اللوبيات العربية تغزو واشنطن

اللوبيات العربية تغزو واشنطن

تعاظم عدد عقود الحكومات العربية وخصوصا الخليجية مع شركات العلاقات العامة الكبرى في واشنطن بشكل ملفت في السنوات الماضية، حتى أصبحت هذه العقود مجالا للتندر في أروقة العاصمة الأميركية. فلكل دولة عقود سخية مع شركات عدة، ولكل شركة عقود مع دول عدة حتى لو كانت هذه الدول على خلاف مع بعضها، ما جعل مصالحها في العاصمة الأميركية متضاربة.

هذا ليس بالمستغرب، فالوجود الأميركي في الشرق الأوسط أصبح جزءا أساسا من المعادلات السياسية والاقتصادية والجغرافية وحتى الاجتماعية في المنطقة خلال العقدين الماضيين. والقرار الأميركي بلا شك يؤثر سلبا أو إيجابا بشكل مباشر على استقرار وأمن الدول العربية.

وشركات العلاقات العامة في واشنطن تلعب دور المستشار والوسيط والدليل في آن واحد لتساعد الدول وسفاراتها على الإبحار في مياه العاصمة الأميركية المتموجة دوما. وأغلب رؤساء هذه الشركات وموظفيها الأساسيين هم عادة من كبار الساسة أو المشرعين الأميركيين السابقين الذين تجمعهم صداقات شخصية وعلاقات وطيدة بأعضاء الحكومة الأميركية الأبرز، كما يملكون خبرة واسعة في أساليب التواصل مع أجهزة الدولة الأميركية وطرق الضغط على عملية صنع القرار فيها.

واللوبيات متعددة الأشكال والمهام ولا يمكن فعلا حصر عملية التأثير على صنع القرار الرسمي الأميركي في شركات العلاقات العامة هذه التي يمكن تصنيفها كوسيلة ضغط مباشرة وظاهرة. فبالإضافة إلى شركات العلاقات العامة هناك مؤسسات رديفة كالمجالس التجارية وجمعيات الصداقة. والطريقة الأسهل للتمييز بين أنواع التأثير المباشر وغير المباشر توفرها القوانين الأميركية التي تفرض على أي شخص يريد محاورة مشرّعين وساسة أميركيين بالنيابة عن دولة خارجية ومحاولة التأثير على قرارهم التعريف عن نفسه وتسجيل معلوماته في وزارة العدل الأميركية ضمن قانون تسجيل العملاء الخارجيين.

ومن أبرز طرق الضغط غير المباشرة هي المنح التي تقدمها الدول لخزّانات الفكر ومؤسسات البحوث الأميركية، العريقة منها والمغمورة، بغية دفع هذه المؤسسات إلى نشر دراسات وتقارير تصب في مصلحة هذه الدول وتدعم توجهاتها. وعدد كبير من هذه المؤسسات التي كانت تشتهر بالحيادية توسعت بشكل سريع وكبير بسبب التمويل الخارجي حتى أصبحت تعتمد على هذا الدعم بشكل أساس، مما أثر على مصداقيتها وحياديتها.

وليس من النادر أن نرى أحد موظفي الحكومة الأميركية رفيعي المستوى يترك عمله الحكومي أو يتقاعد منه ليؤسس شركة مبنية على عقد وحيد مع دولة معينة. فليس من النادر أن يدخل سفراء الولايات المتحدة السابقون في الشرق الأوسط مجال العلاقات العامة لصالح الدول التي كانوا سفراء فيها فور تقاعدهم.

كما أصبحت المجالس التجارية وسيلة ناجعة لممارسة الضغط غير المباشر على المشرعين الأميركيين الذين يمثلون ولايات أو مناطق محددة في الولايات المتحدة، ويرتهن نجاحهم السياسي بتوفير فرص اقتصادية لناخبيهم. فأصبحت هذه المجالس التجارية صلة وصل بين ثروات الدول الخارجية والشركات العاملة في ولاياتهم ومناطقهم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك الرئيسة السابقة للجنة الفرعية للشرق الأوسط في مجلس النواب الأميركي إليانا روس ليتنين، حيث شهدت فترة رئاستها للجنة تدفق سيل من رؤوس الأموال العربية إلى مقاطعة ميامي في ولاية فلوريدا التي كانت تمثلها حينها في الكونغرس.

