حرب فاشلة تبعث مقبرة الإمبراطوريات من جديد

حرب فاشلة تبعث مقبرة الإمبراطوريات من جديد

هل نجحت الولايات المتحدة حقا في تحقيق أهداف حربها الطويلة في أفغانستان؟ سؤال لا يزال يبحث عن إجابة واضحة ودقيقة بين صناع القرار في أكبر دولة في العالم وجدت نفسها تخسر الكثير في بلد أعاد إنتاج حركة طالبان المتشددة من جديد وعزز من نمو الفساد الحكومي وأصبح الآن يمتلك 90 في المئة من الأفيون غير المشروع في العالم.

واشنطن – اختار الرئيس الأميركي جو بايدن الذكرى السنوية العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر لإنهاء أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في الخارج. خسرت واشنطن الكثير في أفغانستان، وتتركز نقاشات قيادتها العسكرية حول المخاوف من الاستمرار أو المغادرة من البلد في ظل تزايد نفوذ طالبان وتهديد كل “إنجازات” يمكن أن يقال إنها تحققت طوال 19 عاما الماضية بعد الحرب على القاعدة وطالبان منذ أكتوبر 2001.

ويقول راجان مينون أستاذ العلاقات الدولية في مدرسة باول، سيتي كوليدج في نيويورك، الذي يكتب لموقع “توم ديسباتش” إن الولايات المتحدة كانت تخوض ما كان ينبغي في الواقع وصفه بالحرب الخيالية في أفغانستان، التي مهما كانت وحشية ودموية إلا أنه تم بناؤها على توقعات خيالية وحسابات خيالية.

ويرى أنه ليس من المستغرب أن يثير قرار بايدن ردود الفعل المتوقعة في واشنطن، حيث استكملت القيادة العسكرية الأميركية رغبتها التي لا تنتهي أبدا في الاستمرار في حرب فاشلة من خلال عرض سيناريوهات المخاوف الأميركية بعد مغادرة آخر جندي لأفغانستان.

ويقول القادة العسكريون في مقال نشر في صحيفة واشنطن بوست في اليوم السابق لظهور بايدن أمام الشعب لإعلان موعد الانسحاب من أفغانستان، إن الخروج العسكري الشامل من شأنه أن يحرم واشنطن من كل نفوذ دبلوماسي ويقنع طالبان بأنها قد تتخلى عن المحادثات مع حكومة الرئيس أشرف غني وتشق طريقها نحو السلطة.

وتتركز مخاوف العسكريين حول نزع الديمقراطية والمجتمع المدني في حال انتصار طالبان على الحكومة الضعيفة، كما أنه سيهدد مكاسب النساء والأقليات وتدمير كل ما ناضلت من أجله الولايات المتحدة منذ بداية الحرب على أفغانستان.

وبحلول شهر سبتمبر المقبل، سيكون أكثر من 775 ألف جندي أميركي قد خدموا في أفغانستان، عدد قليل منهم من أبناء أولئك الذين خدموا في وقت مبكر من الحرب، وأكثر من خُمسهم قد أتموا ثلاث جولات على الأقل من الخدمة هناك.

وبين عامي 2010 و2011 زوّد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما القوات بما يصل إلى 100 ألف جندي في أفغانستان، حيث يذكر البنتاغون أنه اعتبارا من هذه اللحظة قتل حوالي 3 آلاف جندي أميركي (قتل 80 في المئة منهم أثناء القتال) وأصيب حوالي 20 ألفا آخرين. كما سُجلت آثار نتائج الحرب على الجنود بفضل اضطراب ما بعد الصدمة والانتحار وتعاطي المخدرات.

ويقول مينون، وهو زميل أبحاث أول في معهد سالتزمان لدراسات الحرب والسلام بجامعة كولومبيا، إنه “بصرف النظر عن العائلات العسكرية، فإن الكثير من الجمهور الأميركي لم يتأثر بالحرب، لاسيما وأنه لم يكن هناك مشروع قانون يرفع الضرائب لدفع فاتورة الديون البالغة 2.26 تريليون دولار. وكنتيجة لذلك، استمرت الحرب وإراقة الدماء وأكلت الثروات دون أي احتجاجات من الشعب الأميركي على غرار حرب فيتنام”.

