصور الحربي رونالد هيبيرل في 16 مارس 1968 عديدًا من الصور لهذه المجزرة، ومن أشهرها صورة لأربعة طلاب قُتلوا أثناء الاحتجاجات في جامعة كينت الأمريكية في جنوب شرق آسيا. وفي هذه الحرب كان لأول مرة في تاريخ التصوير الفوتوغرافى يقبل العالم صورًا ضد الحرب.
وفى هذا الإطار، ركز الإعلامي ماكلوهان في كتابه “الحرب والسلم في القرية الكونية” عام 1968 War and Peace in the Global Villageعلى تجربة الصورة في حرب فيتنام والدور الذي لعبته في حسم الحرب، حيث لم يعد المواطنون مشاهدين للمعارك بقدر ما أصبحوا مشاركين في الآراء والمواقف ومختلطين بالعسكريين. ومما يوجب الإشارة إليه في هذا الصدد الدراسة التي أُعدت في الولايات المتحدة الأمريكية عن صور حرب فيتنام والرأي العام من خلال تحليل مضمون (286) صورة فوتوغرافية نُشرت في ثلاث مجلات إخبارية أسبوعية وهي ” تايم” و”لايف” و”نيوزويك “، وذلك لما لهذه الصور من تأثير على الرأي العام، خاصة وأن الصور المفرغة لم يعرضها التليفزيون الأمريكي، لعدم ملائمة تقديمها في البرامج الإخبارية التي تعرض خلال فترة العشاء؛ بمعنى أن التليفزيون انتقى صور الحرب لعرضها وذلك لاعتبارات تلائم المشاهدين.
بومديْن للسادات: “إن المعارك التي تدور اليوم على جبهة القتال والجولان تؤكد قدرة أمتنا على تحمل وتقرير مصيرها وفرض إرادتها واحترامها
وتوصلت الدراسة إلى أن الرأي العام يتغير طبقا للصور المنشورة في المجلات؛ ففي الوقت الذي سيطرت صور القوات الأمريكية على أجندة المواد المصورة في المجلات، كان الرأي العام في فترة انتقالية. وعندما نشرت المجلاتُ نسبةً كبيرة من الصور لقوات التحالف والصور التي تجسد المعاناة واللحظات الحرجة قبل الموت، كان الرأى العام مؤيدًا للحرب, وبهذا كانت قوة الصـور الصحفية التي نُشرت عن حرب فيتنام أحد الأسباب الجوهرية التي جعلت فيتنام تتجاوز قوةَ الأمريكيين في الحرب، وبالتالي تلقّى الأمريكيون درسًا لن ينسوه، تمثل في عدم تمكنهم من السيطرة والتحكم في صور الحرب أدت في النهاية إلى الانسحاب الأمريكي المُهين من فيتنام.
وقد كان لانتقائيةِ الصور التي جسدت الدمارَ في حربِ فيتنام أثرٌ بالغ في إحداث الأثر الفعال وتحريك مشاعر الجماهير تجاه بشاعة الحرب، وإثارة الرأي العام الأمريكي ضد حكومته بشكل يصعب محوها من ذاكرة المجتمع الأمريكي. فعلى سبيل المثال، كانت أقوى صورتيْن نُشرتا من حرب فيتنام هما: صورة المليون متظاهر أمريكي في واشنطن ضد الحرب (21 أكتوبر 1968) وصورة لفتاةٍ فيتنامية في التاسعة من عمرها وهي تجري في شوارع فيتنام عارية بعد أن خلعت ملابسها المحترقة من الغارة الأمريكية (8 يونيه 1972)، والتي التقطها المصور الحربي كونج هيونه Cong Huynh. وقال عنها المصور الصحفي كورينل كابي Correnll Cape إن تلك الصور قامت بما لم تقم به كل المناقشات والمعارضات والمطالبات بوقف الحرب الفيتنامية.
ولقد أثارت هذه الحربُ اهتمامَ الباحثين، فأجرى شرير عام 1988 دراسة مقارنة بين الصورة الصحفية المنشورة عن كل من الحرب الكورية وحرب فيتنام في مجلتي “لايف” Life و”تايم” Time، وبلغ عدد الصور التي تمت دراستها 224صورة بواقع 94 صورة لحرب فيتنام والبقية للحرب الكورية، وقد تمثل الاختلاف في الصور المنشورة في أن أكثر من نصف الصور المنشورة عن حرب فيتنام كانت صورًا من ساحة المعركة. وكانت مشاهدَ فعلية لرجالٍ قتلى ومصابين، وصورًا تجسد حالةَ الذعرِ والتهديد بالموت في عديدٍ من المواقف، بينما كانت معظم الصور التي نُشرت عن الحرب الكورية قد التُقطت قُبيل المعارك، وكانت إما لرجالٍ عائدين من المعركة أو لجنودٍ موجودين في مناطق نائية بعيدة عن خطوط المواجهة.
