ما بعد الموصل: السياسة الأمريكية تجاه تنظيم الدولة”داعش”

ما بعد الموصل: السياسة الأمريكية تجاه تنظيم الدولة”داعش”

obama-baghdadi

مثّل سيطرة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” على مدينة الموصل، ثاني كبرى المدن العراقية، في 9حزيران/يونيو 2014م صدمة كبيرة، خصوصاً أنه منح التنظيم نصراً إعلاميًا سريعًا لسيطرة مدن أخرى والتهديد بالوصول إلى بغداد والبدء في الزحف نحو أربيل، تلك التطورات أكبر من أن يجري تجاهلها. فقد أسهم صعود تنظيم الدولة، وتوسع نفوذه، وسيطرته على مساحات واسعة في سورية والعراق، ومن ثم إعلانه الخلافة الإسلامية في 29حزيران/ يونيو2014م،في تغيير المقاربة الأميركية تجاه أزمات الشرق الأوسط بصورة عامة، والأزمة السورية بصورة خاصة، إذ لم يعد حلّها أولوية لإدارة الرئيس الأميريكي باراك أوباما، وركزت آنذاك على مواجهة تنظيم الدولة، ووقف تمدده في العراق وحرمانه من الملاذات الآمنة” في سورية. انطلاقاً مما ذكر أعلاه ستهتم هذه الورقة بتحليل السياسة الأمريكية تجاه تنظيم الدولة وخصوصا بعد مرور أكثر من عام على سيطرته على مدينة الموصل، وحربها ضده. وعليه تتوزع هذه الورقة على عدة محاور:

أولا- تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش”: سياق الظهور والتأثير

يعود نشأة هذا التنظيم وفق التحليلات السياسية العربية إلى سياسات الإلغاء والتهميش المتبعة من قبل الأنظمة الحاكمة في العراق وسورية، والسيولة العارمة التي تجتاح المنطقة نتيجة الاستعصاءات التي منيت بها المسارات السياسية شكلا عاملاً محفزاً لتأجيج خطاب التطرف الذي أحسن استثمار الظرف المحلي والإقليمي والدولي، ولاسيما التفاهمات الإقليمية والدولية التي لا تراعي مصالح الجهات التي يستهدفها الخطاب السياسي والديني للتنظيم، كالتفاهم الأمريكي والإيراني الآخذ بالنمو آنذاك، وبهذا الصدد لابد من ذكر أن إيران استطاعت أثناء الإحتلال الأميريكي للعراق في 9نيسان/إبريل 2003م تغيير تموقعها الجيوسياسي في المشرق العربي، وامتلاك أدوات التأثير الفاعلة في هذا المسرح الإستراتيجي، بدءاً من غرب أفغانستان ومروراً بالعراق وانتهاء بساحل البحر المتوسط، وأفرز هذا التمكن الإيراني إلى إمعان حلفائها في تبني سياسات التهميش والإقصاء تجاه المكونات والقوى السنية المحلية، واستثمار بقايا تنظيم القاعدة في ممارسة غلو السلطة وشرعنة الاستبداد من بوابة مناهضة الإرهاب. حيث شكّل التمدد الإيراني في المنطقة فرصة مناسبة لظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” الذي اتكأ على مظلومية سنية متنامية في العراق وسورية، يشحذ بها خطابه الديني والإعلامي، واستغل التفضيلات الإستراتيجية لإدارة الرئيس باراك أوباما التي غيرت قواعد التحرك الأمريكي في البيئة العربية التي استغنت عن إستراتيجيات التدخل الصلب والإشراف المباشر، واكتفت بتبني الإدارة من الخلف واتباع سبل التدخل الغير مكلف.

وقد تناولت التحليلات الغربية وخاصة الأمريكية وبشكل أكاديمي أسباب نشأة تنظيم الدولة وجذوره التاريخية، “تشارلز ليستر” حاول في كتابه” الدولة الإسلامية: مقدمة موجزة” الإجابة عن عدد من التساؤلات المتحورة حول الجذور التاريخية للتنظيم في المشرق العربي، وقدراته الدعائية التي مكنته من استقطاب العديد من العناصر الجهادية، ويرى”ليستر” أن تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش”على عكس التنظيمات المتطرفة الأخرى، اتخذ خطوات عديدة لبناء دولته، ونجاحه في تعبئة العديد من المتطرفين الذين يمتلكون المهارات والقدرات الإدارية ليسهموا في بناء نموذج الدولة الإسلامية.