ويضيف أنه “ليس من المستغرب أن يعرف معظم الأميركيين القليل عن أعداد القتلى والجرحى المدنيين الأفغان في هذه السنوات حيث منذ عام 2002 قُتل ما لا يقل عن 47 ألفا من غير المقاتلين وأصيب 43 ألفا آخرين، سواء بسبب الغارات الجوية أو نيران المدفعية أو إطلاق النار أو العبوات الناسفة أو التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخخة”.

ويشير تقرير للأمم المتحدة لعام 2020 حول الخسائر المدنية في أفغانستان إلى أن عام 2019 كان العام السادس على التوالي الذي قُتل أو جُرح فيه 10 آلاف مدني. وقد حدثت هذه المذبحة في واحدة من أفقر دول العالم، والتي تحتل المرتبة 187 من حيث دخل الفرد، حيث يمكن أن تؤدي وفاة أو عجز رجل بالغ (عادة المعيل الأساسي في منزل ريفي أفغاني) إلى دفع الأسر الفقيرة بالفعل إلى الفقر المدقع.

لم يجد الباحث الأكاديمي راجان مينون من سبب منطقي يدعو إلى الاستمرارية وعدم مغادرة أفغانستان. ويبحث عن إجابة واحدة مرضية عن أسباب تمسك القادة العسكريين بالبقاء في بلد يعاود فيه المتشددون إنتاج أنفسهم من جديد وبقوة.

ويقول مينون إن هناك تفسيرات في “تقرير مجموعة دراسة أفغانستان” قامت بكتابته مجموعة من المسؤولين السابقين والجنرالات المتقاعدين ورجال الأعمال البارزين ومعظمهم مرتبطون بشركات كبيرة لإنتاج الأسلحة.

ولم يقدم هذا التقرير، الذي أحدث ضجة كبيرة في فبراير، أي مقترحات موضوعية لتحقيق الأهداف التي تم السعي إليها منذ 19 عاما بما في ذلك إرساء ديمقراطية مستقرة وعقد انتخابات نزيهة وصحافة حرة ومجتمع مدني غير مقيد وضمان حقوق متساوية لجميع الأفغان، بل إنها كلها مبنية على تسوية سياسية بين الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة وطالبان.

ويرى الباحث أن “طالبان التي حاربت أكثر آلة عسكرية مخيفة في العالم على مدى عقدين من الزمن لا تزال قائمة وتستمر في توسيع سيطرتها في المناطق الريفية”.

وقتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها بالفعل حوالي 50 ألفا من مقاتلي طالبان على مرّ السنين بما في ذلك في عام 2016 زعيمها الأول أختار محمد منصور. وبين عامي 2019 و2020 قتل العديد من كبار القادة وأعضاء في حكومة الظل التابعة لطالبان بما في ذلك “حكام” مقاطعات بدخشان وفرح ولوجار وسمنغان وورداك.

47
ألفا من الأفغان قتلوا منذ العام 2002 سواء بسبب الغارات الجوية أو نيران المدفعية أو إطلاق النار أو العبوات الناسفة أو التفجيرات الانتحارية والسيارات المفخخة

وتمكنت طالبان، التي تعود جذورها إلى البشتون، وهي مجموعة عرقية مهيمنة تاريخيا في أفغانستان، من تجديد صفوفها وشراء أسلحة وذخيرة جديدة وجمع الأموال، من خلال فرض الضرائب على زراعة الخشخاش.

ويؤكد مينون أن “طالبان استمرت في الحصول على الدعم السري من الجيش الباكستاني وجهاز المخابرات، والذي لعب دورا محوريا في إنشاء الحركة في أوائل التسعينات بعد أن كان واضحا أن قادة مجاهدي البشتون المدعومين من باكستان غير قادرين على شق طريقهم إلى السلطة لأن الأقليات القومية (خاصة الأوزبك والطاجيك) قاوموا بشراسة. ومع ذلك، فإن طالبان لها جذور أصلية أيضا، ولا يمكن أن يُعزى نجاحها فقط إلى الترهيب والعنف، لكن أجندتها السياسية ونسختها المتشددة من الإسلام تروق للكثير من الأفغان، ولولا ذلك لكانت الجماعة هلكت منذ زمن بعيد”.

وتسيطر طالبان الآن على 75 مقاطعة من بين 400 مقاطعة في أفغانستان حيث تحكم الحكومة 133 مقاطعة أخرى وتظل 187 مقاطعة أخرى متاحة أمام الحكومة وطالبان وفقا لصحيفة “لونغ وور جورنال”.

