سأل الجنرال ضابط المدفعية في جيشه “لماذا لم تطلقوا النار ونحن في خضم المعركة؟”، فقال الضابط “سيدي الجنرال هناك مئة سبب. أولها أننا لا نملك القذائف”. فقاطعه الجنرال “وما نفع الـ99 سببا إذا كنتم لا تملكون قذائف”.
هذا هو بالضبط حال الروبل، الذي قرر الرئيس فلاديمير بوتين أن يُدخله المعركة بتوجيه “الأمر” للمشترين الأوروبيين للنفط والغاز الروسيين أن يدفعوا الفاتورة بالروبل، بينما هو ليس عملة تداول عالمية. ولأن المصرف المركزي لم يزود الأسواق الدولية بالروبلات على نحو مسبق. ولأن أحدا ما كان سيشتريها. ولأنها عملة شديدة التقلب، إلى درجة أن قيمتها انخفضت بين فبراير الماضي ومارس الجاري بأكثر من 80 في المئة. كما لأنها عملة اقتصاد محدود في النهاية حيث لا تتجاوز قيمة الناتج الإجمالي الروسي السنوي 1.4 تريليون دولار، بينما يهيمن الدولار على تعاملات اقتصادات غربية يبلغ ناتجها الإجمالي السنوي نحو 48 تريليون دولار.
حتى الصين، التي يبلغ ناتجها الإجمالي عشرة أضعاف الناتج الإجمالي الروسي، ما تزال تتعثر في تحويل اليوان إلى عملة تداول دولية.
ولم تحقق عقود التبادل النقدي بين روسيا وعدد محدود من البلدان، غير ترتيبات نيّات لم يتم إنجازها إلا على ورق الأفكار.
وبينما يبلغ المعروض النقدي من صنف “أم 1” الذي يمثل النقود الموجودة خارج وزارة الخزانة الأميركية، ومصارف الاحتياطي الفيدرالي، وخزائن مؤسسات الإيداع الأميركية، أي باختصار خارج الولايات المتحدة، أكثر من 18 تريليون دولار، فإن قيمة المعروض النقدي للروبل (داخل روسيا وخارجها على حد سواء) لا تتجاوز 790 مليار دولار، أي أقل من تريليون واحد. وهي قيمة أقل من قيمة عملة البتكوين التي تعادل نحو 870 مليار دولار. والمعنى من ذلك هو أن “الأسواق” تمنح عملة البتكوين الوهمية التي لا تستند إلى اقتصاد، قيمة أعلى من قيمة الروبل، بكل ما تعنيه روسيا من صادرات وواردات وعلاقات تجارية ومخزونات واحتياطات ومنشآت ومعامل وقطارات وسيارات ومدافع وصواريخ ودبابات… الخ.
هناك افتراضات أو مخاوف أميركية تقول إنه يمكن أن يستخدم أسلحة كيمياوية ضد المدن الأوكرانية التي ترفض الاستسلام. ولكن هل تدري ماذا سيفعل؟
المصرف المركزي الروسي قبل غزو أوكرانيا كان يُسعّر الدولار بنحو 80 روبل، وفي خضم الأزمة انخفضت قيمته إلى نحو 150 للدولار الواحد.
هذا الانهيار السريع، برغم معدلات الفائدة العالية التي تزيد عن 9 في المئة، هو الذي دفع الرئيس بوتين إلى إصدار “الأمر” الذي يطلب من كل الدول “غير الصديقة” أن تدفع بالروبل مقابل مشترياتها من النفط والغاز. ولو أنها فعلت، فلا تعلم ماذا سيشتري بها وممّن؟
ولا توجد مصارف وسيطة لتحويلات تبلغ نحو 650 مليون يورو يوميا، كما لا يوجد “سعر أساس” يمكن القياس عليه. ولو بقي اليورو أو الدولار هو القياس، فالنتيجة هي “تيتي تيتي، مثل ما رحتي جيتي”. ولو أن روسيا سعّرت القدم المكعب من الغاز مثلا بـ100 روبل، ثم انهارت قيمته بسبب التضخم والركود، فإنها ستجني خسارة صافية باستمرار.
ومثلما يجوز للمرء أن يعتقد بأن قرار الغزو اتخذ من دون استشارة رئيسة المصرف المركزي الروسي إلفيرا نابولينا، وهو ما رجح التكهنات بطلبها الاستقالة، فمن غير المستبعد أن يكون “الأمر” الذي أصدره بوتين قد تم من دون التشاور معها أيضا. أو على الأقل، فإنه طلب منها أن تنقذ الروبل من الانهيار، فلم تجد إلا ما لا نفع فيه.
