شهدت تركيا خلال هذه الصائفة موجة حرائق كبرى طالت سبع ولايات في جنوب وجنوب غربي البلاد، ورغم أن هذه الحوادث تتكرر بشكل سنوي، إلا أن الاستجابة الحكومية لم تكن في مستوى انتظار الأتراك وأشعلت موجة غضب واسعة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خاصّة بعد إعلانه عدم وجود طائرات مخصّصة لحماية الغابات، وفرض سلطاته تعتيما إعلاميا على تطورات الحرائق، فضلا عن توزيعه أكياس الشاي على العائلات المنكوبة بدل تقديم المساعدات.
أنقرة – شهد هذا الصيف مرور تركيا، فعليا لا مجازيا، بامتحان النيران. فعلى طول الساحل الجنوبي للأناضول، دمر أكثر من 270 حريقا من حرائق الغابات 53 مقاطعة، وحصد تسعة أرواح.
إن ضراوة حريق هذا العام، وهو الأسوأ على الإطلاق، ترجع إلى شيء واحد وهو عدم الكفاءة في التعامل مع الكوارث البيئية، وعدم فهم حجم التغير المناخي، وتعتبر الحرائق من أعراض الفشل التركي في الحفاظ على البيئة.
ولا تعتبر حرائق الغابات بالظاهرة الجديدة في المنطقة، فهي متوقعة في كل عام، وعلى مر الآلاف من السنين، ففي عام 2019 احترقت 11 كيلومترا مربعا بسبب حرائق الغابات، وزادت مساحة هذه الرقعة من الأرض إلى 20 كيلومترا مربعا العام الماضي، لكن زيادة الجفاف بنسبة 30 في المئة ودرجات الحرارة القياسية هذا العام ضاعفت الأضرار، فقد احترقت مساحة قياسية تبلغ 1600 كيلومتر مربع من الغابات، مما يدل على أن شيئا مختلفا تماما كان يحدث، وذلك الشيء هو الوتيرة المتسارعة لتغير المناخ.
ومع ذلك، يمكن التخفيف من آثار هذه الكارثة، مثلا من خلال زراعة الأشجار بشكل أفضل في إطار برنامج إعادة التشجير الخاص الذي تنفذه الدولة. لكن مثل هذا القرار يجب أن يمر عبر قسم دائرة الغابات في الحكومة التركية، وهي الوكالة المسؤولة عن الإشراف على بنك الأراضي في البلاد،وهنا تبدأ المشكلة.
وخصصت الوزارة 193 مليون ليرة تركية من ميزانيتها لهذا العام لمكافحة الحرائق، وهو ما يعادل 22 مليون دولار بسعر الصرف الحالي (والمنخفض للغاية) ومع ذلك، فقد أنفقت 3.4 مليون ليرة فقط على مشاريع ومعدات التخفيف من آثار الحرائق في النصف الأول من العام.
لذلك عندما اندلعت النيران في بلدة مانافجات في مقاطعة أنطاليا، تمكنت تركيا من توفير طائرتين فقط لمكافحة الحرائق، ولدى تركيا ما مجموعه ثلاث طائرات قابلة للتشغيل من ذلك الطراز، أما الطائرات الأخرى المملوكة لاتحاد الطيران التركي فكانت “قديمة وغير صالحة للاستخدام” ولم يُسمح لها بالانضمام إلى فريق مكافحة النيران.
ويبدو أن الحكومة التركية تعتقد أنها تستطيع إطفاء الحرائق متى توفرت الرغبة الصادقة، ففي الثاني من أغسطس حذرت الهيئة المنظمة للإذاعة والتلفزيون المحطات التلفزيونية من عدم إعطاء قدر كبير من التغطية للحرائق الجارية بنفس القدر الذي منح للنجاحات في إطفاء حرائق الغابات.
