حالة العداء للأكراد التي قويت بشكل لافت لدى تركيا تحت قيادة حزب العدالة والتنمية تدفع أنقرة نحو اعتماد أكثر السياسات خشونة إزاء أكراد المنطقة والعمل على إضعافهم والقضاء نهائيا على أي طموحات لهم في إنشاء وطن قومي لهم. وتستميت أنقرة في استغلال حالة عدم الاستقرار في كلّ من سوريا والعراق والتي انعكست إلى حدّ كبير على أكراد الدولتين وأضعفت ممانعتهم للمخططات التركية بما في ذلك مخطّط تفجير حرب كردية – كردية.
أربيل (العراق) – تحمل حالة التوتّر التي أشاعها تصعيد تركيا لعملياتها العسكرية ضدّ عناصر حزب العمّال الكردستاني داخل أراضي كردستان العراق نُذر اقتتال جديد بين أكراد المنطقة تعمل تركيا بالفعل على تفجيره ليشكّل أكبر نصر لها، ليس فقط في حربها المتواصلة منذ عقود ضدّ الحزب المسلّح، ولكن أيضا في مساعيها لتحجيم أكراد المنطقة ككل والحدّ من طموحاتهم التي بلغت في السنوات القليلة الماضية أعلى سقوفها، عندما دفع أكراد العراق بفكرة تحويل إقليمهم إلى دولة مستقلة عبر استفتاء قاموا بتنظيمه سنة 2017 ولعبت أنقرة دورا كبيرا إلى جانب طهران وبغداد في منع تجسيد نتيجته على أرض الواقع.
ويعتبر قادة رأي أكراد أنّ تكثيف تركيا لعملياتها العسكرية ضدّ الأكراد، سواء في سوريا أو العراق تحت عناوين أمنية قديمة، لا ينفصل عن أهداف سياسية وخلفيات قومية بدليل التصعيد الموازي ضدّ أكراد تركيا نفسها بمن فيهم المنخرطون بشكل قانوني في السياسة التركية عبر تنظيمات حزبية معترف بها ودأبت على المشاركة في الانتخابات والحصول على تمثيل تحت قبّة البرلمان، ومع ذلك لا تنفك التهمة الجاهزة بالتواطؤ مع الإرهاب والتعاطف معه تلاحقهم، ما يدل على أنّ جميع الأكراد حيثما كانوا هم سواسية في أمام العداء القومي التركي لهم.
أكثر ما يخشاه أكراد المنطقة هو أن يتورّط أكراد العراق في عمليات عسكرية وأمنية واستخباراتية سواء ضدّ عناصر حزب العمّال الكردستاني، أو ضدّ أكراد سوريا الذين يقيمون إدارة ذاتية في الشمال والشرق السوريين وتنعتهم أنقرة بالإرهاب لكنّها عاجزة عن ضربهم بسبب تحالفهم مع الولايات المتحدة.
وأذكى المخاوفَ مؤخرا اختطافُ ثلاثة مسؤولين تابعين للإدارة الذاتية في أربيل مركز إقليم كردستان.
واتهمت دائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية جهات أمنية تابعة لإقليم كردستان العراق باختطاف ممثل الإدارة في أربيل جهاد حسن وعضوي حزب الاتحاد الديمقراطي مصطفى حسن ومصطفى خليل، وطالبتها في بيان بالإفصاح عن مصيرهم.
وحمَّل البيان الجهات الأمنية وحكومة إقليم كردستان العراق كامل المسؤولية حول مصير المختطفين الثلاثة، مناشدا “الجهات الرسمية في الإقليم وكذلك المنظمات الدولية الضغط على الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة عائلة البارزاني وعلى حكومة الإقليم “للإفصاح عن مكان تواجدهم والسماح لذويهم بزيارتهم والاطلاع على أوضاعهم وبالتالي إطلاق سراحهم بعد توقيفهم دون وجه حق ودون وجود أي مسوغات قانونية”.