أما “باتريك كوكبيرن” فقد تناول في كتابه الذي حمل عنوان”نشأة الدولة الإسلامية: داعش والثورة السنية الجديدة” أسباب نشأة تنظيم الدولة إذ رأى في الإنتهاكات الإنسانية اليومية التي تعرض لها سُنة سوريا من قبل الرئيس السوري وحلفائه الإقليميين والدوليين منذ اندلاع الانتفاضة السورية في العام 2011م ، والمشكلات البنيوية التي يمر بها العراق منذ الإحتلال الأمريكي في العام 2003م. ويرى “باتريك” أن الحرب السورية، التي يعدها النسخة الشرق أوسطية من حرب الثلاثين عاما”1618م-1648م”الأوروبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وما تبعها من تفكك سريع لمفاصل الدولة بسبب الحرب الدائرة هناك، ويضيف أن تدمير الدولة العراقية وتهميش وإقصاء والقتل على الهوية الطائفية للمكون السُني في العراق،  أفسح المجال للتنظيمات الراديكالية في الظهور والصعود كصعود تنظيم الدولة في سوريا والعراق.

وفي سياق متصل، يضيف “مايكل ويس” وحسن حسن في كتابيهما الذي حمل عنوان”داعش جيش الإرهاب” أن نظام الرئيس السوري بشار الأشد أسهم في إنشاء المجموعات الجهادية، بجانب إطلاقه معظم الجهاديين المحجوزين في المعتقلات. ويؤكد الكاتبان تبني نظام الأسد استراتيجية تساعد في نشر الإرهاب لاستخدامه كذريعة لدعوة نظامه إلى طاولة المفاوضات مع المجتمع الدولي لمحاربة الإرهابيين، ومن ثم توظيف ورقة الإرهاب في تقويض مطالب المعارضة السورية، وبذلك أكدا أن “بشار الأسد ليس جزء من الحل ضد داعش، ولكنه جزء من بدايتها وحتى الآن”.

وتذهب أغلب التحليلات الأميركية التي تتناول أسباب صعود التطرف في منطقة الشرق الأوسط إلى إخفاق سياسة الرئيس الأميركي باراك أوباما في المنطقة، لاسيما فيما يتعلق بسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان. لكن هناك تحليلات أميركية تضيف إلى الإخفاق  الأمريكي الذي أسهم في نشأة تنظيم الدولة تتعلق بإدارة الحكم في العراق قبل الغزو الأمريكي وبعده. إذ رأت في السياسات الاستبدادية  التي تنبناها الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين والسياسات الطائفية التي اتبعها رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، كانت السبب وراء ظهور تنظيم الدولة، وتنامي قوته. مما تقدم نلحظ توافق كبير بين التحليلات العربية والأميركية حول نشأة تنظيم الدولة.

وعليه، يمثل ظهور تنظيم الدولة عن أزمة الدولة المشرقية أو نهايتها، فهي لن تستطيع الاستمرار على نظامها وقوانينها التي عملت بها عقوداً كثيرةً؛ ذلك أن الزمان الذي كانت فيه الدولة تؤسس قاعدة حكمها على هوية أحادية، هوية محددة بعينها من هويات البلاد، قد انتهى. وإن لم تنجح الدولة المشرقية في بناء ترتيبات سياسية تمكّن سائر مكونات البلاد من بلوغ مؤسسة القرار، وفي الوقت نفسه ترسخ فضاءً وطنيًا حقيقيًّا، فإنها ستبقى في أزمة دامية، وعلى حافة الانهيار دائمًا، مهددة بشبح التحوّل إلى الصومال، أو أفغانستان، بكل ما عاشه هذان البلدان من مآسٍ وخرابٍ.

