كيف شوهت الجماعات الإسلامية نظرة أوروبا للإسلام

كيف شوهت الجماعات الإسلامية نظرة أوروبا للإسلام

ساهمت تنظيمات الإسلام السياسي في أوروبا على مدى أكثر من أربعة عقود في تشويه نظرة الأوروبيين إلى الإسلام من دين يقدس في جوهره قيم التسامح والتعايش إلى عقيدة يقترن ذكر منتسبيها بالتطرف والإرهاب لدى طيف واسع من المواطنين الأوروبيين كما بعض السياسيين. وعلى الرغم من أن التقاء أوروبا مع المسلمين ليس حديثا فإن العلاقة بين الغرب والإسلام لم تكن كما هي عليه اليوم، وقد لا تبقى على وضعها الحالي في المستقبل.

برلين- مثلت أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة منعطفا في علاقة الإسلام بالغرب وشهدت على إثرها أوروبا تحديدا تغيّرا لافتا لعلاقتها بالمسلمين وانعكس ذلك على مستوى التشريعات والقوانين بدرجة أولى مع تفاقم العمليات الإرهابية التي تعرضت لها على الرغم من أن أولئك “المسلمين” لا يمثلون الإسلام في شيء ودوافعهم تختلف بين سياسية وأيديولوجية.

ويبدو المشهد غريبا في ألمانيا اليوم، أين يدعو حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف إلى فرض حظر على النقاب والمآذن، ويرى أكثر من نصف الألمان الإسلام تهديدا. ولكن، في فترة ما بين الحربين العالميتين، تفاخرت برلين بطبقة مثقفة من المسلمين ولم تقتصر على المهاجرين والطلاب من جنوب آسيا والشرق الأوسط، بل شملت الألمان الذين اعتنقوا هذه الديانة، حينها كان الإسلام يمثّل شكلا من أشكال الثقافة الروحانية وكان الأمر يشبه انبهار كاليفورنيا بالبوذية في السبعينات، لكن ذلك تغيّر اليوم.

ويدفع ذلك إلى البحث عن الأسباب والعوامل الداخلية التي أدت إلى هذا التغيّر الدراماتيكي في نظرة ألمانيا وأوروبا عامة للإسلام والمسلمين داخل أراضيها، فبعد أن مثلوا شريكا مجتمعيا لا غنى عنه تحولوا إلى عبء على تلك الأنظمة.

تشمل المظاهر الحالية للإسلام في أوروبا مجموعة متنوعة من الحركات الإسلامية، مثل الإخوان المسلمين والسلفيين. وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تستخدم تكتيكات مختلفة، إلا أن ما يجمعها في الأساس هو أيديولوجيا غير ليبرالية مشتركة لا تحترم القيم العالمية ولا تتبناها.

وأسهمت تصورات كثيرة، معظمها تاريخي وعقائدي وأخرى سياسية في تعقيد صورة الإسلام في أوروبا، خصوصا بعد صعود تنظيمات الإسلام السياسي هناك، ومحاولات حصر فكرة الإسلام والمسلمين في حدودها الضيقة، ما ولد صراعا حول صورة الإسلام في الغرب.

واحتكرت تنظيمات الإسلام السياسي في أوروبا منذ عقود تمثيل الدين الإسلامي في الدول الغربية عبر شبكة جمعيات ومنظمات شاركت الحكومات الأوروبية نفسها في دعمها وتعزيز نشاطها على أراضيها في إطار قيم حرية المعتقد والتعايش السلمي، إلا أن تلك التنظيمات استثمرت ذلك في اختراق الجاليات المسلمة واستغلالها في تمرير أجنداتها السياسية التي تعادي قيم المجتمعات المستضيفة في الخفاء وتناصرها في العلن.

وتنامت شبكة المساجد والجمعيات والمنظمات الإسلامية بشكل واضح في كافة المدن الأوروبية حتى بلغ عدد المراكز المنتشرة في ألمانيا وحدها على سبيل المثال ما يزيد على 30 مركزا رفعت شعار رعاية شؤون الجالية المسلمة، قبل أن تفتضح مناورات هذه التنظيمات التي تمثل النواة الأساسية لانتشار الفكر المتطرف داخل هاته المجتمعات.

وتتعدد المصادر التي تغذي النزعة المتطرفة لدى مكونات الإسلام السياسي داخل أوروبا، حيث يقف في مقدمتها انتشار الخطاب العنيف الذي روجته المنظمات الإسلامية الموجودة هناك، وبعض المساجد التي مثلت مركزا لتنمية العداء لأوروبا ومواطنيها.

وفي محاولة للتشديد على الهوية الإسلامية بالمجتمعات الغربية، نشأت مجتمعات موازية للجاليات والأقليات المسلمة، التي أصبحت لها نظمها وتقاليدها الخاصة، مطبقة الشريعة الإسلامية التي لا تتوافق مع الثقافة الأوروبية.

تطرف

وتجد هذه الجماعات في الاندماج الطبيعي للمسلمين تهديدا بالغا لها، لكونه يُلغي الحاجة إليها ويُقلل من قدرتها على التغلغل والتعبئة لقضاياها.