الدول الأوروبية تقول الآن إن القرار لا يتوافق مع العقود المبرمة سابقا، والتي تنص على أن يتم الدفع باليورو أو الدولار. مما يثير خصومة قانونية لا تستطيع روسيا أن تنجو منها أمام أي محكمة، حتى ولو كانت محكمة روسية فيها قاض واحد ما يزال يحتفظ بعقله. ومع ذلك فقد رفضت الدول الأوروبية المعنية الالتزام بالقرار، ببساطة لأنها “لا تملك قذائف” بالروبل أصلا. وذلك فضلا عن قولها إن تحويل مبيعات النفط والغاز الروسية إلى أوروبا لتكون بالروبل هي ليست أكثر من محاولة للتهرب من العقوبات.
القرار سمح برفع قيمة الروبل إلى 100 مقابل الدولار الواحد. ولن يمضي وقت طويل قبل أن تعود هذه القيمة لتتدهور من جديد، لاسيما بعد أن أعلنت كل الدول التي تقترب تعاقداتها من النهاية عزمها على عدم تجديد هذه التعاقدات. أي أنها ستبحث عن مصادر توريد أخرى.
هذه كلها، على أي حال، من بين الـ99 سببا التي قد تبدو لعين الجنرال أنها لا نفع فيها.
لا الروبل سيحظى بقيمة أعلى، ولن يشتري به بوتين سوقا أفضل. ولا نابولينا ستبقى إلى جانبه، حتى لو رفض استقالتها
السبب الأهم، هو أن القرار بمثابة إعلان طلاق بين روسيا والاقتصاد الغربي، لكي لا نقول العالمي. وذلك ردا على المقاطعة التجارية التي تنفذها الشركات والدول الغربية. والمقاطعة شيء، والطلاق شيء آخر. الأولى عمل من أعمال الضغط لتحقيق هدف سياسي. أما الثاني فهو عمل من أعمال هدم الدار.
بقي أن تقدر قيمة هذه الخطوة من زاويتين اثنتين على الأقل.
الأولى: كم تساوي قيمة التبادلات التجارية بين روسيا وباقي دول العالم مثل الصين والهند وغيرها التي تتردد في الالتزام بالعقوبات الغربية؟ وهل توفر هذه التبادلات كل ما يحتاجه الاقتصاد الروسي من تكنولوجيا وقطع غيار ومواد أولية؟ وهل يتم الاستبدال بالسرعة التي تحول دون سقوط الاقتصاد في هوة ركود عميق؟
والثانية: هل يمكنها أن تُضفي على الروبل قيمة “تداولية” أعلى على خلفية اقتصاد يخسر أكبر أسواقه؟
هناك مثل شعبي عراقي يقول “زعل العصفور على بيدر الدخن”. وهو يسخر من العصفور عندما يزعل على بيدر الحبوب الذي يأكل منه.
روسيا، بسبب من دوافع الغطرسة لا أكثر، تزعل على “السوق”، وتتكابر على مصدر تمويل رئيسي، وتبيع الغالي لتشتري الرخيص.
ولكن الرفيق بوتين، بما أن رأسه ناشف، فقد اختار أن يفعل ما توقعه الاشتراكي اليساري السابق، والعاقل حاليا، أولاف شولتس المستشار الألماني الذي قال له “إنك لا تدمر أوكرانيا وحدها، ولكنك تدمر مستقبل بلادك أيضا”.
وهو في الواقع يقصف الاقتصاد الروسي بروبل عابر للقارات.
ولكن، لا الروبل سيحظى بقيمة أعلى، ولن يشتري به بوتين سوقا أفضل. ولا نابولينا ستبقى إلى جانبه، حتى لو رفض استقالتها.
يستطيع وزير خارجيته سيرغي لافروف أن يهذي بما يشاء من التبريرات لغزو أوكرانيا، فيقدم لها سردا من الافتراضات الوهمية. ولكن الروبل هو في النهاية مؤشر رقمي لمعادلات اقتصادية صلبة، عنيدة، ورأسها أنشف من رأس بوتين.
هناك افتراضات أو مخاوف أميركية تقول إنه يمكن أن يستخدم أسلحة كيمياوية ضد المدن الأوكرانية التي ترفض الاستسلام. ولكن هل تدري ماذا سيفعل؟
العرب