يعترف كاتب من جيل الستينات نشر لحد الآن أكثر من ثلاثين كتابا، بأنه مازال يكتب بالقلم على الورق. قد يبدو الأمر طبيعيا عندما يعبر عن الرغبة الشخصية والاستنجاد بالإلهام في فكرة الكتابة نفسها، لكنه يصبح تعبيرا عن قطيعة شاسعة عندما يعترف هذا الكاتب أيضا بأنه لم يفكر أبدا أو يحاول استخدام الكمبيوتر في الكتابة!
كل ذلك جعله يعيش عزلة معاصرة مع نفسه وقطيعة مريعة مع المنتج الإبداعي والسياسي المعاصر، فلا تكفي القراءة التقليدية للتواصل والاطلاع على أفكار الآخر. هناك ما هو عاجل في الحياة التكنولوجية. غير أن هذا الكاتب مازال يعيش عالمه الورقي الذي بناه على خطه الجميل في الكتابة والاستنساخ الإلكتروني لصفحات يخطها بيده.
روائية من نفس جيل الكاتب الستيني وبعد ثلاثين عاما من العيش في فرنسا، تعترف بأنها لم تتعلم من الفرنسية غير ما يساعدها للتفاهم مع احتياجاتها في السوق ومراجعة بلدية منطقتها.
قد يكون هذان المثالان معبّرين عن فكرة القطيعة التقليدية مع العالم المعاصر، لأنهما يعبران عن صناعة الأفكار والإبداع معا. لكن هناك ما يخيف في السؤال عندما نكتشف هوة القطيعة الشاسعة التي يمثلها النموذجان اللذان اخترتهما للدفاع عن فكرة هذا المقال، مع الأجيال الأصغر منهما.
إنهما أبعد من أن يكونا مقربين لفهم ما يفكر به أحفادهما، لكن من منهما مستعد لفكرة المراجعة في الأساس؟
اليوم تركز المناقشات في مراكز الدراسات الدولية، وهي الأكثر إثارة للجدل، حول ما إذا كنا كأفراد وكدولة على استعداد للمراجعة وسد الهوة العميقة التي تتسع بين الأجيال. فلا يكفي النقاش المشحون بالعاطفة التي توفرها الوسائل الرقمية للخروج بنتائج مفيدة.
من الأهمية بمكان تأمل تلك الهوة المخيفة، عند مراجعة فهمنا للتاريخ، وطبيعة اللغة التي نستخدمها!
كان واحد من أردأ الأدوار التي أداها ممثل عراقي في مسلسل عرض مؤخرا عن طبيعة الحياة في بيروت إبان عقد الستينات من القرن الماضي، وهو يتكلم بلهجة لا تمت بأي صلة إلى ذلك الوقت، بل استخدم مفردات لم تكن سائدة ومستخدمة مطلقا في الزمن الذي كانت أحداث المسلسل تعالجه! القطيعة هنا مشتركة في كادر إنتاج هذا العمل التلفزيوني. وهذا سبب كاف يدفعنا لمراجعة طبيعة هوياتنا الشخصية والوطنية، ومراجعة كيفية تصرفنا في علاقاتنا اليومية.
كم تبدو المراجعة ضرورية هنا، لكن هذا لا يعني أنها سهلة. يتطلب الأمر إجراء تغييرات جوهرية على الطريقة التي نفكر ونتحدث ونتصرف بها، في واقع جديد يقودنا إلى التدقيق الذاتي، بيد أن ذلك يتطلب التضحية بالراحة الذهنية التي يفضل الكثير منا الاسترخاء في كنفها. فمثل تلك الراحة لا تصنع الأفكار الملهمة ولا تفتح الباب أمام التغيرات الوجودية للمجتمعات.
إذا كان الأمر متعلقا بالسياسيين في العالم العربي، فهناك القليل منهم من فكر أو اقترح نموذجا للمراجعة، وحتى الذين عرضوها على شعوبهم، فقد كانوا تحت التهديد أو في لحظة ضعف سياسي عندما اختاروا المراجعة المتأخرة كوسيلة لإنقاذ حكمهم من السقوط.
إن المراجعة لا تكتفي بكونها طريقا مثاليا لوضع الأمور في نصابها بالنسبة إلى اتساق المجتمعات واستقرار البلدان في عمل مستمر من أجل التغيير نحو الأفضل، بل هي أيضا عمل أخلاقي، وحتى روحي يكشف عن المساحة المسؤولة في الإنسان بوصفه محبا ورافضا للكراهية والانقسام.
يدرك غالبيتنا أن الرغبة في تصنيف أنفسنا لا تتراجع مع تقدم العمر، لكن المشكلة تكمن في القبول بفكرة المراجعة. ومثال الكاتبين في مقدمة هذا المقال يقودنا إما إلى العجز في طريقة الإحساس بالزمن المتغير بالنسبة إليهما، أو رفض فكرة المراجعة بالأساس واعتبار الجمود بمثابة مبدأ لا يمكن التراجع عنه، تحت ذريعة الأصالة والخبرة والتراكم.
ذلك يكشف لنا صورة الهوة بين الأجيال على حقيقتها. فجيل الألفية ليس كما تصوره الفكرة السائدة عند الأكبر سنا، أنه مجرد شكل مستنسخ عن بعضه، خاضع، متأثر بالتلفزيون وتقوده الأجهزة الرقمية.
بدليل أن هذا الجيل الجديد يصنع أفكاره اليوم الناجحة وبشروطه الخاصة، وهو من يعيّن أفرادا من أجيال سابقة في أعمال شركات كبرى.
دعك من مارك زوكربيرغ، لكن كم كان عمر برايان أرمسترونغ الرئيس التنفيذي لشركة كوين بيز، عندما دخل نادي أثرياء العالم؟
لقد حققت شركة كوين بيز قيمة تجارية تبلغ نحو 100 مليار دولار في قائمة سوق الأوراق المالية.
قد لا يبدو عامل المال مهما هنا عند دراسة القطيعة الفكرية بين جيل زوكربيرغ وأرمسترونغ مع جيل مارغريت تاتشر وهلموت كول وهنري كيسنجر؟
ليس ذلك فحسب، نحن أمام طريقة التفكير السياسية التي ترفض التغير في العالم العربي، بينما تزداد الانقسامات بين الأجيال. ويمكن أن نعزو ذلك إلى رفض فهم الحكومات العربية الحاجة الإنسانية والمعرفية للجيل الجديد، في وقت يتفاقم لدينا عامل في غاية الخطورة عن الفكرة الاستهلاكية التي تدفع الأجيال المعاصرة إلى السطحية باعتبارهم مجرد متلقين وليس صناع أفكار ملهمة.
في المقابل يعجز ممثلو الجيل الأكبر سنا عن التعريف بأنفسهم بطريقة ملائمة للواقع المعاصر.
مع أن العديد من الباحثين يشككون في جدوى تقسيمات الأجيال، مشيرين إلى أن ذلك يكتفي بفكرة التقسيم نفسها ولا يوضح طبيعة الفروقات باستثناء سنة الميلاد. لكن هذا التشكيك لا يقلل من جاذبية علامات الأجيال في فهم التحديات التي طرأت على المجتمع سابقا من أجل الاستعداد للمستقبل. لذلك تبدو لي المراجعة بمفهومها بالنسبة إلى الرواد عاملا حيويا لمساعدة الجيل الجديد على القبول المبكر بمبدأ يساعد على الاستقرار السياسي والثقافي للمجتمعات ويحافظ على تنوعها.
العرب