وكانت وسائل إعلام كردية عراقية قد نقلت عن ممثل حزب الاتحاد الديمقراطي نوري أسعد القول إنّه جرى في العاشر من يونيو الجاري اعتقال ممثل الإدارة الذاتية وعضوي الحزب لدى وجودهم في مطار أربيل الدولي لاستقبال عدد من المثقفين القادمين من أوروبا.
ولاحقا نفت شرطة أربيل (الأسايش) امتلاكها أي معلومات عن الموضوع ما جعل الشكوك تتجه نحو جهات استخابارتية كردية متعاونة مع تركيا.
وغير بعيد عن أجواء التوتّر السائد بين القيادة الكردية العراقية وكل من أكراد سوريا وتركيا، وجّه رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان البارزاني إنذارا لعناصر حزب العمّال الكردستاني الذين يتخذون من أراضي الإقليم مسرحا لحربهم ضدّ تركيا قائلا إنّ “علينا أن نقول لحزب العمال الكردستاني بصوت واحد وبموقف موحد إن هذه الحرب لا طائل منها فأبعدوها عن شعب كردستان”.
وشدّد البارزاني الذي كان يتحدّث في حفل تخرج طلاب الجامعة الأميركية في محافظة دهوك بحضور رئيس حكومة الإقليم مسرور البارزاني والقنصل الأميركي في الإقليم على وجوب “الرد على فرض حزب العمال الكردستاني نفسه وتواجده غير الشرعي في إقليم كردستان بموقف وطني مشترك يصبّ في مصلحة الإقليم وحفظ المواطنين وممتلكاتهم وإبعاد الحرب عن أرض الإقليم”.
وأضاف “يجب أن نتبنّى موقفا واحدا ونقول لحزب العمال الكردستاني بصوت واحد أن يكف عن تجاوز إرادة مواطني إقليم كردستان ومؤسساته الشرعية والإضرار بمصالحه”.
وأوضح أن “على حزب العمال الكردستاني احترام سيادة أرض العراق والسلطة الشرعية والقانون في إقليم كردستان”، قائلا من غير المسموح بأي شكل أن تصبح أرض العراق وكذلك إقليم كردستان وحدودهما مصدرا لتهديد الدول المجاورة (تركيا) أو استخدامها في زعزعة أمن واستقرار المنطقة”.
وفي الوقت الذي صعّدت فيه تركيا بشكل غير مسبوق من عملياتها العسكرية ضدّ مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، لاحت لها فرصة ثمينة لتأليب سلطات إقليم كردستان العراق ضدّ الحزب، ليس فقط بسبب ما أصبح يمثّله من عبء أمني على الإقليم ومن عائق أمام استقراره، ولكن أيضا بسبب الصعوبات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها تلك السلطات والمنعكسة على الأوضاع الاجتماعية والضغوط الشديدة التي تتعرّض لها من قبل قوى سياسية وفصائل مسلّحة متحكمة في دواليب الدولة الاتحادية العراقية.
يقول سياسيون أكراد عراقيون إنّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الإقليم وضغوط الأحزاب والميليشيات الشيعية على قيادته تكرّس ضعفه وعدم قدرته على ممانعة المطالب التركية التي قد تصل حدّ مطالبته بتسخير قواته العسكرية والأمنية من بيشمركة (الجيش) والأسايش (الشرطة) في حرب صريحة ومعلنة ضدّ حزب العمّال خصوصا وقد أصبحت المناسبة قائمة مع تعرّض القوات الكردية لهجمات من قبل عناصر الحزب.
ويقول متابعون للتطورات العسكرية والأمنية في كردستان العراق، إنّ التدخل العسكري التركي شمالي العراق ستكون له تبعات في تأجيج الصراع بين الأكراد وخلق بوادر حرب بين حزب العمال الكردستاني وقوات الإقليم.
وفي وقت سابق من الشهر الجاري قتل عنصر من البيشمركة بعدما تعرضت قوة مشتركة من المقاتلين الأكراد وحرس الحدود العراقي لإطلاق نار في منطقة حدودية مع تركيا في شمال العراق.
