تفجيرات باريس الإرهابية والأسئلة المباحة

تفجيرات باريس الإرهابية والأسئلة المباحة

736

ها هو الإرهاب يضرب باريس من جديد إذ كانت على موعد مع ثاني حدث إرهابي، بعد أحداث “تشارلي إيبدو” التي وقعت في كانون الثاني/يناير من هذا العام، التي تستباح حرمتها التي اهتزت مساء الجمعة 13تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، على وقع انفجارات دامية ذهب ضحيتها أكثر من مئة شخص. مرة أخرى، نصحو على عملية إرهابية في باريس. هناك من فجّر نفسه بين أبرياء، وهناك من أطلق النار على أبرياء يتناولون عشاءهم في مطعم باريسي، وآخرون دخلوا حفلة موسيقية، ليدموا من فيها، وليستبدلوا صوت الموسيقى بصوت الرصاص القاتل. باريس تحت النار، يدميها إرهابيون بقتل أسود لمواطنين، لا ذنب لهم، سوى وجودهم في مكان استهدفه الإرهاب الأسود.

في كل مرة تجري فيها عملية إرهابية تفجيرية ضد مدنيين أبرياء، تأتي الأسئلة الآتية: ما الذي يجعل شخصاً ما يفجر نفسه بين آخرين أبرياء ليقتلهم، أو يطلق النار عليهم، معتقداً أنه يقوم بعمل سام، أو أنه، بهذا الفعل الإجرامي، يدخل الجنة؟ لا تجد جواباً، ويبدو أن الإجابة عليه بحاجة إلى الدخول إلى عقل المجرم نفسه، لنعرف كيف يفكر؟ فأي معالجة تقليدية لهذا السؤال لا تعطي إجابة كافية ووافية عن الدوافع التي تدفع شخصاً ما إلى مثل هكذا فعل. إذا كنت، إلى الآن، غير قادر على فهم الدوافع الفردية لمن يرتكبون هذه الأفعال، فأعتقد أن الإجابة على وظيفة الإرهاب أقل تعقيداً من آلية البحث في الدافع الفردي لكل شخص يقوم بمثل هكذا فعل.

يبدو أن الفكر الإرهابي يقوم على معادلة بسيطة، اكتشفها مُوظفو الإرهاب، وهو ما يعطي وزناً أكبر للإرهاب، تظهره بوصفه قوة مدمرة كبيرة، في مواجهة مدنية ضخمة وهائلة، لكنها عاجزة عن مواجهته. تقوم هذه المعادلة على أن المدنية الحديثة هشة، فأي تهديد بسيط من مجموعة إرهابية صغيرة لها، في مفاصلها الرئيسية، يؤدي إلى تعطيل هذه الآلية الضخمة والهائلة، لكنها الهشة في مواجهة افتقاد الآمان. في الأساس، تقوم المدنية الحديثة على السرعة في التنقل، والسرعة في الاتصالات، والسرعة في تبادل المعلومات، والسرعة في التبادل التجاري.. إلخ من احتياجات الحياة المعاصرة، والتي تبنى عليها حياة ضخمة ومتكاملة، ازدادت ضخامة إلى درجة رهيبة في النصف القرن المنصرمة. القاعدة الأساسية لهذه الحياة، هي الآمان، وتزدهر هذه المدنية مع الأمان، فتهديده يعطلها. يكفي أن يؤخذ تهديد بقنبلة في وسط محطة قطار في مدينة كبيرة على محمل الجد، حتى يؤدي ذلك إلى تعطيل الحركة في هذه المدينة.

ما حدث في فرنسا يدل على أن آليات الإرهاب تتطور بسرعة وبدموية وبشكل نوعي في التوقيت والطريقة. وما يجعل مثل هذه الهجمات أكثر تعقيدا أن الجماعات الإرهابية أصبحت ترتكز على تكتيك المجموعات العنقودية حتى تذوب داخل المجتمعات دون إثارة شك الأجهزة الأمنية. هذه الهجمات ستدق ناقوس الخطر في العديد من العواصم الأوروبية بالخصوص. وهي رسالة ممهورة بالدم تقول إن أدوات الحرب تغيرت وإن القوانين لم تجد نفعا في كبح هذه الآفة.

