تفيد المؤشرات والتقارير الصادرة عن المؤسسات المالية اللبنانية والدولية بأن لبنان مقبل على أيام أشد قسوة وربما على عام تنفجر فيه الأوضاع وتذهب نحو انهيار كلي، بعد عجز الطبقة السياسية عن إيجاد حلول والاتفاق على تشكيل حكومة تخرج البلاد من مأزقها.
بيروت – ليس نفاد الأدوية من الصيدليات والحليب من المخازن والطحين من المخابز إلا مجرد مؤشرات لما سيأتي في لبنان، عندما يتحول التضخم إلى قنبلة تُفجر كل شيء. فما الذي يحصل؟ ومتى يقع الانفجار؟
ما كان يُبقي الوضع المأساوي قائما، من دون المزيد من الانهيار، أي مع النقص القائم في كل الخدمات، هو أن المصرف المركزي كان ما يزال يوفر “دعما نسبيا” يبلغ نحو 250 مليون دولار شهريا من خلال منصة صيرفة لاستيراد المحروقات والقمح وبعض الأدوية، بالإضافة إلى الإنفاق الحكومي.
هذا الدعم هو جزء أول من مبلغ وصل مجموعه في العامين الماضيين إلى 13 مليار دولار، أو ما يزيد قليلا عن 500 مليون دولار في الشهر. وكان الجزء الثاني من هذا المبلغ مخصصا لدعم الليرة اللبنانية. ولكن ما يحصل الآن هو أن المصرف المركزي قلب الآية، وذلك بأن أصبح يلعب اللعبة بالمقلوب. فبدلا من أن يشتري الليرة ويبيع الدولار لحفظ الاستقرار، صار يشتري الدولار ويبيع الليرة. الأثر التضخمي لهذه السياسة لم يظهر كاملا بعد. وعندما يظهر، فإن فتيل الانفجار يكون قد بدأ بالاشتعال.
مصرف لبنان سوف يضطر إلى استنزاف كل ما تبقى من الاحتياطي لديه، وتصبح عملية استرداد الودائع مستحيلة
ومؤخرا بدأت الحكومة باستخدام “طفّاية” محدودة الأثر، وهي رفع الرسوم الجمركية بعشرة أضعاف، لزيادة عائداتها.
وأعلن وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل في الثالث والعشرين من نوفمبر الماضي أن “وزارة المالية وجهت كتابا إلى مصرف لبنان يتعلق بالبدء باحتساب أسعار العملات الأجنبية على الضرائب والرسوم التي تستوفيها إدارة الجمارك على السلع والبضائع المستوردة، على أساس 15 ألف ليرة للدولار الأميركي الواحد، وذلك بدءا من الأول من ديسمبر”. وقال الخليل إن “هذا التدبير يساعد في الحد من استغلال فروقات الأسعار وكذلك تخفيف التشوهات والخسائر التي تتكبدها الخزينة”.
ولكن هذه “الطفاية” لن يكون بوسعها أن توقف الحريق. الأثر الأول لهذا الإجراء هو أنه يزيد أسعار المواد المستوردة. فما كان يمكن شراؤه بعشرة دولارات صار يجب دفع ضعف هذا المبلغ على الأقل للحصول عليه. وبذلك فإن “العائد” المنتظر سيكون محدودا في ما يخصّ كل ما يمكن الاستغناء عن شرائه (ركود متعمد). كما أن سعر الصرف على أساس 15 ألف ليرة للدولار ليس واقعيا، بالنظر إلى أن سعر السوق يبلغ أكثر من 40 ألف ليرة للدولار.
وفي حين لا تستطيع الحكومة تعويم الليرة لتوازي سعر الصرف الحقيقي، فإن المصرف المركزي هو الذي يفعل ذلك، بل إنه يذهب أبعد من ذلك، لكي يوفر ما تحتاجه الحكومة لتغطية متطلبات الإنفاق الأساسية (أجور، دعم مواد، مستوردات وطوارئ).
وفي الرابع عشر من أغسطس الماضي أعلن حاكم المصرف المركزي رياض سلامة أن احتياطات المصرف، القابلة للاستخدام (أي النقد الخام)، وصلت إلى “الخط الأحمر” فتراجعت إلى ما دون 9 مليارات دولار (بعد أن كانت بحدود 24 مليارا في بداية عام 2020) وأن البديل هو إما إقرار قانون يسمح للبنك المركزي باستخدام الاحتياطي الإلزامي لتمويل الدعم أو تشكيل حكومة تبدأ في الإصلاح.