وقال مدير ناحية دركار في محافظة دهوك بإقليم كردستان أديب جعفر إن عناصر حزب العمال الكردستاني الذين يسيطرون على تلك المنطقة، هم من أطلقوا النار على القوة المشتركة التي كانت تعمل على وضع نقطة مراقبة في أحد المرتفعات الجبلية، ما تسبب بمقتل العنصر. وجاء ذلك بعد مقتل خمسة من عناصر البيشمركة عندما تعرضوا لكمين من حزب العمال في جبل متين في محافظة دهوك.
وقالت وزارة البيشمركة في بيان تعقيبا على الحادث “كنا أعطينا سابقا تحذيرا بأنه يجب على الجميع احترام حدود الإقليم وعدم تعريض أمنه واستقراره للخطر”، بينما حذّر حزب العمال الكردستاني من جهة مقابلة من أنّه لن يقبل بأي تحرك لقوات البيشمركة في مناطق سيطرته التي وصفها بأنّها منطقة حرب بينه وبين “القوات التركية التي تريد احتلال إقليم كردستان انطلاقا من تلك المناطق”.
وقبل ذلك اختطف حزب العمال الكردستاني عنصرين من قوات البيشمركة في منطقة سنجار التابعة لمحافظة الموصل العراقية. وذكرت الصحافة المحلية في أربيل أن عملية الاختطاف جاءت عندما نصب المتمردون الأكراد كمينا في منطقة قرب سنجار.
جهد مخابراتي تركي في كردستان العراق يعمل باستمرار على تأجيج العداء بين القوات الكردية وحزب العمال الكردستاني
وتشنّ القوات التركية منذ 23 أبريل الماضي عملية عسكرية لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني الذي يتخذ من الجبال العراقية المحاذية لتركيا قواعد له.
ويحذّر القيادي في حركة التغيير الكردية محمود شيخ وهاب من أن تركيا تدفع باتجاه الاقتتال الداخلي بين الأكراد، مطالبا الحكومة الاتّحادية بالتدخل لمنع النزاع الداخلي بين حزب العمال الكردستاني والديمقراطي الكردستاني ومسك الشريط الحدودي من قبل قوات حرس الحدود حصرا.
ويحقّق الاقتتال الكردي – الكردي في شمال العراق لتركيا هدفا كبيرا يمثل بالنسبة إليها حلم أجيال من القيادات السياسية والعسكرية التركية المتعصّبة قوميا وصولا إلى القيادة التركية الحالية، وهو تقويض الكيان الكردي الوحيد الذي حصل على حكم ذاتي لسكانه البالغ عددهم خمسة ملايين نسمة على عكس أكراد سوريا وتركيا أو إيران.
وتثير حالة التوتّر المتصاعدة بين سلطات إقليم كردستان العراق وحزب العمّال الكردستاني التساؤلات عن أسبابها الحقيقية ومن يقف خلفها. وتشير بعض المصادر إلى تغلغل مخابراتي تركي في إقليم كردستان العراق، مؤكّدة بذل المخابرات التركية لجهود متواصلة في تأجيج العداء بين القوات الكردية وحزب العمال الكردستاني.
الاقتتال الكردي – الكردي يحقق لتركيا حلم تقويض الكيان الكردي الوحيد الذي حصل على حكم ذاتي في الشرق الأوسط
ويتّهم الباحث في الشأن الكردي هيوا عثمان تركيا بالوقوف خلف التصعيد قائلا لموقع الحرّة الإخباري، إنّ “التوتر موجود حقيقة، لكن ما يزعزع أمن إقليم كردستان العراق، هو الجانب التركي من خلال قصفه للكثير من المناطق بحجة وجود حزب العمال الكردستاني فيها”.
ويضيف أنّ أنقرة “تهدف إلى خلق حرب بين أكراد العراق وأكراد تركيا من أجل زعزعة أمن إقليم كردستان العراق والحديث للعالم بأن أهل الإقليم غير قادرين على إدارة أنفسهم بأنفسهم، وبالتالي تكون هناك فرصة للتدخل التركي”.
