لبنان: يا زمن المليشيات

لبنان: يا زمن المليشيات

mepanorama221434

حكاية وسط بيروت مع اللبنانيين حزينة، لا مثيل لها في أي عاصمة أخرى. الوسط الذي كان قبل الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) ملاذاً لأبناء بيروت ونازحي الأرياف، تحوّل في أثناء تلك الحرب إلى ساحة قتالٍ شرس، أسقط كل ما علق في الذاكرة من بيروت القديمة. على أنقاض ركام هذه الحرب، وُلدت بيروت جديدة، لا تشبه شعبها ولا تتناغم معه، لا بل نصبت جدراناً حدودية معه، ليُصبح الطلاق حتمياً بين العاصمة وناسها. تحوّل وسط العاصمة اللبنانية بعد الحرب الدموية إلى “مكانٍ بعيد”، لا يُمكن الوصول إليه.
تلك الـ”بيروت” التي استغلّها أمراء الحرب لتدميرها، ثم استثمر فيها رجال الأعمال ما يكفي لترسيخ تعدّياتهم على الأملاك العامة، وطرد الناس من أملاكهم الخاصة بأسعارٍ بخسة، وبمشاركة بعض أمراء الحرب، أضحت مجتمعاً من كونٍ آخر، لا مكان فيه لـ96% من الشعب اللبناني. النسبة التي وجدت نفسها أسيرة 4% فقط من اللبنانيين المُسيطرين على مقدرات البلاد. قبضت هذه الأقلية على رقبة اللبنانيين أكثر من 25 عاماً، منذ انتهاء الحرب اللبنانية، ولا تزال. لم يُسمع صوتهم سوى حين يتمّ إقفال الوسط لتظاهرات واعتصامات شعبية وسياسية. لم يخرج صوتهم من أجل تخفيض أسعار هذا الوسط، “لأنه موجّه للسياح”، على حدّ قولهم. وبالتالي، “يتوجب علينا سرقة السياح قدر الإمكان”، وفق منطقهم. لم يخرج صوتهم للتضامن مع عشرات ومئات المؤسسات التجارية والاقتصادية التي أُقفلت في بيروت وفي باقي المناطق. لم يسأل هؤلاء عن التجار الصغار الذين هُدِرَت حقوقهم، وتوفّوا بأمراضٍ قلبية، ولم يطرحوا على أنفسهم سؤالاً محدداً “لمَ نسبة الفقر مرتفعة في لبنان؟ وكيف أصبح أكثر من 30% من اللبنانيين تحت خط الفقر؟”.
نجح مخطط إبعاد العاصمة عن اللبنانيين، في السنوات الماضية، وباشر بعض “المعجبين” بهذا المخطط بالتفكير بمخططات مماثلة في مختلف المدن اللبنانية، الساحلية تحديداً. ويُمكن ملاحظة ذلك بنزهة ساحلية جميلة بين طرابلس (شمالي لبنان) وصور (جنوبي لبنان)، إذ باتت تلك المناطق قاب قوسين أو أدنى من التحوّل إلى وسط بيروت آخر، بحجّة “جذب السياح وتفعيل الاستثمارات” على حساب الشعب. وفي هذا أكثر من استغلال. استغلال الشعب واستغلال السياح الذين يبدون بنظر من يسعى إلى تكريس الشرخ بين الأرض والشعب، وكأنهم آتون من كوكبٍ آخر، بغرض ضخّ الأموال فقط، لا من أجل أغراض سياحية مماثلة لتركيا أو اليونان مثلاً.
كما تُظهر الأرقام الرسمية وغير الرسمية عدم استفادة لبنان مادياً من أي “استثمارات” في الأملاك العامة، بفعل نسبة التعدّيات المرتفعة. بالعكس، ازداد الدين العام وارتفعت معدلات الفائدة، وبات حوالي مليون لبناني مديوناً للمصارف المحلية، وأكثريتهم غير قادرين على الإيفاء بديونهم. كما لم يطرأ أي تحسّن على شبكة البنية التحتية من كهرباء وماء وغيره.
مع ذلك، تجاوز الرأسماليون الجشعون في لبنان كل القوانين الليبرالية التي تُتيح كسب الأموال وفقاً لمنظومة قانونية، تسمح في استفادة البائع والمشتري، لا في هيمنة البائع واحتكاره السوق وإفقاره الشعب بغية إخضاعه. بالتالي، لم يعد غريباً إدلاء بعضهم بأقوالٍ لا تنمّ عن طبقية أو فوقية بالتعاطي فحسب، بل بأقوال مقتبسة من أقوال أمراء الحرب والمليشيات، فبعض الرأسماليين يجدون أنفسهم على رأس مليشيات مالية، تُكمل ما بدأته المليشيات العسكرية في الحرب اللبنانية. وكما لم يُحاسب أحدٌ من أمراء الحرب بصورة فعلية، وانخرطوا جميعاً في السلطة، تأمل تلك الطبقة من القابضين على وسط بيروت، وعلى الأملاك العامة في مختلف الأراضي اللبنانية، أن تتمكن من تمرير ما تريد من دون ردّ فعل، ولا الخشية من أي محاسبة لاحقاً. عليه، ألا يستلزم كل هذا انتفاضة شعبية؟ بلى، يستلزم أكثر من ذلك.

 بيار عفيفي

صحيفة العربي الجديد