ولم تُعط الحكومة المصرف إذنا باستخدام الاحتياطي الإلزامي (النقد والذهب والموجودات الخارجية). ولا هي أقرت البدء بأي اصطلاحات، فلم يبق إلا طريق واحد يقود إلى الدمار الشامل.
وبمعدل إنفاق شهري يبلغ 500 مليون دولار، كانت الاحتياطات الباقية سوف تنضب في غضون 18 شهرا، فيعلن المصرف إفلاسه، ولكن حتى هذا الخيار أرحم مما تم الشروع به.
هناك طبعا نحو 15 مليار دولار هي قيمة احتياطي الذهب، كما أن هناك موجودات خارجية تبلغ قيمتها نحو 13 مليار دولار ناقص سندات ديون (يوروبوند) تبلغ 5 مليارات دولار. إلا أن هذه الاحتياطات هي الجدار الأخير الذي يجعل ورق العملة ليس مجرد ورق دفاتر.
15
مليار دولار هي قيمة احتياطي الذهب بالبلاد كما أن هناك موجودات خارجية تبلغ قيمتها نحو 13 مليار دولار
وابتداء من منتصف سبتمبر الماضي بدأت احتياطات المصرف من الدولار تزيد. وكأن معجزة قد حدثت! ولكن ما حصل هو أن المصرف المركزي الذي كان يشتري الليرة ليدعم سعرها، صار يطبع الليرة ليشتري الدولار، فيدفعها دفعا إلى الانهيار.
وبين منتصف سبتمبر ومنتصف أكتوبر الماضيين ارتفع حجم احتياطات العملة الأجنبيّة الموجودة لدى مصرف لبنان بنحو 657 مليون دولار. فارتفعت قيمة احتياطات المصرف من 9.61 مليار دولار إلى 10.27 مليار دولار. ولكن السحر، كان ببساطة يكمن في أن الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية التي كانت تبلغ 45.1 تريليون ليرة في منتصف سبتمبر، ارتفعت إلى 69.8 تريليون ليرة في منتصف أكتوبر، ثم وصلت إلى 75.05 تريليون ليرة في مطلع نوفمبر.
هذه هي مادة القنبلة. وهي تعني أن الدولار الذي كانت قيمته في السوق تبلغ 40 ألف ليرة، سوف تنفجر لتبلغ ما لا يقل عن 80 ألف ليرة. و”الطفاية” التي كانت تحسب الدولار بـ15 ألف ليرة لن تكفي لإطفاء شمعتين.
ما حصل هو أن المصرف المركزي اشترى، عن هذا الطريق، نحو شهرين إضافيين من الإنفاق فقط. ولكنه دفع كل اللبنانيين إلى الحائط ليروا كيف سوف ينهار على رؤوسهم عندما يرون أن أجورهم لم تعد تكفي لشراء الخبز وحده، وعندما لا يعود بوسعهم أن يحصلوا على أي سلعة أخرى.
“التضخم هو ضريبة على الفقراء”، هذا ما يقوله الاقتصاديون. وهذا هو التعريف الوحيد الصحيح له. وهو يحدث بطريقين رئيسيين: إما أن تذهب الحكومة لتقترض، فتُنافس المقترضين الآخرين مما يرفع نسب الفائدة فتنخفض قيمة العملة وترتفع الأسعار، وإما أن تطبع المزيد من الأوراق النقدية، فتنخفض قيمة العملة أيضا وترتفع الأسعار. والحكومة اللبنانية ظلت لسنوات طويلة تفعل الأمرين معا.
ولكن ماذا يعني شراء شهرين من الوقت لتغطية الإنفاق؟
نظريا يمكن الافتراض بأن هناك شيئا ما سوف يحدث خلال هذين الشهرين لكي يضع حدا للانهيار، وهو الذي يدفع الحكومة إلى الترخيص للمصرف المركزي بشراء الوقت. (المصرف لا يطبع النقد ولا يستدين بقرار من حاكمه، وإنما بقرار من وزير المال، وبالتالي الحكومة. وهو قرار يُتخذ في الغرف المغلقة). ولكن لا توجد دلائل تشير إلى أن شيئا يوحي بأن الإصلاح يمكن أن يبدأ بالفعل. لا عقدة الفراغ الرئاسي تقترب من الحل، ولا الإصلاحات التي يطالب بها صندوق النقد الدولي سوف تتحقق.
الصندوق لن يوفر، على أي حال، أكثر من 3 مليارات دولار، تكفي بالكاد لمدة ستة أشهر. وهي لن تُقدَّم من دون إصلاحات لكي تقوم على أساسها خطط الإنقاذ بموجب اتفاقات مؤتمر “سيدر” البالغة 12 مليار دولار. والإصلاحات، وليس انتخاب رئيس فقط، هي العقدة الأعقد.
وقد أصدر البنك الدولي مؤخرا تقريرا يقول إن هناك “مخططا بونزيا” في لبنان “يتسبب بمعاناة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة للشعب اللبناني”، وقال “إن مراجعة المالية العامة تُظهر أن الكساد المتعمّد كان أيضا مقصودا، وجرى الإعداد له على مدى الثلاثين عاما الماضية”.
و”المخطط البونزي” هو عمل من أعمال الاحتيال يقصد اجتذاب مشتركين جدد، على أساس هرمي يجني ثماره الذين هم في أعلى الهرم، وذلك بأن يحصلوا على عائد من مشتركين اثنين، والاثنان يحصلان على “أرباح” من اشتراكات أربعة، والأربعة على “أرباح” من اشتراكات ثمانية، وهكذا، فيبدو الأمر وكأنه استثمار ناجح، بينما لا يوجد استثمار فعلي، أي بينما يذهب المال إلى فوق مقابل “أرباح” وهمية. وعندما تنكشف اللعبة يخسر الجميع أموالهم.
وقد تم تقدير إجمالي الخسائر في هذه اللعبة بنحو 90 مليار دولار، هي إجمالي “خسائر البنوك” الذي استهلكته الحكومة والشلل السياسية المحيطة بها على مدار السنوات، في مشاريع وهمية، مثل الكهرباء، وفي أعمال فساد، وتعيينات في القطاع العام من دون عمل حقيقي.
استمرار الطبقة السياسية في عرقلة الإصلاحات سيؤدي إلى استمرار تصنيف لبنان كدولة فاشلة مثل فنزويلا والصومال وسريلانكا
وعلى هذا الأساس، وصف البنك الدولي تطمينات المسؤولين السياسيين اللبنانيين، بشأن سلامة الودائع في البنوك، بأنها “تتعارض بشكل صارخ مع الواقع”، قائلا إن “قسما كبيرا من مدخرات الناس أُسيء استخدامه وأُسيء إنفاقه على مدى الثلاثين عاما الماضية”.
وقال معهد التمويل الدولي إن استمرار الطبقة السياسية في عرقلة الإصلاحات سيؤدي إلى استمرار تصنيف لبنان كدولة فاشلة مثل فنزويلا والصومال وسريلانكا.
ووفق هذا السيناريو، سوف يكون مصرف لبنان مضطرا إلى استنزاف كل ما تبقّى من الاحتياطي لديه، “وتصبح عملية استرداد الودائع مستحيلة، فيما تكمل الليرة انهيارها ويرتفع سعر صرف الدولار بالسوق إلى أكثر من 40 ألف ليرة في نهاية العام 2022 (وهو ما حصل بالفعل) وأكثر من 110 آلاف ليرة في نهاية العام 2026 وتزداد نسب الفقر والبطالة”.
وحتى معهد التمويل الدولي لم يكن ليتخيل أن تبلغ الجرأة بالغرف المغلقة أن تأخذ الطريق السريع للانهيار الشامل. فهذا خارج تماما عن المعقول. ولكن ما لا يمكن أن يحصل في أي مكان في العالم، يحصل بسهولة في لبنان.
وسوف يعني الانفجار إفلاس الغالبية العظمى من الناس الذين يعجزون عن شراء احتياجاتهم الأساسية، بينما تُنفق الحكومة ما بقي من موجودات “قابلة للاستخدام” قبل أن تتحول الليرة إلى ورق دفاتر.
وعندما يحدث الانفجار، فلن يعرف اللبنانيون ضد مَنْ وعلى ماذا ينفجرون. وتبدو مقرات البنوك هدفا سهلا، ولكن حتى اقتحامها لن يثمر عن العثور على أكثر من الورق الذي كان معدا للطباعة. أما أعضاء الحكومة، فسيذهب كل مسؤول إلى منزله، مستعينا بحمايته الخاصة، إلى حين أن تتم دعوته من طرف دولي أو إقليمي لعقد مؤتمر للإنقاذ، فيذهب، ليبدأ مسارا مماثلا للمسار الذي بدأ في العام 1989 عندما تمت دعوتهم إلى الطائف، فوقعوا اتفاقا، وأقاموا نظاما ظل يسرق اللبنانيين على امتداد 30 عاما.
العرب