وجاءت حملات تجنيد الشباب الأوروبي داخل تنظيمات متطرفة من خلال تلك المجتمعات الموازية، وهو ما مثل انطلاقة للتنظيمات الإرهابية، ولاسيما مع ظهور تنظيم القاعدة في أفغانستان منذ أواخر السبعينات وطوال فترة الثمانينات، بدعوى مقاومة الاتحاد السوفييتي، ما تحوّل من بعدُ إلى مقاومة ما سمي في أدبيات الجهاد بـ”العدو البعيد”، أي المجتمع الغربي نفسه.

وساهمت هذه الأفكار والأجندات التي تعتنقها الجماعات الإسلامية بمختلف تفريعاتها في تشويه صورة المسلمين في الغرب حتى باتت كل عملية إرهابية تلتحف بعباءة دينية تمثل المسلمين جميعا وهو ما يجب على بعض الساسة الأوروبيين الانتباه له ومكافحة الأطراف التي تروج لمثل هذه المعادلة.

يقول سونر جاغابتاي، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن إن مهاجمة الإسلام، ولا الإسلام السياسي، أمر خطير، فهي تغذّي فقط فكرة “صراع الحضارات” التي تنادي بها جماعات مثل تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية اللذين يستغلان مثل هذه الانقسامات.

ويضيف جاغابتاي “من خلال وصفنا لجميع المسلمين كإسلاميين، فإننا نمنح فقط مصداقية لنظرتهم الخاصة للعالم من خلال الإيحاء بأن الإسلاميين هم الممثلون الوحيدون للإسلام”.

ويتابع “الإسلام لا يعني الإسلام السياسي، بل إن الإسلام هو الإيمان، والإسلام السياسي هو أيديولوجيا متطرفة وعنيفة أحيانا وغير تاريخية تسعى إلى كسب شرعيتها عبر الإسلام وتركّز جهود التجنيد التي تقوم بها على المسلمين”.

يرى باحثون أنّ أبرز التحديات التي تواجه المسلمين في أوروبا تتمثل في إشكالية تربية الشباب المسلم والمحافظة على هويته المتعددة الأوجه، من دون إغفال المسارات التي تجذب الشباب نحو التطرف والانغلاق أو نحو الانحراف والضياع ورد الاعتبار للتأطير العائلي.

ويواجه المسلمون في أوروبا تحديات كثيرة، خاصة في الزمن الراهن الذي اشتبكت فيه عناصر دينية وسياسية بشكل غير مسبوق، فأصبح الإسلام ورقة سياسية توظفها أطراف تزعم تمثيله، وأخرى تدعي أنها تنوب عن المجتمعات الأوروبية وحمايتها منه.

ودفعت العولمة بجميع مكونات هذه الظاهرة إلى أقصى مدى، إذ لم يعد زوال الصفة الإقليمية يرتبط بانتقال الأشخاص فقط، بقدر ما بات يرتبط بانتقال الأفكار والمواد الثقافية، حيث أثبت قدرة التيارات المتطرفة على استقطاب جزء من الشباب وشحنهم بأيديولوجيا الكراهية والعنف.

وأوجز الباحث الباكستاني شيما خان بعد اعتداءات 11 سبتمبر2001 بنيويورك وواشنطن، ذلك عندما حذّر من مغبة “اختطاف الإسلام”، إذ تم الانتقال من مرحلة الحركات الإسلامية (الدعوية والسياسية) إلى ركوب الحركات المتطرفة موجة الاختطاف بترسانة أيديولوجية عنيفة أغرقت بقاعا غير قليلة من عالميْ الإسلام والغرب في غياهب التطرف والتطرف العنيف.

ولا ترتبط التحديات التي تعترض المسلمين الأوروبيين بجماعات الإسلام السياسي فحسب، فثمة من الأئمة في أوروبا من يتبنون خطابا متطرفا تجاه القيم الغربية، لاسيما العلمانية، ولديهم تأثير على شرائح مسلمة واسعة، ما ساهم في إحداث قطيعة نفسية واجتماعية مع المحيط الأوروبي.

وحتّى تضمن الجماعة الإسلامية السيطرة على توجهات أفراد الجاليات المسلمة، حالت، من خلال خطابها المؤدلج للدين الإسلامي، دون اندماجهم في المجتمعات الأوروبية التي يقيمون فيها، حيث حرّضتهم، عبر مقولات دينية تحثّهم على الاستعلاء على المخالف لهم دينيا، الأمر الذي أدّى بهذه الجاليات للعيش بمعزل عن المجتمعات التي تقيم فيها وبالتالي إحساسها بالاغتراب عن قيم العلمانية الأوروبية.

وتُعد قضايا الاندماج والإرهاب الإسلامي وتنامي رهاب الإسلام ونفوذ حركات الإسلام السياسي والهجرة من الشرق الأوسط من أبرز المعضلات التي تواجه أوروبا اليوم تحديدا إثر موجات اللجوء الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية تجاه القارة العجوز، والتفجيرات الإرهابية التي طالت أكثر من دولة.

ورغم ذلك يبقى تاريخ المسلمين والإسلام في أوروبا الغربية أكثر تشابكا وأقدم ممّا يعتقد الكثيرون، فيما تعمل تنظيمات الإسلام السياسي وأذرعها على إجهاض مساعي رسم مستقبل يُنظر إلى المسلمين فيه كجزء لا يتجزأ من الحياة العامة الأوروبية، بدلا من اعتبارهم غرباء أو مصدرَ تهديدات أبديا.

العرب