قراءات مختلفة، وتقديرات متباينة، للنتائج التي يمكن أن تترتب علي اتفاق فيينا بشأن البرنامج النووي الإيراني. وراء كل قراءة للتداعيات المحتملة لهذا الاتفاق خلفيات سياسية، وفكرية، ومذهبية معينة. وخلف كل تقدير لآثاره علي موقع إيران في الشرق الأوسط والعالم حسابات، بعضها ينحو إلي الموضوعية، وبعضها الآخر يشي بانحيازات واضحة أو مضمرة.
ولذلك، ينطوي معظم هذه القراءات والتقديرات علي مبالغات في هذا الاتجاه أو ذاك، ويغلب فيها الميل إلي تهويل هنا، وتهوين هناك. ولكن يجمع معظمها اتفاق علي أن إيران استطاعت تحقيق نجاح ملموس، وأثبتت أنها قوة إقليمية كبري تمسك ببعض أهم مفاتيح مستقبل منطقة الشرق الأوسط، أو بالكثير منها، بغض النظر عن التفاوت في تقدير قوتها، ووزنها النسبي.
غير أنه بمقدار ما أجاب اتفاق فيينا علي أسئلة، أهمها العلاقة بين دور إيران الإقليمي وبرنامجها النووي، فقد طرح أسئلة أكثر أهمية، في مقدمتها سؤال مسكوت عنه حتى الآن، ويصعب تصور ما ستئول إليه أوضاع المنطقة بعد سنوات بدون التفكير فيه.
بين الاستراتيجية والتكتيك:
التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي في سياسة إيران الخارجية هو مفتاح فهم سلوكها التفاوضي الذي أسفر عن التوصل إلي “اتفاق فيينا” مع “مجموعة 5+1” في 14 يوليو .2015 كانت المرونة التي أبدتها طهران في “ربع الساعة الأخير” متوقعة، في ضوء استراتيجيتها التي تجعل إكمال مشروعها الإقليمي مقدما علي التسلح النووي. فالأولوية الآن هي استغلال الفرصة التاريخية المتاحة أمامها لإكمال هذا المشروع، سعيا إلي إعادة صوغ المعادلات الإقليمية.
وليست هذه هي المرة الأولي التي ترجئ فيها إيران مشروعها النووي من أجل هدف آخر. فقد قضَّت الحرب الأمريكية التي أسقطت نظام صدام حسين، خلال أسابيع قليلة عام 2003، مضاجع صانع القرار الإيراني. كانت لحظة مفزعة لم يمر قادة إيران بمثلها، منذ أن سيطروا علي السلطة عام .1979 كانت اللحظة التي “تجرع فيها الإمام الراحل آية الله خميني السم” لإنهاء الحرب مع العراق أقل وطأة عليهم. ولذلك، كانت المحافظة علي سلطتهم هي هدفهم الأول، عندما قرروا، فور بدء العدوان الأمريكي علي العراق، المبادرة بكشف برنامجهم النووي “بيدي لا بيد عمرو”، قبل أن يصبح مبررا لاستهدافهم بعد صدام حسين وجنرالاته.
غير أن الباب الذي فتحوه أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ذلك الوقت أخذ يضيق بمجرد شعورهم بالاطمئنان، عندما بدأت الدائرة تدور علي القوات الأمريكية في العراق منذ أوائل .2004 ولم يمض عامان حتي كان هذا الباب قد أغلق تقريبا في ظروف لم تجد واشنطن ما تفعله فيها إلا اللجوء إلي مجلس الأمن لفرض عقوبات علي إيران، في الوقت الذي كان فيه الوضع علي الأرض في العراق يفرض تنسيقا غير مباشر بينهما.
وفي تلك الظروف، استأنفت إيران برنامجها النووي بالتزامن مع التغلغل في العراق الذي صار مفتوحا أمامها، وتطوير تحالفها مع نظام بشار الأسد في سوريا ليصبح معتمدا عليها، وزيادة دعمها لحزب الله علي نحو مكنه من الصمود، رغم ضراوة الحرب التي شنتها إسرائيل عليه، وعلي لبنان عموما، عام .2006
ويعني ذلك أن إيران استأنفت برنامجها النووي بسرعة ربما لم يتوقعها قادتها بالتوازي مع تغلغلها في العراق، علي نحو دعم نفوذها، وفرض علي واشنطن التعاون ضمنيا معها سعيا إلي تقليل خسائرها.
