ولعل صعود الدول المارقة يطرح تحديات هائلة، بدءاً من إدارتها الحروب بالوكالة، من خلال مليشيات غير دولتية، وانتشار أسلحة الدمار الشامل والإرهاب، مروراً بالنزاعات الدينية والمذهبية والعرقية، وليس انتهاء بالنزاعات على الموارد الطبيعية وموجات الهجرة والاتجار بالبشر، غير أنّ معظم الأزمات تبقى من دون حل، أو في طريق مسدود. ويعود ذلك، أساساً، إلى انقسامات حادة داخل مجلس الأمن الدولي (الهيئة السياسية الوحيدة للأمم المتحدة التي تملك سلطات لحل النزاعات المسلحة).
وعليه، تتعرض المنظمة، منذ عقدين على الأقل، لانتقاداتٍ تتهمها بأنها تتسم بعدم الفاعلية، وصارت تعاني من بيرقراطية مفرطة، فضلاً عن انتقاداتٍ تتعلق بتكلفتها الباهظة، وبأنها فشلت في حفظ السلم الدولي في أكثر من منطقة، وصلت، منذ أسابيع قليلة، إلى اعتراف الأمين العام بفشل المنظمة في التعامل مع كارثة اللاجئين السوريين.
لم تعد التركيبة الحالية لمجلس الأمن، وفق مبدأ حق النقض “الفيتو” المتاح لخمس دول، أمراً
مستساغاً. فما ذنب الشعب السوري، مثلاً، الذي استعمل في حقه السلاح الكيماوي المحرَّم دولياً وإنسانياً وأخلاقياً، لتأتي روسيا فتشهر “الفيتو” ضد أي تدخُّلٍ لحماية المدنيين السوريين؟ وما ذنب الفلسطينيين الذين تستعمل ضدهم الولايات المتحدة الأميركية عشرات “الفيتوهات”، كلما تعلق الأمر بإدانة إسرائيل؟
ينصرف الحديث عن ضرورة إصلاح هيكل منظمة الأمم المتحدة من أجل تفعيل دورها، في المقام الأول، إلى ضرورة إصلاح مجلس الأمن، باعتباره أخطر أجهزة الأمم المتحدة. ويتطلب الأمر إلغاء حق “الفيتو”، أو عقلنة استخدامه، إضافة إلى إقرار نوع من التوازن في الوظائف بين مختلف أجهزة المنظمة، وخصوصاً بين الجمعية العامة ومجلس الأمن في كل المسائل المرتبطة بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين، وتعزيز التعاون المتكافئ بينها في هذا الشأن، بشكلٍ يكفل بلورة عمل جماعي متكامل وأكثر فعالية.
ويمكن للجهود المطالبة بالإصلاح أن تستفيد من ضغوط الرأي العام العالمي المساند، عموماً، لحدوث تنظيم دولي يكرس مبادئ الشرعية الدولية. كما يمكن لهذه الجهود أن تستفيد أكثر من منظمات المجتمع المدني العالمي التي باتت تلعب دوراً كبيراً على الساحة العالمية.
والواقع أنّ التحديات التي تواجهها المنظمة الأممية، اليوم، لا تقل حدة عن أي وقت مضى. فمزيد من الأزمات تندلع في مزيد من الأماكن، ومزيد من الانتهاكات للقانون الإنساني الدولي وقوانين حقوق الإنسان تحدث بشكل متكرر، ومزيد من البشر أُجبروا على النزوح بفعل الصراعات على نحو غير مسبوق منذ عقود. ولعل تفعيل دور الجمعية العامة في حفظ السلم والأمن الدوليين، خصوصاً بعد صدور قرار “الاتحاد من أجل السلم” في عام 2005، الذي مكّنها من تولِّي مسؤوليات المجلس، في حال عدم القدرة على تحمُّل واجباته المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين، على الرغم من وجود حالة تستدعي التدخل، يكون أحد أهم المداخل لإصلاح الأمم المتحدة.
وأيضاً يبدو تعزيز التعاون بين الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية أحد هذه المداخل، بسبب قدرة هذه المنظمات على حل المشكلات والصراعات، فهي جزء من المشهد الدولي الجديد الذي تكون فيه المشكلات معقدة للغاية ومتشابكة، إلى درجة أنه لا يمكن لأحد أن يعمل بمفرده، ومن دون مساعدة الآخرين وتعاونهم. فالمنظمات الإقليمية تمتلك عدداً من الميّزات، بالمقارنة مع المنظمات الدولية، أبرزها كونها الكيان التنظيمي الأول المخوَّل بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة، كما أنها الأكثر قدرة على الاستجابة لفهم وتحليل عوامل وأسباب الصراع داخل نطاقها الإقليمي، وهذه الميّزة اكتسبتها بسبب قدرتها على فهم وإدراك الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية في منطقتها الإقليمية، حيث يمكنها فهم وإدراك الحساسيات الإثنية والسياسية والثقافية بأقاليمها.
لا شك أنّ الأمم المتحدة تواجه مشكلات عويصة ومعقدة، تهدد بقاءها. ولكن، هناك دول عديدة، ربما تشكل الغالبية على الساحة الدولية، ترى أنّ من مصلحتها بقاء المنظمة الدولية وتطويرها. وفي الواقع، تؤدي منظمة الأمم المتحدة اليوم دوراً رئيسياً مهماً ومؤثراً في مسار العلاقات الدولية المعاصرة، وهو دور قد يختلف كثيرون حوله، إيجاباً أو سلباً، لكنّ الجميع يتفقون على أنّ هذه المنظمة الدولية العريقة تشكل عنصراً لا بديل عنه لضبط واقع العلاقات الدولية القائمة، والحد من الأزمات ومظاهر العنف والنزاع التي لا تخلو منها بقعة في العالم.
ولكنّ التوقف عند لحظة التأسيس هو بحكم المستحيل، ولا يستقيم مع واقع التغيير الذي شهده العالم، المحكوم باستراتيجيات وتحالفات وتحولات كبرى في النظام الدولي لصالح قوى جديدة.