تشير بوصلة الإعلام الروسي الرسمي إلى بوادر شقاق بين موسكو وأنقرة، فالبرامج الحوارية التي يرتبط كثير منها بالكرملين تحولت إلى التركيز على تجاوزات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لما أعلنته روسيا “خطاً أحمر”، وكثيراً ما حذر الكرملين من مغبة تجاوزه.
ولعل ما كشفت عنه المكالمة الهاتفية التي جرت في وقت متأخر مساء الثلاثاء الماضي بين الرئيسين فلاديمير بوتين وأردوغان، وتناولت أهم النقاط المحورية التي تثير قلق البلدين، يقول إن “وراء الأكمة ما وراءها”. فالمسألة لم تعد تقتصر على ما تردد أخيراً حول الخلافات في وجهات النظر والمواقف تجاه الأوضاع في قره باغ والنزاع الأرمني الأذربيجاني، وما سبق ذلك من تجاذبات بخصوص الأوضاع في سوريا وليبيا.
أطماع أردوغان في الفضاء السوفياتي
ما إن اندلعت الخلافات الأخيرة حول قره باغ، حتى انخرط مراقبون كثر في موسكو بجدل لا يزال يحتدم حول أبعاد وطموحات أردوغان في الإمبراطورية التوسعية بعدد من مناطق الفضاء السوفياتي السابق. وذهب بعضهم بعيداً في قراءته لتاريخ المنطقة، وما شهدت من صراعات يعود بعضها إلى قرون طويلة خلت، ومنها ما شهد الصراع حول شبه جزيرة القرم.
وكانت هذه الخلافات في السنوات القليلة الماضية بلغت حداً من السخونة تجاوز حدود المعقول، لا سيما بعد إسقاط المقاتلة الروسية فوق سماء سوريا وقتل طيارها، ما كان مقدمة لقطيعة وإن لم تطل كثيراً، فإنها تظل حاضرة تُستدعى عند الضرورة.
وكان الجانبان توصلا إلى “مصالحة تاريخية” استندت إلى ما طرحه الرئيس بوتين من شروط اضطر نظيره التركي إلى الانصياع لها، بل والسفر إلى سان بطرسبورغ لتأكيد ما قبل تقديمه من ترضيات أدبية ومالية، لم يكشف أي الجانبين تفاصيلها حتى اليوم.
وما تحقق من اتفاقات ووقّع من معاهدات أسهم إلى حد كبير في تسوية ما نشب من مشكلات، لكنها لم تكن لتذيب كل ما تراكم من جليد على طريق علاقات البلدين. ومن هذا المنظور تحديداً ينبغي التوقف عند تدخل تركيا في النزاع المسلح القائم اليوم بين أذربيجان وأرمينيا، الذي يثير غضب وسخط روسيا مع كل من فرنسا والولايات المتحدة، بوصفها الثلاثي المناوب لمجموعة “مينسك”، في وقت تقول فيه أنقرة إنها تملك أيضاً الحق في التدخل، باعتبارها أحد أعضاء مجموعة “مينسك”.
لكن ما يجمعهما من نزاع تاريخي وما يصفونه من “ثأر قديم” تسبب عام 1915 في “مذبحة” للأرمن على أيدي الأتراك، يجعل تدخلها غير ذي منطق برغم تمسّك الجانب الأذري بضرورته وأهميته. ويتساءل مراقبون في موسكو، ومنهم إيرينا بوروفايا ونتاليا ماكاروفا، المعلقتان السياسيتان لموقع “غازيتا رو” الروسي الإلكتروني، عما وراء تلك الجسارة وقساوة التصريحات التي لم يسبق لها مثيل من جانب أردوغان.
لماذا يتمادى الرئيس التركي في تصلّبه إلى الحد الذي بلغ به المطالبة بمواصلة الحرب، في وقت يناشد فيه بوتين وترمب وماكرون، بوصفهم الرؤساء المناوبين لمجموعة “مينسك” التابعة للأمم المتحدة الخاصة، بتسوية النزاع الأذري-الأرمني؟
Putin, Erdogan2 2.jpg
العالم يقف أمام اختبار حقيقي للعلاقة بين روسيا وتركيا
لماذا يتحدى أردوغان بيان الرؤساء الثلاثة الذين يصدرونه للمرة الأولى منذ 2013؟ بل واستبق ذلك البيان بتصريحات أخرى قال فيها، وكأنما كان يعلم مضمونه، بضرورة أن يطالب الرؤساء الثلاثة أرمينيا بالانسحاب أولاً من الأراضي الأذربيجانية المحتلة، قبل أن يطالبوا بوقف إطلاق النار في قره باغ.
وكان البيان الصادر عن رؤساء مجموعة “مينسك” طالب الرئيسين الأذري والأرمني باستئناف محادثاتهما حول التسوية من دون قيد أو شرط. كما نقلت وكالة “تاس” الروسية عن أردوغان ما قاله حول أن أنقره تقف إلى جانب باكو انطلاقاً من مبدأ “دولتان، أمة واحدة”، ومناشدته يريفان بالتوقف عما وصفه بـ “سيل المعلومات الكاذبة والتضليل الإعلامي في حق تركيا”.
وقال رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع ورئيس تحرير مجلة “روسيا في السياسة العالمية”، والرئيس التنفيذي لمنتدى فالداي المعروف بعلاقته الوثيقة مع الكرملين، فيدور لوكيانوف، “إن أردوغان يتحدث مثلما السياسي الذي يسير على حد السيف”، مشيراً إلى أن “هذه الحرب يبدو أن أذربيجان بدأتها بموافقة ضمنية من جانب تركيا، مما يعني أن الرئيس التركي يستهدف أن يصبح أحد الرعاة الرئيسيين للمنطقة، متجاوزاً مجموعة “مينسك” من أجل كسر الإشكال الحالي، واقتحام هذه المنطقة من موقع اللاعب الرئيس لا مجرد عضو مينسك”.
معارك قره باغ اختبار حقيقي لعلاقات البلدين
ولعل ذلك يفسّر ما صدر عن الرئيس الأذري إلهام علييف من تصريحات يطالب فيها بالتحول من مجموعة “مينسك” إلى محادثات (2+2)، التي يقصد بها الجانبين المتنازعين أذربيجان وأرمينيا من جانب، وروسيا وتركيا كوسيطين من جانب آخر.
وفسّر علييف تصريحاته بقوله إن موسكو ترتبط بعلاقات وثيقة مع كل من باكو ويريفان، من دون أن يشير ولو بمجرد التلميح إلى الخلافات التاريخية التي تفرّق بين تركيا وأرمينيا. وقال علييف في تصريحاته التي أدلى بها إلى وكالة إنترفاكس الروسية، “إن ذلك سيكون مقبولاً بالنسبة إلينا لأن تركيا وروسيا جارتانا، ولهما علاقات وثيقة معنا، ويوجد سجل جيد من التعاون بينهما”. وأضاف أنهما “خلال السنوات الأخيرة أظهرتا توصلاً إلى مستوى عالٍ من التفاهم، سواء في الأجندة الثنائية أو في قضايا تتعلق بالأمن الإقليمي، وذلك ما نشاهده في سوريا وليبيا، وفي التعامل مع قضايا محاربة الإرهاب الدولي، ناهيك عن المشاريع في مجال الطاقة والمجالات الاقتصادية والاستثمارية”.
وتابع “إذا أخذنا بالاعتبار أن الانفصالية والتطرف الأرمنيين يمثلان التهديد الأكبر لنا، بل وللمنطقة ككل، فأنا أعتقد أن حشد جهود تركيا وروسيا سيخدم مصالح المنطقة، ومن شأنه أن يسهل الحل السياسي للنزاع في قره باغ”.
ومن هنا كانت تصريحات فيدور لوكيانوف، التي أشار فيها إلى “توافق مصالح موسكو وواشنطن وباريس” في ما يتعلق بقضية قره باغ، وضرورة تحديد المواقف ومحاولة التأثير في الأطراف المتحاربة واللاعبين النشطين في هذا النزاع، وتركيا تحديداً.
وذلك كله كان على ما يبدو في صدارة ما تناوله بوتين وأردوغان في مكالمتهما الهاتفية التي أجرياها بمبادرة من الأخير مساء الثلاثاء الماضي. وفي هذا الصدد أصدر الكرملين بياناً مقتضباً قال فيه إن الرئيسين تناولا “تطورات منطقة النزاع في قره باغ”، بينما أعرب عن قلقه البالغ إزاء استمرار القتال والانخراط المتزايد للإرهابيين من الشرق الأوسط في النزاع.
وبينما أشار البيان إلى أن بوتين أطلع أردوغان على اتصالاته مع قيادتي أرمينيا وأذربيجان، والخطوات التي تُتخذ من أجل تحقيق الهدنة ووقف التصعيد بأسرع ما يمكن، سارع الرئيس التركي إلى إماطة اللثام عما لم يكشف عنه الكرملين. وقال في تصريحاته أمام الكتلة البرلمانية لـ “حزب العدالة والتنمية” إن “المكالمة الهاتفية التي أجراها مع بوتين تطرقت إلى مستجدات الوضع في قره باغ، وإنه سيجري بناء على الاتفاق المبرم محادثات مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، وسيتفاوض الرئيس الروسي مع رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان”، بغية “اتخاذ خطوة صادقة في هذا النزاع، وذلك بهدف العمل معاً في سبيل إيجاد حل سلمي لما يحدث في جنوب القوقاز”.
وهكذا تتباين المواقف، وتتضح بعض أبعاد ما يفرق بين “الشريكين” اللذين طالما جمعتهما المصالح المشتركة، سواء على صعيد العلاقات الاقتصادية الثنائية أو السياسية، أو في ما يتعلق بالتعاون في إطار “التحالف الثلاثي” الذي جمع الطرفين مع إيران، ومحادثات “الأستانة” الخاصة بالتسوية السياسية في سوريا.