ويقول الباحث “على الرغم من أن التمرد ليس في طريقه لتحقيق النصر، إلا أنه لم يكن في وضع عسكري أقوى منذ الغزو الأميركي عام 2001. كما لم تتبدد الروح المعنوية لمقاتليها، على الرغم من أن الكثيرين قد سئموا الحرب”.

ووفقا لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في مايو، “تظل طالبان واثقة من قدرتها على الاستيلاء على السلطة بالقوة”، على الرغم من أن الأطراف الأخرى تفوقت على طالبان من حيث العدد والتنقل والإمدادات والنقل وعيار أسلحتهم. كما أنهم لا يمتلكون الطائرات والمروحيات والقاذفات التي يمتلكها خصومهم، وخاصة الولايات المتحدة، والتي لها تأثير مدمر.

يستند مؤيدو الاستمرارية وبقاء النفوذ الأميركي في أفغانستان على عقد انتخابات وإقامة مؤسسات ديمقراطية والوصول إلى فساد أقل وشنّ غارات ضد تجارة المخدرات، لكن تجارب السنوات الماضية كانت كفيلة بكشف عمليات تزوير واحتيال واسعة في البلد المدمر.

ويقول مينون إن “النظام الانتخابي هو شرط أساسي للديمقراطية ونظرا إلى الطريقة التي تعامل بها دونالد ترامب وإدارته مع انتخابات 2020 في الولايات المتحدة، يجب على الأميركيين التفكير مرتين قبل إلقاء اللوم على النظام الانتخابي الأفغاني”.

ويعتبر أن تنظيم الانتخابات في دولة منكوبة كأفغانستان يعد مهمة خطيرة، خاصة عندما تبذل عناصر التمرد أقصى جهد لتعطيلها.

وأسفرت الانتخابات الرئاسية الأربعة في أفغانستان (2004 و2009 و2014 و2019) عن عملية احتيال واسعة النطاق ومنهجية تم كشفها من قبل المراسلين الاستقصائيين وتقارير الحكومة الأميركية.

ويعطي مينون مثالا على ذلك في الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2014 التي لم يتنازل فيها المرشح عبدالله عبدالله وهدد بتشكيل حكومة موازية وأصرّ على أن فوز منافسه أشرف غني تم عن طريق التزوير. ولتجنب إراقة الدماء توسط وزير الخارجية الأميركي آنذاك جون كيري في اتفاق لتقاسم السلطة جعل بموجبه عبدالله “الرئيس التنفيذي” وهو منصب غير مذكور في الدستور الأفغاني.

ويقول الباحث إنه على الرغم من عمل الوكالة الأميركية للتنمية لتحسين الإجراءات الانتخابية في أفغانستان عبر إنفاق 200 مليون دولار على الانتخابات الرئاسية لعام 2014 وحدها إلا أن تزوير التصويت ظل أمرا شائعا حتى عام 2019.

ويضيف أنه بالنسبة إلى المؤسسات السياسية الرئيسية التي تحمل أيضا بصمات أميركية، فإن “شبكة محللي أفغانستان” لم تفحص حالة المحكمة العليا، ومجلس الشيوخ ومجالس المقاطعات والمقاطعات، واللجنة المستقلة للإشراف على تنفيذ الدستور إلا مؤخرا. وخلصت إلى أنهم “يفتقرون حتى إلى الحد الأدنى من الاستقلالية اللازمة لممارسة تفويضهم الدستوري وتحمل المسؤولية” كما أنهم فاقموا من “ركود النظام السياسي ككل”.

تمتلك أفغانستان 90 في المئة من الأفيون غير المشروع في العالم، وهو الضروري لصنع الهيروين حيث ازدادت مساحة الأراضي المخصصة لزراعة خشخاش الأفيون بشكل كبير من 8 آلاف هكتار في عام 2001 إلى 263 ألف هكتار بحلول العام 2018، نظرا إلى أن هذه الزراعة تمدّ المزارعين بالدخل لتغطية احتياجاتهم الأساسية.

وتقدر دراسة للأمم المتحدة أن مبيعات الخشخاش، التي بلغت ملياري دولار في العام 2019، تجاوزت الصادرات القانونية للبلاد، في حين أن اقتصاد الأفيون يمثل ما بين 7 و11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وأنفقت الولايات المتحدة ما لا يقل عن 9 مليارات دولار في محاولة للقضاء على تجارة المخدرات في أفغانستان، إلا أن تقريرا صدر هذا العام وأرسل إلى الكونغرس من قبل مؤسسة المفتش العام لإعادة إعمار أفغانستان “سيغار” يقول إن الاستثمار الأميركي لم يكن له أي تأثير تقريبا وأن الهيمنة الأفغانية على الأفيون ظلت لا تحتمل أي منافسة.