ويعرف صانع القرار الإيراني إذن أن مشروعه الإقليمي هو الذي دفع “الشيطان الأكبر” إلي التفاوض، وتقديم عرض لم يكن متصورا أن يصدر عنه قبل سنوات. ولذلك، لم تتردد طهران في التجاوب مع هذا العرض، وتقديم تنازلات مؤلمة، كان خطابها السياسي يعدها من باب المستحيلات، لكي تتمكن من تحقيق هدفها الاستراتيجي في إكمال مشروعها الإقليمي، وتكريس ما حققته فيه خلال السنوات الأخيرة. فالأولوية اليوم هي لتدعيم سيطرتها علي العراق، واستعادة المناطق التي تمدد فيها “داعش”، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من نفوذها في سوريا، وضخ مزيد من الدعم لوكيلها الحوثي الذي كانت ميليشياته أمام القوي المؤيدة للشرعية في اليمن، وقت كتابة هذه الافتتاحية.
وهذا هدف يستحق أن ترجئ إيران من أجله مشروع عسكرة البرنامج النووي، أو حتي تلغيه، مادام الاتفاق مع “مجموعة 5 + 1” لا يعوق مشروعها الإقليمي، بل يدعمه ماليا، من خلال رفع العقوبات، والإفراج عن الأرصدة الكبيرة المجمدة. وفي مثل هذه الظروف، يقود أي نوع من الحسابات إلي تقديم تنازلات كبيرة، ظل المفاوض الإيراني يساوم عليها حتي اللحظة الأخيرة.
وعلي سبيل المثال، كان خفض كمية اليورانيوم المخصب بأي مقدار “خطا أحمر”.
ومع ذلك، قبلت إيران التخلص منه تقريبا، إذ ينص الاتفاق علي احتفاظها بثلاثمئة كيلوجرام فقط من أصل عشرة آلاف. وبعد أن كان رفع العقوبات جميعها، فور توقيع الاتفاق، “شرطا غير قابل للمراجعة”، وافقت طهران، علي أن يبدأ ذلك في نهاية العام، وبموجب تقرير تقدمه الوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤكد التزامها بالاتفاق، فضلا عن مواصلة أمريكا وأوروبا حظرهما علي بعض أوجه التعامل التجاري والمالي معها، وحرمانها من امتلاك صواريخ باليستية لمدة خمس سنوات أخري.
فالمهم الآن بالنسبة لإيران هو مشروعها الإقليمي، وهذا هو ما ينبغي أن يكون ضمن الحسابات العربية في الفترة المقبلة، بدون استهانة بالتنازلات الكبيرة التي اضطرت إيران إلي تقديمها، ومع عدم التقليل في الوقت نفسه من أهمية المكاسب التي ستحصل عليها لإكمال مشروعها الإقليمي. ولا ينبغي أيضا استبعاد إمكان حدوث تغير تدريجي في سياستها، يهذب هذا المشروع، ويتيح حوارا جادا حول مستقبل المنطقة.
أولويات إيران الإقليمية:
ينبغي قبل كل شيء وضع العراق جانبا حين نبحث في أولويات إيران الإقليمية. فالعراق يعد أكثر من أولوية أولي يعبر عنها بعض الساسة الإيرانيين بطريقة رمزية، عندما يقولون إن بغداد هي عاصمة “إمبراطوريتهم”. ولم يكن استدعاء اللواء العراقي المعروف بلواء “أبو الفضل العباس” من دمشق، وإرساله إلي العراق، فور استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” علي الموصل في صيف 2014، إلا دليلا جديدا يؤكد ما هو مؤكد.