حين سقطت الموصل ذلك السقوط المدوّي، وبدأ تنظيم الدولة استعراض انتصاره، وهو يستولي على أحدى أقدم الحواضر الإسلامية وأهمها، ليقيم دولة الخلافة فيها، ويعتلي الخليفة الغالب منبر أحد أقدم جوامعها، ساد تفسير اعتمدته الإدارة الأميركية إلى حدّ كبير، وهو متمثل بأن تنظيم الدولة”داعش” هو الابن الشرعي لأزمة النظام السياسي الذي أنشىء في العراق بعد عام2003م، وقد كرست فيه السنواتُ الثماني لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي نزعةً احتكارية، استئثاريةً، وجدّدت الإيمان التقليدي بأن تستند قاعدة الحكم إلى هوية أحادية تدور سائرُ هويات البلاد الأخرى في فلكها وشظاياها. وفي هذا السياق وبُعيد سيطرة تنظيم الدولة على مدينة الموصل بأيام قليلة، أشار الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه إلى أسباب تلك السيطرة بالقول:” لم يستطع القادة العراقيون، أن يتغلبوا على خلافاتهم الإثنية، وينحّوها جانبًا” وقد أرجع الرئيس الأميريكي انهيار الجيش العراقي إلى هذه العوامل السياسية؛ إذ قال:” إذا كانت قوات الأمن العراقية غير قادرة على التصدي للمسلحين وقتالهم، فإن هذا يشير إلى مشكلات في الروح المعنوية والالتزام، ترجع جذورها إلى المشكلات السياسية القائمة في البلاد”.

ثانيا- التدخل الأميركي ضد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش”

دشّن سقوط مدينة الموصل وانهيار الجيش العراقي مرحلة سياسية إقليمية ودولية جديدة، حيث دللت سيطرة تنظيم الدولة  على أكثر من 220 ألف كيلو متر مربع في غرب العراق وشرق سورية واقتراب تمدده من أربيل وبغداد، وانهيار الحدود السياسية بين سورية والعراق على خطورة تنامي المهددات الأمنية ومحدودية سياسات الاحتواء. وأهم معطيات تغييرات هذه المرحلة هو استئناف تدخل الولايات المتحدة في بيئة المشرق العربي.

ففي السابع من آب/ أغسطس 2014م أمر الرئيس الأميركي باراك أوباما عبر خطابه بتوجيه ضربات جوية “محدودة” لمقاتلي التنظيم وبإلقاء مساعدات على النازحين من المناطق التي هاجمها تنظيم الدولة، خصوصًا الأقليات الدينية كالأيزيديين الذين عدّهم التنظيم جماعة مشركة يحل له قتل أبنائها وسبي بناتها. وفي أيلول/سبتمبر من ذلك العام أعلن الأميركي إستراتيجيته الشاملة لإضعاف تنظيم الدولة وتدميره إذ قال:” لن أتردد في استخدام القوة تجاه داعش في سورية كما في العراق. هذا هو المبدأ الرئيس الذي تلتزمه إدارتي: أن من يهدد الولايات المتحدة الأميركية لن يجد ملاذًا آمنًا.

ويبرز في هذا السياق المسوغات التي دفعت الرئيس الأميركي إلى إعادة إقحام بلاده في المنطقة لأسباب عدة، يتصل بعضها بسوء تقدير إدارته لعمق الأزمة المجتمعية في المشرق العربي وارتدادها على مصالح الولايات المتحدة الأميركية في حال لم تنل شعوب المشرق العربي مرادها، وتصل لطموحاتها السياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى عدم الإلمام الكافي بغايات تنظيم الدولة، حيث سادت قناعة في واشنطن بأن نطاق عمل التنظيم محلي، يستهدف المجتمعات المحلية من دون أن يهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المشرق العربي.وقد أقر الرئيس الأميركي بعد أن بدأ التنظيم بالاستعداد لاجتياح أربيل” عاصمة إقليم كردستان أوثق حلفاء دولته في المنطقة” أن إدارته قلّلت من خطورة تنظيم الدولة، في حين أنها بالغت في تقدير قوة الجيش العراقي في التصدي له، وتتعلق الأسباب الأخرى التي تقف خلف عودة الولايات المتحدة الأميركية لانتهاج السياسات الصلبة هي أن تمدد التنظيم أخلّ بإدارة الأزمة السورية دوليًّا، وحوّل سورية إلى مشهد تسيل فيه المهددات الأمنية لتصل إلى العالم. كما تعد خطورة تبعات تمكين سلطة تنظيم الدولة وتغلغلها في الطبقات الاجتماعية بالمنطقة، وعدم القدرة على الاستمرار بتوظيفه إقليميًّا ودوليًّا، بالإضافة إلى تهديده تجارة موارد الطاقة في الخليج والمشرق العربي بسبب أساس أجبر الولايات المتحدة الأميركية على مراجعة سياساتها تجاه ملفات الصراع في المشرق العربي والانتقال من تموضعات الزهد إلى دائرة الإقحام والريادة.