وفي السنوات الأخيرة، أصبحت أفغانستان منتجا رئيسيا للعقاقير الاصطناعية غير القانونية، وخاصة الميثامفيتامين، الأرخص ثمنا والأكثر ربحية من زراعة الأفيون. وهي تضم الآن، وفقا لدراسة أجراها الاتحاد الأوروبي، ما يقدر بنحو 500 مختبر ميثامفيتامين يصنع 65.5 طن من المواد يوميا.

ويرى الباحث أن الحملة على الفساد تكاد تكون شبه مستحيلة حيث حملة الابتزاز متواصلة من قبل المسؤولين وأمراء الحرب وبناء منازل فخمة عن طريق مكاسب غير مشروعة. ويؤكد أن “الفساد يتغلغل في النظام الذي تم إنشاؤه من قبل الأميركيين في أفغانستان”.

ويوضح أنه “على الرغم من أن المسؤولين الأميركيين كانوا غاضبين بشأن فساد كبار المسؤولين الأفغان، بما في ذلك أول رئيس بعد طالبان، حامد كرزاي، فقد قامت وكالة المخابرات المركزية بتحويل عشرات الملايين من الدولارات إليه لسنوات”.

وكشفت تقارير استقصائية أجراها كريج ويتلوك من صحيفة واشنطن بوست أن العديد من أمراء الحرب وكبار المسؤولين سيئي السمعة قد استفادوا كذلك من هدايا وكالة المخابرات المركزية. وكان من بينهم الرجل الأوزبكي القوي والنائب الأول للرئيس السابق عبدالرشيد دوستم، المتهم بالقتل والاختطاف والاغتصاب، ومحمد ضياء صالحي، رئيس الإدارة في مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس كرزاي.

كما كشف تحقيق أجرته الحكومة الأميركية في العام 2015 أن 300 مليون دولار مخصصة لدفع رواتب للشرطة الأفغانية لم تصلهم في الواقع، وبدلا من ذلك تم “دفعها” لضباط “وهميين” أو ببساطة سرقت من قبل مسؤولي الشرطة.

وتتبعت دراسة أجريت في عام 2012 ثلاثة آلاف عقد للبنتاغون بلغ مجموعها 106 مليار دولار وخلصت إلى أن نسبته 40 في المئة من هذا المبلغ انتهت في جيوب زعماء الجريمة والمسؤولين الحكوميين وحتى المتمردين.

ووفقا لتقرير “سيغار” الأول لعام 2021 إلى الكونغرس، فقد أقر أحد المتعاقدين الأميركيين بالذنب لسرقة 775 ألف دولار من أموال وزارة الخارجية. وقام اثنان آخران، وهما متعاقدان مع شركة الأسلحة العملاقة لوكهيد مارتن بتقديم ما يقرب من 1.8 مليون دولار في شكل فواتير مزورة أثناء تعيين موظفين محليين يفتقرون إلى المؤهلات المطلوبة وطُلب منهم شراء شهادات جامعية مزيفة.

ويقول الباحث يجب أن “لا تعتقد أن ثقافة الفساد الراسخة بعمق في أفغانستان هي ظاهرة العالم الثالث، فقط تذكر أن أكبر مصدر للفساد في هذه الدولة كان الولايات المتحدة”.

ويرى مينون أن “الغضب الذي أعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ورغبة الجمهور في الانتقام أديا إلى قيام إدارة جورج دبليو بوش بالإطاحة بحكومة طالبان”.

ويضيف أن “إدارة بوش وخلفاءها في البيت الأبيض كانوا يعتقدون أيضا أنهم سيبنون أفغانستان ديمقراطية وحديثة، لكنهم على ما يبدو بدأوا دورة حرب أخرى بعد هزيمة السوفييت في 1988 في الدولة البائسة، وهي حرب ستثير المزيد من الغضب بالتأكيد وستستهلك المزيد من الأرواح بعد مغادرة الجنود الأميركيين في سبتمبر، بافتراض أن قرار بايدن لم يتم إحباطه”.

العرب