وكانت لحربِ فيتنام السبق في إبرازِ التأثيرِ النفسي لنشر صور الأسرى الأمريكيين، مما جعل صورة الجندي الأمريكي الأسير سلاحًا حاسمًا في تغيير السياسة الأمريكية، وكانت لدى الصحفيين في فيتنام رعاية رسمية للذهاب إلى أي مكان تقريبًا تقودهم إليه مبادراتهم أو غرائزهم، حيث قال الكولونيل هاري سامرز “إن الجبهةَ لم تشهد مثل هذا الازدحام قط من الصحفيين، فخلال هذه الحرب أعطى الجيش الأمريكي للصحافة حريةً غير مسبوقة للدخول في ساحات القتال، وبذلك يسمح من خلال الصحفيين والمصورين والتليفزيون بنقلِ الحرب التي يقومون بها، وقد امتد هذا الرضا عن توثيق ونقل الحرب عن طريق المصورين العسكريين أنفسهم”.
ولا شك أن تجربة فيتنام هى المادة الحافزة في عملية التغيير، فقد واجهت الحكومة والمؤسسة العسكرية فيها لأول مرة واقعَ التعامل مع إعلامٍ حر وقادرٍ على الـتأثير في الرأي العام، ولا سيما عن طريق فورية ومصداقية الصور التي تُقدمها الصحافة ويُقدمها التليفزيون.
سادسا– حرب 1967
أما في حرب 1967، فلم تنشر صحيفة “أخبار اليوم” صورًا عن هذه الحرب، بل آثرت أن تصدر في أربع صفحات لتتجنب الخوض في ملابسات هذه الهزيمة، ونشرت الصحيفة صورًا عن معظم هذه الحروب (48- 56- 67- 73)، مما كان يمثل عنصرًا إثارة القارئ الذي أخذته الصحيفة تنقله إلى أرض المعركة، ليشارك فيها بوجدانه. مثل الصور التي نشرت لجثة القتيل “كاظم ” في صحيفة أخبار اليوم، بدعوى أنه زعيم الإرهابيين، حيث لقى مصرعه، بعد معركة بالرصاص بينه وبين رجال الشرطة، فنشرت الصحيفة صورة له باتساع ثلاثة أعمدة على الصفحة الأولى، تجاورها صورة شخصية للقتيل باتساع عمود واحد يصاحبها تعليق ” محمد كاظم باللحية قبل أن تكشف الشرطة عن مخبئه”، وعلى صفحة الحوادث بالعدد نفسه صورة لجثة ” كاظم في المشرحة احتلت اتساع ثلاثة أعمدة أيضًا، وصاحبها تعليق ” كاظم. …. بعد أن لقيَ مصرعه “، جثث مازالت في مشرحة مستشفى أشمون في انتظار الطبيب الشرعي، وقد ظهر وجهه ملطخًا بالدماء مما يثير القراء، بل قد ينفرهم من الصورة، وأحيانا من الصحيفة ككل.
سابعا- حرب أكتوبر 1973
أما حرب 1973 والتي بادرت فيها مصر بالهجوم، وحققت انتصارًا حاسمًا على إسرائيل أعاد الثقة وصحح الكثير من الأوضاع الخاطئة، وقام فيها الإعلام المصري بدورٍ مُخطط جعل الاستخبارات الإسرائيلية يعترف أنه كان بحوزة السادات جهاز إعلامي أنجز مهمته، وركزت الصور هنا على تكنيك التهوين من الطرف الإسرائيلي الآخر، وتتمثل في صور الإسرائيليين وصور غنائم الأسلحة، وصور لقائد إسرائيلي يستسلم، وصورة طائرات إسرائيلية محطمة.
وعند اندلاع الحرب، بعثت “أخبار اليوم” بمراسلها العسكري فاروق الشاذلي، ومصورها مكرم جاد الكريم، لنقل أحداث الحرب إلى القراء، وكان أن التقط المصورة عدة صور جيدة تجسد أحداث الحرب، اختارت الصحيفة من بينها سبع صور، ونشرتها في صفحة مصورة راعت فيها تنوع الصور في الشكل والمساحة، حتى إنها نشرت إحدى هذه الصور بعرض ثمانية أعمدة، مع توزيع بقية الصور على الصفحة، مع وضع المتن على شكل كتلة واحدة وسط هذه الصور مما أعطاه ميزة الظهور والوضوح وخاصة أن الصحيفة جمعته ببنط 14 الأسود.
وجاء في برقية أرسلها الرئيس الجزائري بومديْن إلى الرئيسِ المصري أنور السادات ونشرها “الأهرام” بتاريخ 10/10/1973:
“إن المعارك التي تدور اليوم على جبهة القتال والجولان تؤكد قدرة أمتنا على تحمل وتقرير مصيرها وفرض إرادتها واحترامها”، كما نشر “الأهرام” في العدد نفسه صورة لصف طويل من الجنود “الأسرى” الإسرائيليين جلوسًا على أرض المعسكر الذي خُصص لهم، والصورة تسجل سقوط الأسطورة الإسرائيلية .. أُسطورة الجيش الذي لا يُقهر. ولم يقتصر الإعلام على إظهار رأي العالم المحايد، بل أظهر أيضًا اعتراف قادة العدو أنفسهم بالقدرات العربية.
وفي مجالِ تغطيةِ الانتصارات العربية والخسائر الإسرائيلية، يجب أن نورد ملاحظات لها علاقة بالإعلام المصري منها، أن الإعلام المصري حاول أن يثبت موضوعيته باستخدام الصور وبقايا حطام المعركة من جهة، وباللجوء إلى اعترافات العدو من جهة ثانية، وبالاستفادة من تقارير المراسلين الدوليين من جهة ثالثة.
أ.د. شريف درويش اللبان أ. سارة أحمد يسين
المركز العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية