حملة إعفاءات لمسؤولين سامين في تونس تحيي الجدل بشأن حياد الإدارة

حملة إعفاءات لمسؤولين سامين في تونس تحيي الجدل بشأن حياد الإدارة

أعفى وزير الداخلية التونسي توفيق شرف الدين مساء الجمعة ثلاثين مسؤولا محليا وأجرى تعديلات على تركيبة ديوانه في خطوة أحيت الجدل بشأن حياد الإدارة التونسية وهو ملف لطالما أثار سجالات واسعة النطاق بين الفاعلين السياسيين في البلاد خاصة زمن الاستحقاقات الانتخابية الكبرى.

إبراهيم بوغانمي

تونس – قرر وزير الداخلية التونسي توفيق شرف الدين الجمعة إدخال تعديلات جزئية على تركيبة ديوانه وإعفاء كاتب عام محافظة الكاف الواقعة بالشمال الغربي للبلاد علاوة عن إعفاء ثلاثين مسؤولا محليا بين معتمد ومعتمد أول من مهامهم.

وتحيي هذه الخطوة جدلا سياسيا واجتماعيا لطالما تفجر في تونس حول حياد الإدارة والمرفق العمومي خاصة وأن هذه الإعفاءات عادة ما تتزامن مع المحطات الانتخابية الكبرى في البلاد.

ويؤكد مراقبون أن حياد الإدارة يعد مبدأ جوهريا في مسار الانتقال الديمقراطي الذي تشهده تونس.

وينص الفصل الـ15 من الدستور التونسي المصادق عليه في يناير من سنة 2014 والذي تم تعليق العمل بأغلب فصوله من قبل رئيس الجمهورية قيس سعيد، على أن “الإدارة العمومية في خدمة المواطن والصالح العام، تُنظّم وفق مبادئ الحياد والمساواة واستمرارية المرفق العام، ووفق قواعد الشفافية والنزاهة والنجاة والمساءلة”.

توفيق الشماري: لمقاومة الفساد لا بد من معايير واضحة للتعيينات في الدولة

كما ينص القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 على جملة من المبادئ المنظمة للحملات الانتخابية من ذلك حياد الإدارة وأماكن العبادة وحياد وسائل الإعلام الوطنية وإلزام السلطة ذات النظر باتخاذ التدابير اللازمة لضمان احترام واجب الحياد، وإلزام رئيس الإدارة بتسجيل مخالفة في حق كل من يخرق واجب حياد إدارته وإحالتها إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات.

ويرى العديد من المتابعين للشأن العام في تونس أن صراعا حقيقيا يتجدد في مناسبات عديدة بين القوى السياسية للسيطرة على مرافق الدولة في ظل غياب للثقة وتبادل الاتهامات بمحاولة السيطرة على أجهزة الدولة عبر السعي للتحكم في مسألة التعيينات الإدارية على أساس الولاءات الحزبية والأيديولوجية.

ويخفي الصراع منذ الثورة عدم ثقة المعارضة في التعيينات التي تقوم بها الحكومات مهما كانت كفاءة المسؤول الذي يتم تعيينه أو نزاهته.

وتعمقت أزمة الثقة إبان حكم الترويكا (2012 – 2013) التي قادت البلاد إثر انتخابات 2011 حيث اتهم الاتحاد التونسي للمرفق العام وحياد الإدارة آنذاك الائتلاف الحاكم وخاصة حركة النهضة الإسلامية بتعمد “زرع أعوانها في مفاصل الدولة والإدارة بشكل أصبحت معه غير محايدة إن لم نقل تابعة لمجلس شورى حركة النهضة”، حسب تصريح إعلامي أدلى به رئيس الاتحاد عبدالقادر اللباوي في سبتمبر 2013.

وأكد اللباوي حينها أن الترويكا عمدت إلى تسمية أنصارها على رأس المصالح العمومية حيث بلغ نصيب حركة النهضة لوحدها من تلك التسميات 86 في المئة.

وتكرر نفس الجدل مع وصول حزب حركة نداء تونس إلى الحكم بعد انتخابات 2014 حيث تعالت الاتهامات للحركة بتعيين أنصارها في المناصب العليا للدولة على غرار المعتمدين والمديرين العامين للمؤسسات العمومية الكبرى.

