استراتيجية “الاستعداء”: كيف يحفز “داعش” مناصريه؟.. تحليل مضمون لخطاب البغدادي

استراتيجية “الاستعداء”: كيف يحفز “داعش” مناصريه؟.. تحليل مضمون لخطاب البغدادي

يُمثِّل الخطاب أداةً هامةً للتأثير والسيطرة، وقد حظي مضمون الخطاب بأهمية متزايدة في العقود الأخيرة، نظرًا لأهميته في التأثير على الوعي الجمعي للشعوب، وكذلك لاستخدامه من أجل الاستحواذ أو الحفاظ على الشرعية السياسية أو الدينية، وفي هذا الإطار يأتي كتاب “خطاب داعش لتحفيز الأمّة الإسلامية”، من إعداد الباحثة (Amaryllis Georges)، وهي باحثة متخصصة في شئون الإرهاب وحقوق الإنسان، ومديرة تحرير مجلة “اتجاهات البحوث والاستشارات” يوليو 2015، ويحاول هذا الكتاب بحث الاستراتيجية اللغوية التي يستخدمها تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام “داعش” من خلال تحليل خطاباته التأسيسية لدولة الخلافة الإسلامية.

تحليل خطب البغدادي:
تشير الباحثة إلى أنه تمَّ إعلان دولة الخلافة الإسلامية خلال إحدى خُطَب أبو بكر البغدادي في يوليو 2014، وأن ذلك قد تمَّ من خلال طريقتين عرضهما لتكريس الخلافة في الأمّة الإسلامية، إحداهما مرتبطة بتشكيل هيئة إسلامية عالمية فريدة، والأخرى مرتبطة بخلق العدو من أجل تحفيز المسلمين بوجود “معسكر الإسلام” في مواجهة “معسكر الكفر”.
وقدم دولة الخلافة الإسلامية باعتبارها المدينة الفاضلة والمُخلِّصة لمعاناة المسلمين حول العالم. كذلك فإن الباحثة ترى أن البغدادي يركز على فكرة الجهاد باعتبارها فكرة مركزية ومحورية يحاول من خلالها استقطاب المسلمين من كافة أنحاء العالم من أجل المشاركة في دولة الخلافة المزعومة.
وقد اعتمدت الباحثة على منهج التحليل النقدي للخطاب (CDA)، نظرًا لأهمية هذا المنهج في استكشاف التفاعلات اللفظية واللغوية الموجودة في متن الخطاب، وذلك في ظل التأثير المباشر وغير المباشر للخطاب على الإدراك الشخصي للأفراد، وفي هذا الإطار ومن خلال تحليل خطبة البغدادي التي أعلن فيها دولة الخلافة الإسلامية فإن الباحثة تقسِّم تحليلها إلى خمسة محاور أساسية، يمكن تبيانها على النحو التالي:
1- الاستعانة بالنصوص الدينية: حيث يركِّز البغدادي دائمًا على إقحام النصوص الدينية من القرآن والسنة، من أجل توضيح فكرته والتأثير على المُتلّقي، وحديثه عن ضرورة طاعة الله وتنفيذ أوامره وصيام شهر رمضان، ومحاولة تقديم نفسه باعتباره خليفة المسلمين والقائد الأعلى للمعسكر الجهادي بشكل وضع الظواهري زعيم تنظيم القاعدة على الهامش، وهو ما أدى إلى نشوب خلافات بين داعش وتنظيم القاعدة، وعدم اعتراف الأخير بخلافة البغدادي.