وعلى الرغم من ضرورة التأثير على عملية صنع القرار الأميركي من قبل الدول العربية، إلا أن نجاح اللوبيات العربية في واشنطن محدود خصوصا عندما ننظر له من زاوية المردود مقابل التكلفة. ولذلك أسباب عدة تظهر جليا عند مقارنة جهود الدول العربية مع نجاحات إسرائيل في هذا المجال.

قامت الدولة الإسرائيلية بالتركيز منذ زمن طويل على إنشاء مؤسستها الخاصة للتأثير على القرار الأميركي والتي تعرف باسم المجلس الأميركي – الإسرائيلي للشؤون العامة حتى أصبح عمل هذه المؤسسة وحتى تمويلها عضويا يأتي من الداخل الأميركي.

كما قام المجلس بالعمل على المدى الطويل للتأثير على القاعدة الشعبية وتشكيل وجهات نظر المواطن الأميركي تجاه إسرائيل. بالإضافة إلى العمل مع الحزبين الجمهوري والديمقراطي بغض النظر عمن يجلس في البيت الأبيض أو يقود مجلسي الكونغرس، مما قدم للوبي الإسرائيلي مناعة ضد المتغيرات السياسية الدائمة في واشنطن.

بالمقابل نرى الدول العربية تعتمد على الشركات الربحية التي تطلب أموالا طائلة مقابل خدماتها كما تعتمد على موظفين أميركيين في هذه الشركات، مع أن لدى هذه الدول مواطنين ودبلوماسيين من أصحاب الخبرات وهم أكثر اهتماما ودراية بمصالح بلادهم، ومن الأحرى الاعتماد عليهم أو إشراكهم على أقل تقدير.

ولا تتواصل اللوبيات العربية مع مواطني دولها في الولايات المتحدة إلا في ما ندر، مما يضيع فرصا بارزة خصوصا أن الجهات المعادية تحاول دوما إقناع صانع القرار الأميركي بوجود هوة بين هذه الحكومات ومواطنيها. وبالرغم من أهمية وجود خبراء أميركيين يساعدون الحكومات العربية على العمل مع الإدارات الأميركية، إلا أن الاعتماد الكلي على هؤلاء الخبراء له تأثير سلبي على المدى الطويل.

كما أصبح من المألوف أن نرى ممثلي الدول العربية في واشنطن يتهافتون على إنفاق الملايين على عقود جديدة كلما تغيرت الإدارة الأميركية بغية استمالة قياداتها الجديدة.

وليس من السهل اليوم شفاء المؤسسات والشركات في واشنطن من إدمانها على الإنفاق العربي في مجال العلاقات العامة والتأثير على صنع القرار، فأغلب هذه المؤسسات تعتمد على رأس المال العربي بشكل أساسي وليس لديها بديل آخر إنْ نضب هذا المصدر السخي للتمويل.

كما قد يكون من الصعب تقليص درجة الاعتماد العربي على ما يقدمه الخبير السياسي الأميركي من خدمات وتسهيلات وعلاقات. لكن مصلحة الدول العربية اليوم تكمن في مراجعة إستراتيجيات إنفاقها في الولايات المتحدة، وعليها النظر أبعد من العاصمة والتركيز على كسب ود المواطن الأميركي قبل استمالة ساسته وقياداته في واشنطن.

وعلى هذه الدول العمل على تشبيك مواطنيها مع عامة الشعب الأميركي الذي ما زال لا يعرف عن العرب إلا الحروب والمآسي التي يشاهد صورها على شاشات التلفزيون، فالاستثمار على المدى الطويل في التأثير على القاعدة الشعبية الأميركية خصوصا الشابة منها سيؤدي إلى توفير أموال طائلة لاحقا، لا بل وقد ينجح في إنتاج جيل أميركي كامل ينظر إلى دولة أو دول عربية بذات التقدير والاهتمام اللذين يكنهما الأميركيون لإسرائيل اليوم.

العرب