ومنذ سيطرته على جل الصلاحيات بعد الخامس والعشرين من يوليو 2021 عندما أطاح بالبرلمان والحكومة برئاسة هشام المشيشي يسعى الرئيس سعيد إلى تفكيك التمكين الحزبي في مؤسسات الدولة حيث تم إعفاء العشرات من المسؤولين في وزارات حساسة مثل وزارة الداخلية.

ويقول الرئيس السابق للشبكة الوطنية لمقاومة الرشوة والفساد توفيق الشماري في تصريح خاص لـ”لعرب” إن من شأن التعيينات غير المدروسة لموظفي الدولة السامين أن يطيح بالدولة برمّتها.

وأضاف الشماري أن من شأن تلك التعيينات أيضا أن “تفتح باب الفساد الإداري والمالي والسياسي وتزرع بالتالي الكراهية وتنشر الفتنة بين فئات المجتمع”.

وشهدت تونس بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس الراحل زين العابدين بن علي حالة استقطاب وتجاذبات سياسية حادة بين الإسلاميين والعلمانيين لم تقتصر على الخيارات الكبرى التي تم انتهاجها بل طالت أيضا التعيينات في الإدارة التونسية التي يرى البعض أنها تخضع للمحاصصة السياسية.

ويرى الكثير من المتابعين أن الإخلال بمبدأ حياد الإدارة لا يؤثر سلبا على المشهد السياسي فقط، بل يتعداه إلى النواحي الاقتصادية. وهو ما أكد عليه الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية في مناسبات عديدة على اعتبار أن تحييد الإدارة يعزز ثقة المستثمرين ويرتقي بأجواء العمل، فضلا عن التأثير السلبي الذي يسببه الشعور بعدم الطمأنينة لدى بعض المسؤولين والارتجال في أخذ القرارات بسبب نقص الكفاءة.

ويؤكد رئيس شبكة مقاومة الرشوة والفساد سابقا في هذا الخصوص على ضرورة نشر معايير وشروط علمية ومهنية وأخلاقية للعموم حتى يتمكن من يأنس في نفسه الكفاءة ويستجيب لتلك الشروط من الترشح لتلك الوظائف العليا.

الرئيس التونسي قيس سعي يسعى إلى تفكيك التمكين الحزبي في مؤسسات الدولة منذ سيطرته على جل مفاتيح السلطة في البلاد

غير أن المعارضين لفكرة التعيينات الخاضعة للمحاصصة الحزبية يرون أن الأمر ليس إلا “بدعة” مستشهدين بالتعيينات التي يحدثها الحزب الفائز بالدول الغربية كالولايات المتحدة وفرنسا غداة كل دورة انتخابية، مبررين ذلك بأن الشعب منح ثقته في طرف سياسي ما لفترة محددة وهو بالتالي المسؤول عن النتائج.

ويردّ المتمسكون بفكرة حياد الإدارة التام على هذا الطرح بأن ذلك يمكن أن يحدث في الديمقراطيات العريقة دون حصول أضرار تذكر. لكن الأمر يختلف لدى الديمقراطيات الهشة أو في الدول التي تمر بفترات انتقال ديمقراطي مثل تونس.

ويخيم شبح التعيينات “المشبوهة” على الواقع التونسي من جديد بعد إعفاء وزير الداخلية توفيق شرف الدين لعدد من المسؤولين المحليين ليحتدم الجدل من جديد بين من أبدى ارتياحا مدرجا الأمر في إطار حملة “تطهير” لمؤسسات الدولة من تعيينات حركة النهضة الإسلامية التي اخترقت الإدارة التونسية وتغلغلت في مفاصلها الأمر الذي أثّر حتى على نوعية الخدمات المسداة لعموم التونسيين وجودتها، وبين من أبدى توجسا من تعيينات حساسة قبل أشهر من الانتخابات البرلمانية المبكرة المقررة في السابع عشر من ديسمبر القادم.

ويرى متابعون للشأن التونسي أن معضلة التعيينات الحزبية لم تبرح مكانها منذ أن كان التجمع الدستوري الديمقراطي، الحزب الحاكم زمن الرئيس الراحل بن علي، يمارسها بوضوح ليشمل التعيين في المراكز الهامة والحساسة في الدولة بعد الثورة مناصري حركة النهضة. وبعدها استفاد الموالون لحركة نداء تونس من تلك التعيينات، لتتوجه الشكوك اليوم نحو الرئيس قيس سعيّد.

العرب