وها هو العالم يقف أمام اختبار حقيقي لعلاقات البلدين، في وقت يحلم فيه أردوغان بدور إقليمي، يقول مراقبون في موسكو إنه “أكبر من حجمه وقدراته الحقيقية”. وأضاف هؤلاء، ومنهم يفجيني ساتانوفسكي الرئيس الأسبق للمؤتمر اليهودي- الروسي ومدير معهد الشرق الأوسط الذي كان حتى الأمس القريب يسمى معهد الشرق الأوسط وإسرائيل، “أن أردوغان عدو لروسيا، وهو الجار الذي سيظل عدواً مهما بلغ حجم تعاونه الاقتصادي مع موسكو”. وتابع، “روسيا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما هم وإما نحن”.
وأعاد ساتانوفسكي إلى الأذهان مواقف أردوغان القريبة من أوكرانيا، ومواقفها من شبه جزيرة القرم التي ترفض الاعتراف بتبعيتها لروسيا، في وقت ثمة من يقول إن الرئيس التركي يظل يطمح ليس إلى “إعادتها إلى التبعية الأوكرانية”، بل إلى بلاده التي سبق وفقدتها في حربها مع الإمبراطورية القيصرية (1768-1774).
الخلافة الإسلامية على الطريقة التركية
وحذر ساتانوفسكي من مغبة التهادن مع أردوغان، فيما يقترب من الدعوة الصريحة إلى “استخدام القوة” لردعه والتصدي لطموحاته الإمبراطورية، والخلافة الإسلامية على الطريقة التركية، على النحو نفسه الذي حدث في ليبيا.
وفي مواقف قريبة مما قاله ساتانوفسكي، أكد المعلق السياسي ومقدم البرامج الحوارية وثيقة الصلة بالكرملين فلاديمير سولوفيوف، أن قدرات أردوغان “لا ترقى إلى حد طموحاته” بلعب دور محوري في قضايا المنطقة التي تترامى حتى آسيا الوسطى والحدود الصينية شرقاً، وليبيا وشرق المتوسط غرباً، فضلاً عن ممارساته التوسعية في كل من سوريا والعراق.
ويمضي سولوفيوف ومعه كثير من المشاركين في برامجه الحوارية، منها “أمسية مع سولوفيوف” و”سولوفيوف لايف”، و”موسكو، الكرملين، بوتين”، ليكشف عن موقف موالٍ لأرمينيا وقره باغ، محذراً من مغبة التغاضي عن طموحات أردوغان الذي يحاول استخدام أذربيجان عنصراً مساعداً لتحقيق طموحاته التوسعية. وتساءل عن مدى أبعاد مثل هذه التوجهات وأخطارها على المصالح الجيوسياسية لروسيا؟
وتأكيداً لتوافق المصالح الروسية-الأميركية تجاه هذه المسألة، استشهد سولوفيوف بما قاله الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول ضرورة دعم أرمينيا والوقوف إلى جانبها، وإشارته إلى وجود كثير من الأرمن في أميركا، وهو ما كان يبدو بمثابة الغزل مع اللوبي الأرمني قبيل الانتخابات الأميركية التي تبلغ ذروتها الثلاثاء المقبل.
وتعليقاً على تصريحات الرئيس الأذري حول مشاركة تركيا على قدم المساواة مع روسيا في مبادرته (2+2) التي أشرنا إليها، قال سولوفيوف إن ذلك يعني أن علييف “يراهن على تركيا”، وذلك يعني محاولة صدع العلاقات الروسية – الأذرية.
وعلى نحو شديد الذكاء، أعاد سولوفيوف إلى الأذهان مصالح روسيا في أرمينيا التي تملك فيها موسكو قاعدة عسكرية، إلى جانب ارتباطات التحالف معها في إطار “معاهدة الأمن الجماعي”، مؤكداً أن يريفان وليست باكو هي “الحليف” لموسكو، في الوقت الذي لا توجد أي قواعد أو مواقع عسكرية للأخيرة في أذربيجان.
لكن الأخطر يظل في ما قاله سولوفيوف، في معرض تشكيكه في حقيقة “أن قره باغ أرض أذربيجانية”. إذ قال إن إعلان السلطة السوفياتية حول ضمها إلى أذربيجان كمقاطعة ذات حكم ذاتي، لا يعني أن قره باغ لم تكن مستقلة قبل السلطة السوفياتية.
فيما تساءل: “هل انضمت قره باغ إلى أذربيجان؟”، مؤكداً في الوقت نفسه أن الإقليم لم ينضم إلى أرمينيا، بما يعنى تأكيد وجوده المستقل. وتلك قصة أخرى تظل قائمة إلى حين الحاجة إليها مع أول تطور مواجه لكل من تركيا وأذربيجان، إذا ما حسمت روسيا أمرها وقررت وضع حد للصراعات التي يتصاعد أوارها على مقربة مباشرة من حدودها الجنوبية، في توقيت تتشابك فيه المصالح الإيرانية مع أرمينيا، التي تقف على طرفي نقيض مع مصالح أنقرة وباكو، ومصالح إسرائيل في أذربيجان، التي تقف تأهباً للتعاون في تصفية حساباتهما مع طهران.
سامي عمارة
اندبندت عربي