طريقة الحرب اختلفت وطريقة التعاطي معها يجب أن تكون متغيرة واستباقية، والتنصت وحده لا يكفي في هذه الحالة بل يجب أن يكون مصدر معلومات من داخل تلك الجماعات ذاتها. لأنها جماعات أثبتت أنها تملك لوجيستيكا متقدما ولها مصادرها في عدة أماكن وعلى مستوى مهم. فرغم أن باريس من أكثر المدن تأهبا أمنيا، إلا أن يد الإرهاب استطاعت أن تنفذ ضربتها، ما يعني أن هناك خلايا نائمة، أو ما يسمّى بالانغماسيين، تنشط في لحظة زمنية محددة، بتوجيه وتنظيم واختيار للحظة والأهداف العملية من المركز.

بالتالي نكون أمام عملية إرهابية نوعية وغير مسبوقة، والسياق الذي جاءت فيه يوحي أن هناك هدفا سياسيا وراءها وليس فقط وجدانيا أو تعاطفيا. فتفجير وباريس عنف همجيّ لا تبرره لا ديانة ولا أخلاق، وهو ضد الإنسانية. والهدف المعلن هو توطين الخوف والرعب داخل أنفس الناس. الرسالة الإرهابية الآتية من باريس اعتمدت على الترويع وخلق جوّ من الرعب، وهذا في حد ذاته يمكن اعتباره إنجازا سياسيا لمخططي الهجمات، غايته قتل الأمن والاطمئنان داخل نفس المواطن الأوروبي.

أما السؤال الثاني المطروح هل تدرّب المنفذون في سوريا أو اليمن أو ليبيا؟ وإذا كان كذلك كيف استطاعوا كسر الحصار الأمني المضروب على أمثالهم. لكننا نرجح أن النواة الأساسية لهذه الجماعات موجودة داخل فرنسا أو غيرها من الدول الأوروبية وأعضاؤها هم من عبأوا ودربوا. مباشرة بعد الهجمات خالف الرئيس الفرنسي كل أعراف البرتوكول الرئاسي في مثل هذه الحالات ولم يمكث داخل مكان محصّن بالقصر، بل توجه إلى الأماكن التي تم استهدافها وأعلن من هناك حالة الطوارئ.

المعلوم أن فرنسا تشارك في الحرب الدائرة في الشرق الأوسط وكثّفت من طلعاتها الجوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وتقدمت الدول الغربية والولايات المتحدة في مطالبة الأسد بالرحيل واحتضان المعارضة. فهل يمكن لفرنسا أن تنسحب من هذا المجهود الحربي ضد الإرهاب.

ضربات الإرهاب بالعاصمة باريس بتاريخ 13 نوفمبر 2015، لن توقف ضربات فرنسا أو غيرها من الدول المشاركة بالشرق الأوسط لأنها عمليات جراحية ضد تنظيم الدولة الإسلامية. لكن يمكن أن تكون محفزا على تسريع الحل السياسي والتأثير في دعم العملية السياسية بسوريا.طبيعي أن يكون لهذه الهجمات الإرهابية تداعيات.

 ما حصل في فرنسا حيث لا حروب أهلية، ولا ربيع أوروبي، بل حضارة مستقرة ومتصالحة مع نفسها، وفي حالة تمدد مستمرة. جغرافياً وزمانياً، المسافة بين الشام وأوروبا شاسعة. حتى سياسياً تبدو المسافة مثل المتاهة. لماذا لم تحصن هذه المسافة أوروبا؟ والسؤال الثالث الذي يطرح في هذا السياق لماذا استهدفت العاصمة الفرنسية باريس؟ قبل ذلك: لماذا الرياض، أو نيويورك، أو الدار البيضاء، أو القطيف، أو بغداد، أو سيناء، أو الكويت؟ تكاد ظاهرة الإرهاب تغطي خريطة العالم، ومع ذلك بقي السؤال نفسه. هناك خطأ ما إما في السؤال، أو صيغة السؤال، أو محاولة الإجابة عن السؤال.

دائماً ما ينطلق السؤال من فرضية أنه لا مبرر أخلاقياً للإرهاب. وهذا صحيح. لكن هذا سؤال أخلاقي، وليس سؤالاً علمياً. السؤال أكبر وأخطر من ذلك. لماذا يحصل هذا الانحراف الأخلاقي المدمر؟ هل يدرك الإرهابي ذلك؟ الإرهاب جريمة سياسية. ويتفق علماء الجريمة على أن تفشي هذه الظاهرة في المجتمع عرض مرضي ألمّ بهذا المجتمع. انطلاقاً من ذلك هناك فرضية أخرى، وهي أن الإرهاب، مهما كان الموقف منه هو نتيجة، وليس سبباً. وهي نتيجة قد تتحول مع الوقت إلى سبب لنتيجة أخرى لا تقل خطورة. لا يسعك في هذه الحالة الاكتفاء بهجاء الإرهاب. بمثل هذه المقاربة ستظل أسير حلقة مفرغة لا تنتهي حتى تبدأ من جديد.