وهددت الهيئة بفرض عقوبات على من لم ينصاعوا لتلك التعليمات، وفي الأسبوع التالي تم تغريم ست محطات، بما في ذلك هابرترك وفوكس نيوز، بينما ركزت وسائل الإعلام المتعاطفة مع الحكومة على المناطق التي كانت فيها مكافحة الحرائق أكثر نجاحا. ودفع ذلك بالعديد من المشاهير، مثل الممثل الكوميدي ساهان جوكبهار، إلى السفر إلى المناطق التي تشهد حرائق مستمرة وبث تقارير عما شاهد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وأمام عجز الحكومة التركية، أخذ أفراد من الشعب التركي على عاتقهم مسؤولية تنظيم دعوة عالمية للمساعدة، وانتشر هاشتاغ (وسم) #ساعدوا_تركيا، بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن الحكومة رأت في ذلك محاولة لتقويض إدارتها للأمور، وقد قال أحد المسؤولين إن ذلك جعل تركيا تبدو في موضع “ضعف”، وبدأ حملة مضادة باستخدام هاشتاغ #لا_نريد_مساعدة، وكذلك وسم #تركيا قوية.
كما تم فتح تحقيق في حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي شاركت في وسم #ساعدوا_تركيا، واتهم أصحابها بنشر “القلقوالخوف”. وإذا لم يثر كل ذلك الحزن والحسرة، لكان من المضحك رؤية رجب طيب أردوغان، وهو يقذف بأكياس الشاي لضحايا الكارثة من مركبته المتحركة؟
وسرعان ما انتشرت التكهنات حاليا بأن الحرائق قد أشعلها البعض بصورة متعمدة، وتحدث عمدة أنطاليا مؤخرا، وهو أيضا رئيس المحافظة التي تحمل الاسم نفسه، عن تلك الشكوك. وكذلك فعل مدير الاتصالات الرئاسية فخرالدين ألتون وهو الشخص نفسه الذي قال إن مناشدات المساعدة الدولية جعلت من تركيا تبدو في موضع ضعف، والذي أقسم أيضا على أن يبدأ في إجراء التحقيقات في ذلك الشأن.
لكن إذا أردنا التعلم من تلك التجارب الماضية، فلا يوجد الكثير مما يمكن تعلمه. على الرغم من أن تركيا، في الواقع، توفر الحماية لغاباتها حسب الدستور، مع ملاحظة أن “مناطق الغابات التي تحترق لا يمكن بأي حال من الأحوال تخصيصها للبناء وبالتالي يجب إعادة تشجيرها”، إلا أنه في الكثير من الحالات يتم بناء العقارات على الأرض المحروقة.
والحقيقة أنه يجب توقع حرائق غابات أكبر وأكثر وبشكل متواتر، لكنّ الحكومة التركية لا تُعد من “مناصري وحماة الطبيعة والبيئة” ولن يتغير ذلك في القريب العاجل، ولكن في حين أن الوقوف مكتوفي اليدين ليس بالخيارات الجيدة، كون تركيا هي واحدة من ست دول، والوحيدة من بين مجموعة العشرين، التي لم تصدق بعد على اتفاقية باريس بشأن تغير المناخ، فإن المشاركة في تلك الكارثة خيار أسوأ بكثير، لقد تم قطع الآلاف من الهكتارات من الغابات لإفساح المجال للتعدين والمطارات وغيرها من المشاريع، وفي منتصف شهر أغسطس الماضي، قُبض على العديد من سكان مدينة موغلا لمحاولتهم إنقاذ الأشجار التي قطعتها شركة تعدين.
وكأن الحرائق لم تحدث الضرر الكافي، فقد ابتلي بحر مرمرة هذا الصيف بـ”مخاط البحر”، ومخاط البحر هي مادة مثيرة للاشمئزاز كما يبدو من الاسم، وهي إفرازات مخاطية لكم هائل من العوالق النباتية التي تتغذى على تصريف الأسمدة غير المنضبط في البر والبحر، وسيكون لسوء إدارة الحكومة للبيئة وإشرافها غير الحكيم على الطبيعة تداعيات وآثار على العديد من الأجيال القادمة.
العرب