على الرغم من دلالاتها السلبية فإن “ثقافة الإقصاء والتهميش” -وهي نبذ شخص ما بسبب آرائه (التي يُعتقَد أنها) ضارة- كان لها تأثير كبير فيما يخص التعامل مع قضايا عدم المساواة في الغرب، وخاصة التمييز ضد المرأة، لكن في تركيا يتم إقصاء وتهميش النساء أنفسهن.
ولجأت الممثلة بيرس أكالاي إلى مواقع التواصل الاجتماعي في أواخر شهر يوليو الماضي للتعبير عن أسفها للأزمة الاقتصادية الراهنة في تركيا، معربة عن خيبة أملها بسبب انخفاض قدر العمالة وانخفاض قيمة الليرة، وكتبت قائلة “لقد سئمت، عمالنا وشعبنا أصبحوا بائسين”.
وكانت أكالاي بالطبع محقة؛ فقد انخفض سعر الليرة بشكل مطرد، ووصل مستوى التضخم إلى 79 في المئة، وهو أعلى معدل بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. ولكن لكون أكالاي امرأة تم اعتبار آرائها على الفور بمثابة خروج عن النص.
في بلد مثل تركيا، حيث توجد رقابة لصيقة على وسائل الإعلام بينما تنعدم الشفافية، تعد وسائل التواصل الاجتماعي هي مربط الفرس للنقاش السياسي الساخن، والمنصة الأكثر ديمقراطية للآراء التي يتم إسكاتها
وهدد جيم كوكوك (كاتب مقال في صحيفة تركية) مرتين أكالاي بسبب تلك الانتقادات، حيث جعلها هدفًا مفتوحًا في المرة الأولى بقوله إن “أولئك الذين تحدثوا بهذه الطريقة في العشرين عامًا الماضية إما ذهبوا إلى السجن أو فروا من البلد أو انتهت حياتهم المهنية”. وفي مقال لاحق قارن أكالاي بالرئيس السابق لمنظمة الأعمال توسكون، ريزانور ميرال الذي اتُهم بدعم فتح الله غولن، الداعية المسلم الذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب عام 2016.
وللأسف لم يكن كوكوك الرجل القوي الوحيد الذي يحتقر النساء التركيات الصادقات؛ ففي أعقاب الاحتجاجات المناهضة للحكومة في شهر يونيو من عام 2013 في إسطنبول، وبعد مقتل بيركين إلفان البالغ من العمر 14 عامًا بقنبلة غاز أطلقتها الشرطة، وصف الرئيس رجب طيب أردوغان إلفان بالإرهابي وشجع الآلاف على استهجان والدته.
ومنذ ذلك الحين أصبحت إدانة النساء لوقوفهن ضد الظلم وباءً تشرف عليه الحكومة، وحصد ذلك الوباء العديد من الضحايا.
وأشارت رسالة انتحار تركتها فتاة تبلغ من العمر 18 عامًا من مدينة باتمان في شهر أغسطس 2020 إلى أنها تعرضت للاختطاف والاغتصاب من قبل الرقيب التركي موسى أورهان، في منطقة جنوب شرق تركيا الكردي، وفي النهاية تم اتهام أورهان وأدين بالاغتصاب، لكن القاضي رفض إصدار مذكرة توقيف ضده.
وعلى منصة تويتر أعربت الممثلة إزجي مولا عن غضبها، مثلها مثل الآلاف من المواطنين القلقين، قائلة “عار عليكم لأنكم أطلقتم سراح مغتصب بغيض”. لكن عندما رفع أورهان دعوى قضائية ضدها بتهمة التشهير، متهما إياها بـ”إهانته”، فاز بتلك القضية وتم تغريم مولا بما يقرب من 7000 ليرة (أي 390 دولارًا) على تلك الرسالة التي نشرتها.
وهناك مثال فظيع آخر وقع في شهر أكتوبر من عام 2021؛ فبعد أن اتهمت إيجي روناي (موسيقية كردية تبلغ من العمر 22 عامًا) الممثل الكوميدي محمد علي أربيل علنًا بالتحرش الجنسي، على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، نشرت روناي بعض الرسائل التي أرسلها إليها الممثل محمد أربيل بما في ذلك عرض لممارسة الجنس، ولكن بدلاً من الدفاع عنها قام الجمهور بإيذاء روناي مرة أخرى.
ودافع محمد أربيل عن أفعاله من خلال الادعاء بأن روناي قامت بتسويق جسدها عبر منصة تيك توك وبالتالي لا ينبغي أن تكون محافظة بشأن الأمور الجنسية، ولم يقتصر الأمر على حث أتباعه على هتك عرض روناي باستخدام هاشتاغ بذيء، بل رفع دعوى ضدها أيضًا بتهمة التشهير، ولا تزال تلك الدعوى معلقة.
صيحة فزع
وفي حين أن قتل النساء والمضايقات يمثلان مشاكل طويلة الأمد في تركيا، إلا أنهما أصبحا أسوأ خلال حكم حزب العدالة والتنمية الذي دام عقدين من الزمن، حيث ارتفع مستوى العنف ضد المرأة بنسبة 70 في المئة في السنوات الخمس عشرة الماضية، وقتلت 246 امرأة على يد شركائهن في عام 2022. ووفقًا لتقرير شهر مارس من عام 2022 الذي أصدرته وكالة استطلاعات الرأي التركية ميتروبول، فإن العنف المنزلي هو أكبر مشكلة تواجهها النساء في تركيا.
وتأثرت تركيا بحركة “مي تو” MeToo# (أنا أيضاً) على تويتر بعد الاغتصاب الوحشي للفتاة أوزجيكان أصلان البالغة من العمر 20 عامًا في عام 2015، لكن سرعان ما انحسر ذلك التأثر. وعلى عكس الحركات النسائية في الخارج، يمكن القول إن الهجوم التركي ضد الاعتداء والتحرش الجنسيين تراجع. كما أن قرار أردوغان العام الماضي بالانسحاب من اتفاقية إسطنبول (مرسوم يهدف إلى منع ومكافحة العنف ضد المرأة) يؤكد مجددًا تصريح رئيس اتحاد الجمعيات النسائية في تركيا كانان جلو بأن “الحكومة حليف واضح في قضية كراهية المرأة”.
ويعمل الصحافيون وأقطاب الترفيه والسياسيون على إشعال نار خطاب العنف المليء بالكراهية، بينما يواصل القضاء التركي مكافأة الرجال الذين يعاملون النساء كممتلكات، ويجب ألا يستهدف من له تأثير على الجماهير النساء، لأن القيام بذلك لن يؤدي إلا إلى استمرار الظلم.
في بلد مثل تركيا، حيث توجد رقابة لصيقة على وسائل الإعلام بينما تنعدم الشفافية، تعد وسائل التواصل الاجتماعي هي مربط الفرس للنقاش السياسي الساخن، والمنصة الأكثر ديمقراطية للآراء التي يتم إسكاتها. ورغم وجود قانون جديد لوسائل الإعلام الاجتماعية قيد الإعداد، حيث ستحدد “النية” ما إذا كان الكلام يعتبر قانونيا أم غير قانوني، فإن النساء هن الأكثر تضررا، والحل الوحيد هو قلب الطاولة وإقصاء وتهميش الرجال الذين ما زالوا يعيشون بعقلية الماضي.
العرب