تعيش المنطقة العربية منذ أحداث الربيع العربى ما يشبه التجسيد الحى لحالة الاستثناء. وتتعدد مؤشرات الاستثناء من قبيل تصاعد وتيرة الأعمال الإرهابية، وضعف أو انهيار السلطات المركزية، والصراعات الأهلية، وما يرتبط بها ويترتب عليها من مشكلات أمنية وإنسانية، وما أدى إليه ذلك كله من أزمات ومعضلات لنموذج الحكم وشكل إدارة الدولة والمجتمع، فضلاً عن فرض قيود على تحقيق آمال الثورات فى التغيير والديمقراطية.
غير أن حالة الاستثناء ليست حالة عربية حصراً، فهى ظاهرة قديمة اتخذت مسميات مختلفة وترتبط موضوعيا بوجود سياق سياسى، أو أمنى ضاغط يخرج عن دائرة «الطبيعى» أو المألوف، ويرتب إجراءات ومنظومة حكم وقوانين غير اعتيادية، فى حالات مثل حالات الحرب، والأزمات السياسية، والتهديدات الأمنية، وغيرها من حالات «الضرورة». وقد تكرس الاهتمام بالتأسيس النظرى لحالة الاستثناء، منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر 2001، وتفجير برجى التجارة العالمية فى نيويورك، وما واكبها من صدور قوانين استثنائية آنذاك، خاصة «القانون الوطنى الأمريكى» PatriotAct، ثم قانون MilitaryOrderالذى أصدره الرئيس الأمريكى جورج بوش الابن فى نوفمبر من نفس العام، والذى يتيح احتجاز الأجانب المشتبه بهم لأجل غير مسمى.
كما شهدت السنوات التالية سلسلة من إجراءات وقوانين مشابهة على الصعيد الأوروبى، لمواجهة الخطر الإرهابى أو كرد فعل له، بما حَّول، تدريجيا، ما بدأ كحالة استثنائية فى الإدارة وشئون الحكم، لمواجهة خطر بعينه، إلى عملية شبه دائمة يتم التأسيس الفكرى والقانونى والسياسى لها. وقد اهتم المفكر والمنظر الإيطالى، جورجو أجامبين، من خلال كتاباته، بدق جرس الإنذار إلى تحول «حالة الاستثناء» من مجموعة من الإجراءات والقوانين الطارئة والمؤقتة إلى تقنين مستمر لأحكام الضرورة، وتكريس نظم أمنية للحكم، وهو ما بلغ ذروته منذ أحداث الحادى عشر من سبتمبر، واستمر فى التمدد فى مختلف بلدان العالم حتى اليوم. هذه المنظومة للحكم، وفقا لأجامبين وطرحه، تميل تلقائياً إلى تعزيز السلطات التنفيذية وتمددها على حساب السلطات الأخرى للدولة، مع استباحة حقوق المواطن والتضحية بها تحت وطأة الضرورة.
إذا كان الحال كذلك فى الديمقراطيات المستقرة، حيث أعراف الديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان متجذرة، فهو بالتأكيد أكثر سوءا فى النظم التى لا تزال تحبو على طريق الديمقراطية، سواء من حيث الميل إلى دسترة وتقنين أوضاع استثنائية، أو حتى العمل خارج الإطار القانونى والدستورى برمته. بل إن الإجراءات، والقوانين، والسياسات الاستثنائية فى الدول الديمقراطية الغربية، غالبا ما تساق كمبرر أخلاقى وعملى يدلل على استحالة احترام الحقوق والحريات فى زمن الأزمة.
ويشتبك العدد الحالى من مجلة الديمقراطية، بأقسامه المختلفة، مع مسألة «حالة الاستثناء» من زاوية التحديات التى تمثلها أمام استتباب الحكم الديمقراطى. فتناقش دراسة العدد علاقة الشرطة بالنظام السياسى، بالتركيز على التناقض المفترض بين الحفاظ على النظام العام ودعم الحريات، خاصة فى مراحل التحول الديمقراطى.
كذلك يركز ملف العدد على علاقة التهديدات الأمنية -خاصة تحدى الإرهاب- بفرص تعزيز الديمقراطية، سواء فى المنطقة العربية أو عالميا. وتناقش موضوعات الملف قضايا ذات طابع نظرى، مثل: أبعاد علاقة الأمن بالديمقراطية، والثورة، خاصة ثورات الربيع العربى، باعتبارها أحد تجليات حالة الاستثناء بحد ذاتها، وما ترتبه من علاقة جدلية بين حفظ الأمن وبناء الدولة، وتدعيم الديمقراطية، فضلا عن دراسة تأثير الأوضاع الجيوبوليتيكية للمنطقة ومستجداتها، وما إذا كانت تشكل نوعا من الاستثناء الهيكلى الذى تفرضه طبيعة الموقع الجغرافى لدول المنطقة ومواردها الطبيعية، والفارق بين هذه الحالة وتجلياتها، وفكرة الاستثناء الثقافى المعتادة فى أدبيات دراسات الشرق الأوسط.
من ناحية أخرى، تشمل موضوعات الملف بعض الحالات التطبيقية التى يتضح من خلالها تأثير «حالة الاستثناء» على إصدار قوانين بعينها، خاصة ما شهدته أوروبا من قوانين استثنائية، بعد حادثة شارلى إبدو فى فرنسا فى يناير الماضى، أو تأثير المخاطر الأمنية على اتباع سياسات مواجَهَة ذات طابع أمنى بحت فى الكثير من الدول العربية، مع التساؤل حول حدود نجاح هذا النوع من المواجهة الأحادية، فضلا عن العلاقة بين تحدى الإرهاب وضرورات الأمن القومى من ناحية، واعتبارات حرية الصحافة والإعلام من ناحية أخرى.
فى السياق نفسه، يناقش قسم قضايا مصرية موضوعات ذات صلة، خاصة تلك المتعلقة بالمنظومة القانونية فى المرحلة الانتقالية. وتتناول مقالاته قضايا، مثل العلاقة بين السلطات فى المرحلة الانتقالية، وتنظيم الإعلام والصحافة فى الدستور، والدور التشريعى حال غياب البرلمان المنتخب، وصياغة الدساتير فى المراحل الانتقالية، وبعض القوانين النوعية، مثل قوانين الأحوال الشخصية للمسيحيين الأرثوذكس فى مصر، فضلا عن منظومة الأعراف التى تقع خارج نطاق القانون.
د.هناء عبيد
مجلة الديمقراطية