استندت الإستراتيجية الأميركية التي أعلن عنها الرئيس الأميركي باراك أوباما في خطابه الذي ألقاه من البيت الأبيض في واشنطن فجر يوم 9تشرين الثاني/نوفمبر 2014م، لمواجهة تنظيم الدولة في العراق وسورية إلى محوريين أساسيين هما: ضربات جوية ممنهجة، ودعم قوات”سنية” تقوم بمهمات القتال البري، وفي سورية يمكن تكثيف النهج الدولي في سبل تحجيم تنظيم الدولة في ثلاثة أطر على الشكل الآتي: شن ضربات جوية ضد تنظيم الدولة في سوريا، وعدم السماح له بأي “ملاذ آمن”، وتبادل المعلومات الاستخباراتية؛سواء المتعلقة بهيكلة التنظيم أو بموارده المالية والبشرية، والعمل على تنسيق الجهود الدولية للحد من هجرة المقاتلين الأجانب. بالإضافة إلى عدم إمكانية الاعتماد على الرئيس السوري بشار الأسد، وادعاء وجود تقوية المعارضة لمجابهة المتطرفين، مع الاستمرار في الحلول الدبلوماسية الضرورية من أجل حل الأزمة السورية.

وقد استندت الاستجابة العسكرية لصعود تنظيم الدولة إلى المحاور التالية:

*إقامة تحالف عسكري دولي وإقليمي لغرض مواجهة التنظيم والذي ضم 60 دولة.

*الاعتماد على التدخل العسكري المحدود الذي يقوم على الضربات الجوية والنشاط الاستخباري والعمليات الخاصة المحدودة، وتجنب التدخل العسكري الأميركي المباشر.

*تسليح القوات البرية الحليفة وتدريبها وإسنادها، مثل الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية والمعارضة”المعتدلة” السورية.

ولعل أعمق إشكاليات هذه الاستجابة هو غياب القوى البرية التي تحصد نتائج التمشيط الجوي، فالولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تبحث عن قوة إقليمية “سنية” ذات فاعلية وجدوى عسكرية تضطلع بهذه المهمة من دون مراعاة مصالح هذه القوة ومطالبها، وتنحصر خياراتها ضمن دور تركي تخاف منه، ودور إيراني أسدي تخشى عواقبه السياسية.

واتساقًا مع ذلك قامت الاستجابة السياسية والعسكرية الأميركية على ما يسميه المسؤولون الأميركيون بسياسة “داعش أولًا، العراق أولًا؛ فالحكومة الأميركية تعتقد أن مجابهة تنظيم الدولة هي الأولوية الأساسية في هذه المرحلة التي يجب ألا تعيقها محاولة توسيع رقعة الصراع ليشمل قضايا أخرى أكثر تعقيدًا مثل الحل السياسي في سورية. كما أنها تولي العراق أولوية لأسباب من بينها وجود اتفاقية أمنية مشتركة بين البلدين ووجود علاقات رسمية مع الحكومة العراقية ومع حكومة إقليم كردستان.

ربطت الولايات المتحدة الأميريكية دعمها للحكومة العراقية في قيامها بحزمة خطوات سياسية وعسكرية التي طلبت منها لاعتمادها من أجل دمج المجتمع العربي السني والمقاتلين السنة في هذه المواجهة والتخفيف من الاحتقان الطائفي الذي استمثره تنظيم الدولة. عسكريًا طلبت الولايات المتحدة الأميركية تشكيل قوة مسلحة سنية أطلق عليها تسمية “الحرس الوطني” تتألف من مقاتلي القبائل والمقاتلين المحليين، وقد تبنت الولايات المتحدة الأميركية في الأشهر الأولى التي تلت سيطرة تنظيم الدولة على الموصل والمدن الأخرى، فكرة تشكيل قوات”الحرس الوطني”؛ ففي بيان صحفي أصدره الرئيس الأميركي في 10 أيلول/سبتمبر 2014م، ذكر أن الولايات المتحدة الأميركية وإلى جانب دعمها القوات العراقية والكردية” سوف تدعم أيضًا جهود العراق لبناء قوات للحرس الوطني من أجل مساعدة المجتمعات السنية على تأمين حريتها من سيطرة تنظيم الدولة”. كما طالبت بإعادة تشكيل القوات الرسمية العراقية وتأهيلها، بما فيها الفرقة السابعة من الجيش العراقي المنتشرة في الأنبار.