2- الجهاد العالمي: حيث دعا البغدادي في خطابه إلى الجهاد باعتباره ضرورة مُلحة من أجل السير على خُطى “السلف الصالح”، ومواجهة أعداء الأمّة الإسلامية، حيث إن البغدادي يستخدم اللغة والدين من أجل تبرير مشروعه السياسي ورؤيته لدولة الخلافة الإسلامية، وتشير الدراسة إلى أن استخدام لفظ “المجاهدين” جاء بغرض التعظيم، وقد أكد على أن المجاهدين إنما يبذلون تضحياتهم من أجل الوصول إلى جنة ذات جنات ونهر.
3-     الأمّة الإسلامية الموحدة: حيث ركَّز البغدادي في خطابه على إعلان فكرة الجهاد والإعلاء من شأن المجاهدين باعتبار أن ذلك أمر حيوي للإسلام وإلى العودة لطريق الله كمدخل هام لإعلان الخلافة الجديدة، وتعامل مع مفهوم “الأمّة” باعتباره وحدة مجتمعية تشمل كل المسلمين حول العالم، ويرسمهم في صورة المضطهدين الذين يعيشون حياة الإيذاء واليأس والاستضعاف، وذلك من أجل تجنيدهم وتحفيزهم كي يكونوا أداة باطشة لمواجهة هذا الظلم في إطار دولة الخلافة القويّة على حسب وصف البغدادي، وكذلك مواجهة العرب المتغطرس الكافر الإمبريالي الذي يقف جنبًا إلى جنب مع الإلحاد والفساد الأخلاقي. وفي حقيقة الأمر هناك تناقض واضح في خطب البغدادي، حيث إنه يشير إلى أمة المسلمين باعتبارها موحدة، إلا أن خطبه تشير إلى التفرقة بين المسلمين السنة ومسلمي باقي المذاهب وكأنهم أقل شأنًا، بل ساوى خطابه بينهم وبين من أسماهم الصليبيين واليهود.
4- الإرهاب في فكر” داعش”: تعامل البغدادي مع الإرهاب باعتباره ظاهرة ضد الإسلام والمسلمين في العالم، وأن العالم يصمت على ذلك، حيث يتم تدمير منازل المسلمين واغتصاب نسائهم في ظل تغاضي المجتمع الدولي، واعتبار أن ذلك ليس إرهابًا، وبالتالي فإن منهجه يعتمد على العنف من أجل أن يكون مُخلِّصًا للمجتمع الإسلامي من تلك المظالم.
5- دولة الخلافة الفاضلة: عدَّد البغدادي أفضال دولة الخلافة لكافة المسلمين باعتبارها دولة استعادة الحقوق، وقيادة العالم، بالإضافة إلى أنها دولة المساواة بين المسلمين بكافة اختلافاتهم العرقية، وأن دولة الخلافة الإسلامية هي دولة فاضلة، ولذا فإنها تستحق التضحية، وأن أيّ شخص يعترض عليها أو يرفضها فهو عدو للإسلام وعدو للمسلمين.
من جانبٍ آخر، فإن الباحثة تبرز التحليل الكمِّي لخطاب البغدادي باعتباره مؤشرًا هامًّا على إظهار مفرداته والكلمات الأكثر تردُّدًا في خطابه. فعلى سبيل المثال فإن خطابه التحليلي قد تضمن (2962) كلمة، كان أكثرها تداولا هي كلمة “الله” والتي تمّ ذكرها (74) مرة، وهو أمر يفسره الكاتب بأنه محاولة من البغدادي للتأكيد على ربط خلافته المعلنة باعتبارها تنفيذًا لشرع الله.
وكذلك فقد استخدم كلمة “المسلمون” حوالي عشرين مرّة، واستخدم كلمة “الإرهاب” (14) مرّة، وكلمة “المجاهدون” ست مرات، وقد استخدم كلمة “هم” و”نحن” (17) مرّة، واستخدم “أنت / أنتم” حوالي (53) مرّة. وهذه الكلمات بلا شك لها دلالات كبيرة مرتبطة بمحاولة تحفيز المسلمين نحو الانضمام والتصديق بدولة الخلافة المزعومة، ويوضح الجدول التالي تحليلا كميًّا لخطاب بغدادي الذي تم فيه إعلان الخلافة:


مركزية “الجهاد” لدى داعش:
تُشير الباحثة إلى أن الجماعات الإرهابية تعتمد بالأساس على تطويع النصوص الدينية من أجل تبرير أعمال العنف، وللاستحواذ على سلطة تُلزم الأفراد بطاعة أمير الجماعة، بالإضافة إلى إضفاء الطابع المؤسسي على فكرة الجهاد، واستخدام دعاية قوية، وتلعب اللغة دورًا كبيرًا في تجييش المجاهدين بشكل يدفعهم لبذل مزيدٍ من الوحشية، وتنطلق فكرة الجهاد بالأساس من وجود مظالم مجتمعية في الدول الإسلامية ومعاناة وظلم واستبداد، وهو ما يحسن استغلاله تنظيم داعش باقتدار من أجل جذب الكثير من الشباب من مختلف المجتمعات الإسلامية.
وفي السياق ذاته، فإن البغدادي يتعامل مع فكرة “السلام” باعتبارها تعني الضعف، وأن الدين -بحسب زعمه- لا يتسامح مع الضعف طالما أن المعركة من أجل البقاء ومن أجل نصرة الإسلام، ولذا فإنه يدعو إلى “حمل السلاح” من أجل أن يكونوا ضمن “جنود الدولة الإسلامية”. ويتحدث بثقة بالغة باعتباره هو صاحب السلطة السياسية والدينية الشرعية، وأن دولته حدودها ليست أبدًا سوريا والعراق فقط، ولكنها تشمل أيضًا كل مساحة جغرافية ممكنة تمتد إليها الدولة الإسلامية.
من جانب آخر؛ فإن الموقف النظري القائل بأن اللغة يمكن أن تُوظَّف من أجل بناء وترسيخ أيديولوجية ما، هو موقف يتضح بشكل كبير في خطبة البغدادي لتدشين الخلافة الإسلامية الجديدة. فمن خلال الاعتماد على المنهج النقدي تبيَّن أن ذلك قد أثّر بشكل كبير على العديد من المسلمين المتطرفين في جميع أنحاء العالم؛ حيث كانت الخطبة ملهمة ومحفزة لهم من أجل الانضمام إلى دولة الخلافة. وفي السياق ذاته، فإن الإطار النظري للخطابات السياسية باستخدام تعبيرات وكلمات ومفردات بعينها يعزز بشكل منهجي من القدرة على التأثير على الناس.
الحرب النفسية الداعشية:
لم يقتصر إرهاب داعش على حمل السلاح كأداة، بل تم استخدام الخطاب من أجل شن حرب نفسية أيضًا؛ حيث يستخدم في العديد من خطبه لفظ “يلحق”، و”يئن”، و”محنة” لإظهارهم بمظهر المضطهدين، وهي ذات التقنية التي تستخدمها جماعات أخرى مثل حزب الله، وعادةً ما يلحق بهذه الكلمات ألفاظ مثل “الجنود” و”الكتائب” لإبراز هذا وكأنه بمثابة الحل المؤكد ولدعم موقف داعش الجهادي.
كذلك حرص على إثارة الحماسة لدى أنصاره، وفي الوقت نفسه إثارة الرعب والخوف لدى الحكومات والشعوب، فدائمًا ما يردد في خطبه -خاصةً التي تستهدف تهديد الدولة أو التي تتعهد بإقامة خلافة- ألفاظًا مثل “قريبًا” و”اليوم” و”الآن” و”سيأتي يوم” و”عهد جديد” و”لقد حان الوقت” و”بداية جديدة للأمة”. وسبق واستخدم البغدادي جملا لتحميس أتباعه وضم أتباع جدد مثل “من صمت ونام طويلا يجب أن يستيقظ الآن”، و”يجب أن تكون في حالة تأهب”.
وإجمالا فإن خطاب البغدادي هو خطاب “استدعائي” باسم الإسلام لبناء هوية إسلامية ليس لها حدود؛ حيث إنه يمثل دعوة لكافة المسلمين من كل أنحاء العالم من أجل الانضمام إليه وإلى دولة الخلافة تحت مظّلة الجهاد العالمي، وكذلك فهو يحاول أن يستدعي أصحاب الكفاءات العسكرية والطبية والهندسية والعلماء والقضاة ومن غير ذوي التخصُّص من أجل أن يكونوا هم بناة دولة الخلافة.
من جانبٍ آخر فإن خطاب البغدادي هو خطاب “استعدائي” حيث إنه يقوم بالأساس على تقسيم العالم إلى معسكرين؛ أحدهما هو الإسلامي الخيّر والآخر هو الكافر الشرير، وقد نتج عن ذلك ظهور تنظيم الدولة الإسلامية بالعراق والشام باعتباره تهديدًا جديدًا للنظام العالمي في ظل نجاحه في السيطرة على مساحات جغرافية واسعة، واستقطاب أناس من كافة دول العالم في ظل الحصول على تمويل هائل من مصادر مختلفة.


عرض: أحمد عبد العليم

نقلا عن المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية
المصدر:
Amaryllis Georges, “ISIS rhetoric for the creation of the Ummah”, (Abu Dhabi: Trends research and Advisory, 2015).