هناك حقائق عن الإرهاب متفق عليها. أنه ينطلق من الشرق الأوسط، وأن هذا الشرق يموج بأزمات ومآسٍ نابعة منه أصلاً، لكن لا يمكن الغرب التنصل منها. وهو ما تثبته حقائق أخرى. مأساة فلسطين بدأت على صلة وثيقة بالغرب، وإن كان ليس المسؤول الوحيد عنها. كانت المقاومة الفلسطينية ولا تزال تصم الولايات المتحدة الأميركية بالإرهاب. بعد نهاية سبعينات القرن الماضي كانت البداية الحقيقية للإرهاب في موجته الأولى. انطلقت من أفغانستان بعد الغزو السوفياتي لهذا البلد عام 1979. ثم انطلق في موجته الثانية بعد الإحتلال الأميركي للعراق في 9نيسان/إبريل عام 2003م. في هذا الإطار حصل الربيع العربي في كانون الأدول/ديسمبر عام 2010م، ومواقف الخارج والداخل منه، وتداخلهما بشكل ضاعف من تعقيد صورة الأحداث وتشابكها. هل يمكن فصل هذه الأحداث وصورتها لدى كل طرف عنها؟

يعطي توقيت هذه الهجمات وتنفيذها انطباعا قويا أن الجماعات الإرهابية أضحت معولمة. ولا تعترف بحدود أو جنسيات أو ديانات. ما يستوجب التعامل معها بمقاربات أكثر تطورا وتحديثا. فالإرهاب يجب ضربه في معاقله وتفكيك منظومة تمويله فمثلا تلك المجموعات العابثة بأمن ليبيا وتونس ومصر من السهل تنقلها إلى أوروبا وتنفيذ مخططاتها.

أضف إلى ذلك، التوقيت المشبوه لتفجيرات باريس عشية اجتماع فيينا لبحث الأزمة السورية. لقد طغت هجمات باريس على نقاشات المجتمعين، وصارت الأولوية للحرب على الإرهاب، وهي شعار بشار الأسد منذ بدأ معركته مع معارضيه. ودفعت جرائم باريس حتى وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، الذي كان صوته الأعلى في المطالبة بالتغيير في سورية، إلى الدعوة إلى تعزيز التنسيق الدولي في قتال «داعش»، قبل البحث في أي أمر آخر. أن تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام«داعش» يحلم ان تؤدي جرائم باريس الى إرهاب فرنسا والغرب. لكنه ليس الجهة الوحيدة التي تجدها فرصة مناسبة لقطف ثمار هذه الجرائم.

ما حصل في باريس وما حصل قبلها جريمة إرهابية بامتياز. والأبرياء الذين قضوا في هذه وغيرها من جرائم نكراء هم ضحايا عمل إرهابي يستند إلى فكر ديني متوحش. لكن ماذا عن الفكر السياسي المتوحش لنظام مثل نظام الرئيس السوري بشار الأسد؟ أو الفكر الطائفي للنظام الذي نشأ في العراق تحت الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني؟ لا ينبغي أن تغطي بشاعة «داعش» حقيقة ما يحصل. للفكر أكثر من وجه، وأكثر من لون، وأكثر من أداة واحدة، وأكثر من حضور واحد. أيهما تسبب في ظهور الآخر: «داعش» أم النظام السوري؟ هل هي مصادفة أن «داعش» ظهر في العراق وفي سورية؟ ما حصل بكل بشاعته نتيجة متوقعة لبيئة سياسية تُركت تتعفن. وهذا التعفن نتيجة فشل سياسي من أكثر من طرف. وإذا كان الإرهاب نتيجة قبل أن يكون سبباً، فإن تراكم الفشل الدولي في فلسطين أولاً، ثم أفغانستان والعراق وسورية، من أهم الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة.

وأخيرًا ما حدث في باريس من تفجيرات وإطلاق نار واحتجاز رهائن وقبله تفجيرات بيروت، هو بلا شك عنف أعمى وسلوك أهوج لا تبرير له دينيا ولا أخلاقيا. عنف يوحي بأن الآلة الإرهابية متمكنة من أدوات اشتغالها وتملك ترسانة من المعلومات والأخطر أخطبوطا من المتعاطفين والممولين.

        وحدة الدراسات الأمنية

مركز الروابط للأبحاث والدراسات الاستراتيجية