تجتاح بلدان الوطن العربي من دون أيّ استثناء مجموعات هائلة من الجامعات والمعاهد الآتية من الخارج بالإضافة إلى الكثير من مراكز الأبحاث والمؤسسات ما بات مقيماً في ألسنة الشباب وسلوكهم وأعني به المجتمع المدني.
من المعروف أنّ وزارات التربية والأنظمة العربية تقوم وفقاً لإمكانياتها وطبيعة كلّ منها من مراقبة أو تتبّع ما تحمله هذه الظواهر التواصلية، لكنّ استغراق هذه البلدان في الصراعات الحادة الناشئة يجعل هذه البلدان غير قادرة على الإحاطة بما تتلقّاه شرائح شعوبها وشبابها. أوّلاً، لأننا جميعاً مقيمون في مناخ عاصف منقسم قاتل ولا تتّضح معالمه المستقبلية وإلى أين ستحطّ تلك الصراعات رحالها. وثانياً، لأنّ أطنان الضخ والتضليل والتشويه في الصور والمعلومات نحونا معضلات شائكة تتجاوز ثقافتنا وهي غير قابلة للضبط أو الحجب الرسمي كما يبدو في هذا العصر لأنّها تهطل مثل المطر في انتباه أولادنا تقول بالحريّة لكن من دون ألف ولام ونحن لا نقدر على حجب المطر.
قد يظن قارئ في ذهنه أنّ تلك المسائل لا تخصّ العرب والمسلمين وحدهم بقدر ما تخصّ شعوب العالم كلّه. هذا صحيح، لكن ألا يستوقفنا مدى الشروخ القائمة في آراء الكثير من أفراد بيوتنا وعائلاتنا ومواقفهم ونقاشاتهم ومشاحناتهم وانقساماتهم وحتّى عداواتهم في مسائل بديهية تخصّنا، وعلى كلّ المستويات، كان يمكننا أن نضبطها كما نضبط معالمها التربوية والاجتماعية بين سلطات الآباء والأبناء أو بين الأبناء أنفسهم أو بين الرؤساء والمرؤوسين؟
لقد جازفت عندما أسميت تلك المظاهر المعرفية ربّما بقساوةٍ سجّادة «الاستعمار الجديد» في نصوصٍ سابقة. وكنت أتأنّى موضوعياً قبل ربط تلك المظاهر كممهدات عبر نوافذ أو مواقع سهلة وحرّة ولا تحتاج إلى أي ثقافة بقدر احتياجها إلى مهارات تقنية بسيطة كانت تؤسّس لما عرف ب«ثورات الربيع» من الباب التونسي. لم نكن ننتبه كثيراً إلى هذه المظاهر وكان يطغى على فكرنا واهتماماتنا عناوين ثلاثة استراتيجية تمّ تصديرها إلينا وأعني بها الشرق الأوسط الجديد، المجتمع المدني، والفوضى الخلاّقة.
قد يدفعنا القسم المظلم من هذه المصطلحات إلى التفكير الخبيث بنقائضها أي المجتمع المتخلّف أو القروي وربّما الوحشي ثمّ الشرق الأوسط العتيق والقديم والمهلهل والقابل للتجزئة ثمّ الفوضى الخرّابة المدمّرة.
كان يكفي متابعة الثورات الناعمة أو الملوّنة عبر التاريخ أو الثورات الدموية لنضعها كلّها كمصطلحات ومظاهر بين قوسين، وكأنّ بلادنا كانت في حالة استرخاء، والحفر يقوم تحت تربتها أنفاقاً وأنفاقاً.
كان يصعب، بل يستحيل فهم أهداف هذه الهندسات الأمريكية المنشأ تحديداً، بأدوات عربيّة و«إسلامية» «نخبوية» بين قوسين أيضاً، وأغراضها هائلة الخطورة بعدما راحت تستقطب الأجيال الشابة التي انصرفت عن المدارس والجامعات وحتّى الأحزاب والدول بالطبع، وصار شغلها مواقع التواصل الاجتماعي والتجمعات الشعبية التي «سحرت» الناس ودفعت بهم «مسحورين» إلى الساحات نساءً ورجالاً وكهولاً وأطفالاً للمطالبة بالحريات التي لا حدود ولا آفاق لها ولا مساومة عليها سوى باستسقاء الدم عبر لذّة التخريب والتكسير والثورات وبإسقاط القديم والأنظمة ولو آلت الدنيا إلى فراغ أو فوضى وعنف ودماء وحتى إلى تقسيم وإيقاظ للأفكار الفيدرالية. كان المرمى تقويض الدول من أهلها وبأهلها ودفعها إلى استيلاد الصراعات وإيقاظ التشققات الدينية المذهبية والطائفية والإثنية المندملة التي باتت تطفو على سطح الخطاب وتأسر الانتباه العام والسلوك.