ومن جهته يرى عضو البرلمان التركي السابق عن حزب الشعب الجمهوري المعارض أيكان إرديمير أن “الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يريد نقل المواجهة مع حزب العمال الكردستاني من تركيا إلى أراضٍ يسيطر عليها حزب العمال في العراق أو يعبر منها إلى تركيا”.
ولا يخلو التصعيد التركي داخل الأراضي العراقية من خسائر في صفوف المدنيين، حيث قصفت تركيا في وقت سابق مخيم مخمور للاجئين في شمال العراق إثر تهديدات أطلقها أردوغان بـ”تنظيف” المخيّم. وقتل في القصف عدد من المدنيين مدنيين بينما قال الرئيس التركي إن المستهدف من القصف هو قيادي كبير في حزب العمال الكردستاني. وتتهم أنقرة حزب العمال باستمرار بأنه يسيطر على مخيّم مخمور الواقع على مسافة 250 كيلومترا جنوبي الحدود التركية.
كثيرا ما تتّهم السلطات التركية العراق بالتراخي تجاه نشاط الحزب الذي يشنّ تمردا ضدها منذ العام 1984 خلّف أكثر من 40 ألف قتيل، وتؤكد أنه ليس لديها خيار آخر سوى شنّ عمليات عسكرية في الأراضي العراقية ضد التنظيم الذي تصنفه هي وحلفاؤها الغربيون إرهابيا.
وبينما تحذّر الحكومة المركزية العراقية تركيا من مواصلة انتهاك أراضي العراق، تبدو سلطات إقليم كردستان العراق عديمة الحيلة أمام الحرب التي تدور رغما عنها على أراضي الإقليم، ولا تجد بدّا في التجاوب بشكل متزايد من مطالب التركية.
ودعت وزارة البيشمركة الكردية الثلاثاء في بيان “الحلفاء كافة والحكومة العراقية” إلى “أداء دورهم في وقف انتهاكات حزب العمال وحماية المناطق الحدودية في الإقليم بالتعاون مع قوات البيشمركة”.
وتعوّل أنقرة على فرض معادلتها الأمنية على العراق بالقوّة من خلال تكثيف عملياتها العسكرية داخل أراضيه وتوسيع دائرتها لتتجاوز المناطق الحدودية إلى مناطق أبعد داخل العمق العراقي، وتراهن بالتوازي مع ذلك على إقناع السلطات العراقية بالتعاون معها والقبول بوجود القوات التركية على الأرض العراقية، من خلال مساومة بغداد على ملفّات حيوية على رأسها ملف مياه نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان من الأراضي التركية.
ويخشى عراقيون، لاسيما من أكراد البلاد، أن يكون التدخّل التركي في العراق انعكاسا لمطامع حقيقية في أراضيه وامتدادا للمطامع في أراضي سوريا المجاورة والتي جسدتها أنقرة بالسيطرة على أجزاء واسعة من شمال وشرق سوريا باستخدام الذريعة ذاتها وهي ملاحقة التشكيلات الكردية المسلّحة التي تصنّفها أنقرة تنظيمات إرهابية.
وتقول مصادر عراقية إنّ ملامح شريط أمني تركي بدأت تتشكّل في عمق الأراضي العراقية، متوقّعة عدم انسحاب القوات التركية من المناطق التي دخلتها بالنظر إلى سوابق حكومة أردوغان في سوريا، وحتى في العراق.
ولن تكون المواجهة بين أكراد المنطقة في حال اندلع القتال بين القوات التابعة لإقليم كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني الأولى من نوعها، حيث سبق أن شهدت أواسط تسعينات القرن الماضي ما بات يعرف بـ”صراع الأخوة” في إشارة إلى الاقتتال الذي نشب آنذاك بين الاتحاد الوطني الكردستاني الذي أسسه الرئيس العراقي الأسبق جلال الطالباني والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني في صراع مسلّح استمر لثلاث سنوات وسقط فيه قرابة الخمسة آلاف قتيل.
العرب