سياسيًا حملت الولايات المتحدة الأميركية، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي مسؤولية كبيرة في ما آلت إليه الأمور في العراق، وكان ذلك جزءًا من إستراتيجيتها الخطابية للرد على الاتهامات التي وُجهت للرئيس الأميركي بأنه لم يفعل ما يكفي كي يبقى قوات في العراق. لذلك أصبح التخلص من نوري المالكي أحد الشروط الأميركية لتسوية سياسية مستقبلية، مدعومة بما يسميه الأميركيون بحكومة أكثر تمثيلًا لأطياف المجتمع العراقي.

ثالثا- إستراتيجية باراك أوباما على المحك:سقوط الرمادي

لم يغن الدعم الدبلوماسي والعسكري واللوجستي والاستخباراتي الذي قدمته الإدارة الأميركية لحكومة الرئيس العراقي حيدر عبادي، بالإضافة عن تقديم الدعم لقوات العشائر في الأنبار عن سقوط مدينة الرمادي مركز محافظة الأنبار بيد تنظيم الدولة في آيار/مايو من العام الحالي. إذ أثار سقوطها جدالًا واسعًا داخل الولايات المتحدة الأميركية بشأن ما بات يسمى “إخفاق إستراتيجية أوباما في الحرب على داعش”. وعلى الرغم من أن الشكوى داخل الأوساط السياسية الأميركية من عدم وضوح إستراتيجية مواجهة تنظيم الدولة قديمة، فإن سقوط الرمادي، بمفصليته وخطورته، هو الذي أطلق هذا الجدال، وفي الحقيقة، يبدو أنه لا توجد إستراتيجية أميركية واضحة في حربها ضد تنظيم الدولة. فالرئيس الأميركي الذي وصف الهزيمة في الرمادي بأنها “انسحاب تكتيكي”، وقال:”سننتصر في الحرب”، عاد ليعترف بعدم وجود إستراتيجية للحرب على تنظيم الدولة.

إلى جانب ذلك، كان رد الفعل الأميركي على سيطرة تنظيم الدولة على الرمادي ضعيف المستوى. فلم يكن ثمة شىء أكثر من رفع عدد الغارات الجوية على مواقعه بنسبة قليلة، والإعلان عن تزويد القوات العراقية بقذائف متطورة. ولعل مرد هذا الرد الضعيف إلى الخلاف داخل الإدارة الأميركية في طريقة التعامل مع تنظيم الدولة؛ إذ يوجد خلاف عميق ورؤى متناقضة في تصور هذه الحرب. فموقف الرئيس الأميركي باراك أوباما يبدو أنه لا يزال مع ما يمكن تسميته “تدخل الحد الأدنى”، وأنه يطمح إلى مغادرة  البيت الأبيض بأقل ما يمكن من التدخلات العسكرية، بغض النظر عن النتائج السياسية والإستراتيجية لهذا الموقف، في حين كانت مدة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش حافلة بالتدخلات العسكرية وإسقاط الأنظمة، وكانت للجمهوريين وبعض أوساط الديمقراطيين وحتى المؤسسة العسكرية الأميركية ووزارة الدفاع، تدخلات وضغوطات على الحكومة العراقية، وفي جميع الأحوال، كان هذا الخلاف داخل الإدارة الأميركية، والإخفاق في بناء إستراتيجية موحدة لمواجهة تنظيم الدولة، من عوامل الإخفاق في هذه المواجهة أيضًا، على الرغم من مرور أكثر من سنة على سقوط الموصل وتشكيل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

 وعليه، لم يمنع ذلك الخلاف أن ترتسم الخيارات الأميركية وفق رؤية قائمة على الموازنة بين القوى المختلفة، وتوظيف هذا التوازن لخدمة أولوياتها المتداخلة والمتعارضة في التعامل مع ظاهرة تنظيم الدولة. ويمكن إيجاز هذه الأولويات بالآتي:

*الحد من تجذر حركة التنظيم، والعمل الجاد على تحجيمه وشل أدواته. ومنع أفراده من العودة إلى بلادهم، والاستمرار في نهج تطويقهم في الجغرافية المشرقية لتطالهم نار الحرب وتنهيهم.