وإذا عرفنا أن حضور إيران في لبنان يرتبط بنفوذها في سوريا، وقدرنا أهمية حزب الله، وحرصها علي دعم قدراته، تبدو الإجابة علي سؤال الأولويات الإقليمية بالنسبة لها واضحة. سوريا، إذن، هي الأولوية التي تأتي في المرتبة التالية مباشرة للعراق. ولبنان هو الوجه الآخر لهذه الأولوية. فإما أن تحافظ إيران علي نفوذها في البلدين معا، أو تفقدهما في الوقت نفسه. ولا يخفي أن حضورها في سوريا هو أهم عوامل استمرار نفوذها في لبنان، اعتمادا علي قوة حزب الله السياسية. ويستمد حليفها اللبناني هذه القوة من امتلاكه السلاح الذي ترسله إليه عبر سوريا. فإذا فقدت “المعبر” السوري، خسرت لبنان، أو كادت.
ومن الطبيعي، والحال هكذا، أن يأتي اليمن في مؤخرة أولويات إيران الإقليمية. ولكن حضورها في هذا البلد، المجاور للمملكة العربية السعودية، الأكثر تشددا ضد مشروعها، يمنحها أداة مهمة للمساومة الإقليمية، حين يأتي وقت التسويات التي يتصور كثيرون أن المنطقة صارت علي مشارفها بعد اتفاق فيينا.
ولذلك، فرغم الصعوبات اللوجيستية التي تحول دون تقديم إيران مساعدات لميليشيا جماعة “أنصار الله” الحوثية، وضعف قدرتها علي إزالة هذه الصعوبات، والتكلفة السياسية الفادحة المترتبة علي القيام بمحاولات في هذا الاتجاه، ظلت تشجع هذه الجماعة وحليفها الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، والقوات التابعة له علي إكمال سيطرتها علي اليمن، حين كانت في موقع الهجوم، ثم علي الصمود، وإطالة أمد القتال، عندما تحولت إلي الدفاع منذ طردها من عدن، وتقهقرها بعد ذلك. فالهدف الإيراني هنا هو أن يبقي اليمن رهينة وضع مضطرب، من خلال استمرار القتال، وعدم تحقيق حسم عسكري، لكي تظل محتفظة بورقة مهمة للمساومة.
والأرجح أنها ستتمكن من الاحتفاظ بهذه الورقة، رغم التقدم المطرد الذي تحققه قوات الحكومة المعترف بها دوليا.
وحتي إذا وصلت هذه القوات إلي صنعاء، فستظل هناك حاجة إلي تسوية سياسية تريدها إيران لربطها بأية صفقة يجري التفاوض عليها لحل الأزمة السورية.
تعرف إيران أن الأطراف المؤيدة للحكومة اليمنية المعترف بها، والتي يقاتل بعضها ضد ميليشيا الجماعة الحوثية وحلفائها، لن تبقي موحدة. فالخلافات كبيرة بين أربع مجموعات أساسية منها، وهي الأحزاب والقوي السياسية، والقبائل التي تشارك في القتال، والمقاومة الشعبية المرتبط معظمها بـ “الحراك الجنوبي”، والتي أعلن دمجها شكليا في نواة جيش مؤيد للحكومة المعترف بها دوليا، فضلا عن القادة العسكريين.
وهناك أيضا خلافات داخل كل من هذه الأطراف أيضا، خاصة في أوساط الأحزاب والقوي السياسية. وقد تسعي جماعة “الإخوان المسلمين”، من خلال حزب التجمع اليمني للإصلاح، إلي الحصول علي موقع أكبر من حجمها في النظام السياسي الجديد، رغم محدودية مشاركتها في المعارك، وتأخر التحاقها بعملية “عاصفة الحزم”، وترددها في البداية.
ويتوقع الإيرانيون أن تحرص أطراف أخري علي إشراك جماعة “أنصار الله” في التسوية السياسية لتحقيق توازن مع جماعة “الإخوان المسلمين”، فضلا عن أن لجماعة “أنصار الله” وجودها المذهبي والسياسي الذي يعد جزءا أصيلا من التركيبة السكانية والاجتماعية في أغلب مناطق الشمال، عبر روابط قبلية، ومصالح متداخلة ومتشابكة. ويعني ذلك عدم إمكان القضاء عليها، وصعوبة بناء نظام سياسي جديد مستقر يقصيها.
السؤال المسكوت عنه:
وإذا كان الحل السياسي علي هذا النحو ضروريا في اليمن بسبب عدم إمكان الحسم العسكري، فالأمر كذلك في سوريا أيضا، بغض النظر عن المدي الزمني الذي سيستغرقه السعي إلي مثل هذا الحل. وقد شهد شهر أغسطس 2015 ما يعده البعض “اختراقا” في مجال السعي إلي صفقة سياسية في سوريا، عبر اتصالات وتحركات غير مسبوقة، منذ اندلاع الأزمة، أهمها لقاء رئيس مكتب الأمن القومي السوري، علي المملوك، وولي ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سليمان.
ورغم أن هذا التطور المثير بدأ بعد أيام علي توقيع اتفاق فيينا، فليست هذه إلا مصادفة تاريخية. فكان تقهقر قوات نظام بشار الأسد، وعدم قدرة إيران علي مواصلة الدعم الذي تقدمه لها، نظرا لضخامة المعركة التي تخوضها في العراق، هما العامل الرئيسي الذي فتح الباب أمام هذا التطور الذي قد يكون لاتفاق فيينا أثر ثانوي فيه.
كما شجع هذا التقهقر القوي الإقليمية التي تدعم أطيافا عدة من المعارضة في سوريا، وفي مقدمتها السعودية، علي التقدم للبحث في إمكانات عقد صفقة سياسية، في ظل تحول ميزان القوي علي الأرض في مصلحتها.
ولما كان متوقعا، بل لعله طبيعي، أن تستمر التفاعلات الأولية بشأن صفقة سياسية في سوريا لفترة غير قصيرة، فقد صار مرجحا أن يتزامن أول تقدم قد يحدث باتجاهها مع وصول القتال في اليمن إلي وضع يفرض البحث عن حل سياسي.
وهنا، يبرز السؤال المسكوت عنه حتي الآن، وهو كيف ستكون حسابات المعادلات السياسية في كل من الصفقتين، في ظل الارتباط المتوقع بينهما؟. فالتطورات المتعلقة بالاتصالات الخاصة بالأزمة السورية تشي بصعوبة عزلها عن تسوية الأزمة اليمنية.
فالأرجح أننا سنكون إزاء صفقتين قد تكونان متزامنتين أو متعاقبتين، تفصل بينهما مسافة زمنية قصيرة. والسؤال هنا هو: من سيعطي ماذا؟، ومن سيتنازل عن ماذا، هنا وهناك؟، وهل يأخذ الارتباط بين الصفقتين صورة تبادلية، بحيث تتبادل إيران والقوي الإقليمية المضادة لمشروعها التنازلات في سوريا واليمن، بحيث تربح إحداهما أكثر في صفقة، وتكسب الأخري أكثر في الثانية؟.
وإذا كان دور السعودية محوريا بين القوي الإقليمية المناوئة للتمدد الإيراني، فهل تفضل أن تحصل علي مكاسب أكبر في اليمن الذي يقع في جوارها المباشر، ويؤثر بدرجة أكبر في أمنها، وأن تقدم بالتالي تنازلات أكثر في سوريا؟، وهل يمكن أن تصل هذه التنازلات إلي قبول وجود صوري لبشار الأسد في المرحلة الانتقالية، وهو الذي لم يعد أكثر من وكيل لمشروع إيران يأتمر بأوامرها، أم أن سقفها هو أن يكون لبعض أركان نظامه (بدونه شخصيا) حضور قوي في الحكومة المؤقتة، أو “هيئة الحكم”، وفق “صيغة جنيف” في هذه المرحلة، وبالتالي فيما بعدها؟.
وإذا كان هذا الاحتمال يبدو منسجما مع إعطاء إيران أولوية لسوريا علي اليمن، وتعاملها مع الأزمة اليمنية، بوصفها ورقة مساومة، فهل يمكن توقع ملامح عامة أولية لكل من الصفقتين علي هذا الأساس؟.
لا يزال الوقت مبكرا، ولكن ليس بالدرجة التي كان عليها من قبل، لمحاولة الإجابة علي سؤال مسكوت عنه حتي الآن. ولكن هذه الإجابة ستتوقف إلي حد كبير علي مدي نجاح إيران في اللعب علي التناقضات العربية الكثيرة والمتنوعة لتعويض تراجع قدرتها علي مواصلة مشروع التوسع الإقليمي الذي قدمت تنازلات في برنامجها النووي من أجله.