ظاهرة ثانية طغت على اهتمام الجميع هي هذا التهافت العربي على تعلّم الإنجليزية والحماسة الدبلوماسية الغربية على إتقان اللغة العربيّة التي راح السفراء والدبلوماسيون من أوروبا وروسيا وأمريكا وتركيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها يتنافسون بالتصريح بها بتشاوفٍ منقطع النظير عبر الشاشات. إلى درجةٍ كنت تسمع تصفيقاً من جمهورٍ عربي في مقهى أو ندوة إذ يرون أجنبياً يتكلّم الفصحى بطلاقةٍ متكسّرة. وهنا فاصلة محبّبة ربّما لا تنطبق على سفراء ودبلوماسيي إيران الذين لا يصرّحون إلاَ بالفارسية مع أنّهم كما قيل لنا يفهمون ويمتلكون العربية أفضل من الغربيين، لكنهم يلجأون في إيصال أفكارهم إلى المترجمين المرافقين: ما أن يفتح السفير أو الدبلوماسي الإيراني شفتيه مهمهماً بكلمة فارسية واحدة أو بكلمتين حتى يروح المترجم ينقل للمشاهدين العرب أو المستمعين نصاً طويلاً باللغة العربية الفصحى تجعلك تتساءل في نفسك: من أين جاء هذا المترجم بهذا الكلام كلّه؟ إنّه كمن يسمّع استظهاراً حفظه عن ظهر قلب ولسنا بالضرورة مجتهدين في التعليق على هذه الحواجز اللغوية أو تحليل مراميها بين العربية والفارسية. في المجال عينه، ألم تعلن الخارجية الأمريكية برنامج إغراء الدبلوماسيين الأمريكيين ومكافأتهم بعلاوات مادية إضافية إن تمكّنوا من لغة العرب، وصرنا نشهد العديد منهم يذهبون بثياب السبور إلى أطراف القرى النائية والمهملة والمنسيّة من أنظمتها ومسؤوليها ليلتقوا الفلاحين والمزارعين الذين لم يروا مدينةً أو بحراً أو مسؤولاً بالعين المجرّدة في حياتهم وذلك كلّه بهدف معالجة التربة وكيفية الزراعات الخالية من الكيماويات التي تنتج زراعاتٍ وثماراً طبيعية organiqueكما يزعم هؤلاء الذين يفرزون لهم مرجعيات «مدنية» لتدريب المزارعين على تربية الأبقار وصناعة الحليب وتربية النحل والدجاج وإنشاء المزارع والتعاونيات وزراعة الزيتون والزيت المعصور وفق الأصول والأصناف البديلة الأخرى، ويدرّبونهم كذلك على مصطلحات من قاموس حقوق الإنسان التي قد يصعب عليهم التلفّظ بها أو فهم معانيها ومقاصدها وأغراضها. تلك الحقوق التي صارت في الغرب وكأنّها «ديانة جديدة» لكن لا مضامين عملية لها في بلاد التصدير، إذ إنهم لا يمارسونها سياسياً إطلاقاً خارج بلادهم، خصوصاً في القضايا المفصلية مثل حقوق الفلسطينيين والعرب في الصراع العربي «الإسرائيلي» وغيره من الصراعات الأخرى التي أنشبوها في بقاع العالم وهي تشتدّ وتقوى في بلادنا.
سؤال: من يرشدنا فعلاً إلى أعداد الجامعات وبرامجها والجمعيات والمنظّمات المدنية المشابهة وأدوارها وشعاراتها وتمويلها ووظائفها واستراتيجياتها وأهدافها الحقيقية التي تبدو كأنها التهمت مفاهيم بعض الأوطان العربية والسلطات والمؤسسات وأشكالها المتعددة والجامعة العربية وأودعتها في أكوام من دماء وخراب وفي ساحاتٍ من قلق وضياعٍ وخواف؟
بصرف النظر عن الانشغال العربي بالإرهاب والدماء، نحن ندعو إلى إقفال الأبواب والنوافذ واجتراح صيغة ملحّة وعاجلة وعاقلة للداخل العربي.
د.نسيبم الخوري
صحيفة الخليج