*استرجاع السيطرة على العراق، والإمساك بخيوطه بشكل أوثق، لأجل قيمته الذاتية على أنه بلد ذو موقع إستراتيجي نفطي، ولأجل أمل الإمساك بالورقة الكردية بصفتها أداة ضغط على جميع اللاعبين في المنطقة.

*توليف السلوك التركي بما يضمن دائرة المصالح الأميركية.

*تطويع التحالفات الإقليمية المستعدة للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وتوظيفه في سياق التحالف الدولي.

*ضرورة انخراط جميع المكونات المحلية في بلورة الخيارات السياسية الخاصة بالمشرق العربي، وبشكل يراعي الخصوصية المحلية، ويساعد في تهيئة مناخ سياسي يصدر إطارًا تتشارك فيه القوى الوطنية في محاربة تنظيم الدولة.

الخاتمة:

بعد مرور أكثر من عام على حرب الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم الدولة يبدو أنه ثمة إيقاعان مختلفان في فهم هذه الحرب؛ إيقاع الولايات المتحدة الأمريكية”بغض النظر عن الانقسام داخل الولايات المتحدة في رؤية هذه الحرب” وهو إيقاع بطيء يتحدث عن معركة طويلة الأمد تمتد من ثلاثة أعوام إلى خمسة أعوام، وعن وجوب استكمال عناصرها كلها، وهي:

*بناء قوات من المجتمع المحلي في المناطق التي سيطر عليها تنظيم الدولة تتولى مقاتلته، وتتكفل بالسيطرة على الأرض بعد تحريرها والقيام بمهمات الشرطة. وتأهيل هذه القوات وبناء قدراتها من خلال التدريب، والتسليح، والدعم اللوجستي والاستخباري.

*إضعاف تنظيم الدولة، من خلال استهداف مصادر قوته، وقطع مصادرتمويله، ومحاولة منع تدفق المتطوعين إليه، وتقطيع أوصال الرقعة الجغرافية التي يسيطر عليها.

وينبغي أن يوازي ذلك كله مسار للإصلاح السياسي، بمعنى أن تنظيم الدولة هو نتاج أزمة نظام الحكم في العراق، ولن يكون ثمة إمكان لمواجهته من دون تفكيك قاعدة القبول الاجتماعي به، وإعادة دمج المجتمع السني في العملية السياسية.

أما الإيقاع الآخر، فهو الإيقاع العراقي، وهو إيقاع سريع، يريد أن يُنجز المعركة في أشهر محدودة من دون أن تستكمل عناصرها، بحسب الفهم الأميركي. فلم يجر دعم بناء القوات المحلية، ولم يجر دعم مقاتلي العشائر الموجودين، من بقايا تنظيمات الصحوة، وقد أثبت هؤلاء كفاءة عالية في الصمود أمام تنظيم الدولة، في أكثر من جزء من محافظة الأنبار، حتى قبل سقوط الموصل، حين بدأت المعركة في وادي حوران، أواخر عام2013م،وبدأ تنظيم الدولة التمدد في المحافظة منذ ذلك الوقت، ولم تستكمل كذلك خطط التحالف الدولي باستهداف مصادر قوة التنظيم، العسكرية والمالية واللوجستية، والأهم من هذا كله، أن ملف الإصلاح السياسي لم ينجز فيه أي شيء.

لقد كشفت معركة تحرير تكريت ومحافظة صلاح الدين، بوضوح، عن هذين الإيقاعين المختلفين. ولاشك في أن هذا التناقض في إيقاع الحرب على تنظيم الدولة كان أحد أهم العوامل التي أربكت المعركة. فكثير من الأطراف العراقية، بما فيها النافذة منها وصاحبة القرار، لا تتفق مع الرؤية الأميركية المرتكزة على معركة طويلة الأمد.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية