تحتفل روسيا في 9 مايو من كل عام بعيد النصر في الحرب العالمية الثانية، ويُعد هذا اليوم مناسبة وطنية لا مثيل لها، وفرصة كبيرة لتعزيز خطاب السلطة، لكن إلغاء الاحتفالات هذه السنة في عدد من المدن يدفع المراقبين للتكهن ما إذا كانت الأعمدة الأيديولوجية للإمبراطورية الروسية الجديدة بقيادة فلاديمير بوتين قد بدأت في التصدع.
لندن – رفضت السلطات في بعض المناطق الروسية المتاخمة لأوكرانيا (بيلغورود وبريانسك وكورسك)، منذ مطلع أبريل 2023، إقامة العرض العسكري للاحتفال بيوم النصر في 9 مايو. وقال حاكم إقليم بيلغورود فياتشيسلاف جلادكوف إنه لا يريد “استفزاز العدو بعدد كبير من المعدات والأفراد العسكريين في وسط المدينة”.
ويبدو الوضع في روسيا نموذجيا بالنسبة إلى الجيش الذي يواجه شبح الهزيمة، حيث لم يعد تركيز القوات الروسية في أيّ منطقة يعزز الإحساس بالأمن للسكان المحليين، بل يبثّ الخوف من أن تصبح مناطقهم هدفا سهلا للهجوم الأوكراني المضاد. وبحسب مقال للكاتبة فاديم شتيبا في مؤسسة جايمس تاون تبدو اليوم “العملية العسكرية الخاصة”، التي خطط الكرملين للسيطرة من خلالها على كييف في أقل من أسبوعين، مختلفة بعد أكثر من عام من القتال العنيف. وأصبح على المناطق الروسية الآن تعزيز إستراتيجياتها الدفاعية.
◙ يوم النصر في فترة ما بعد الحرب كان من الأعياد الرئيسية في الاتحاد السوفييتي ثم تغيرت أهميته في ظل العديد من قادة الكرملين
وتقرر إلغاء مسيرات 9 مايو في مدن أخرى بخلاف تلك المجاورة لأوكرانيا، وكانت تيومين في غرب سيبيريا وبسكوفمن أبرز المدن البعيدة تماما عن الخطوط الأمامية التي تبنت الحظر. ويختلف الأمر عن العام الماضي، حين لم يكن للقوات الأوكرانية العديد من الطائرات المسيرة، حيث تخشى المدن الروسية الآن سيناريو الهجوم العابر للحدود. وجرى العرض العسكري الرئيسي في الميدان الأحمر في موسكو. وشكلت السلطات مجموعات من “مقاتلي الشعب” الذين كانوا في الخدمة ليلا ليتعقبوا “الأجسام الطائرة مجهولة المصدر”.
كما تقرر هذا العام إلغاء المسيرة المدنية السنوية “الفوج الخالد”، التي يحمل المشاركون فيها من جميع المدن صور أقاربهم الذين ماتوا خلال الحرب العالمية الثانية. وتعدّ هذه المسيرة، التي انطلقت في عهد فلاديمير بوتين، أداة مهمة في مجموعة الكرملين الدعائية العسكرية. ويرتبط إلغاؤها المفاجئ باعتبارات أمنية مختلفة، حيث تخشى السلطات الروسية أن يحمل الأشخاص صورا لأقاربهم الذين ماتوا في الحرب ضد أوكرانيا. ومن المرجّح أن يكون عدد هذه الصور أكبر مقارنة بالأرقام التي نشرتها وزارة الدفاع.
لكن الإلغاء الجماعي القسري لبعض أحداث يوم النصر تجعل نظام بوتين يبدو وكأنه يطلق النار على نفسه، حيث تستند جلّ الدعاية الروسية للإمبريالية الجديدة على هذا اليوم المجيد. ويعتبر بوتين يوم 9 مايو “العطلة الروسية الرئيسية”، رغم اندراجها ضمن التاريخ السوفييتي. ويُريد الرئيس الروسي القول بهذا إنه يعتبر الحقبة السوفييتية أكثر أهمية في ذهنه من الفترة التي تبعتها. وكان يوم النصر في فترة ما بعد الحرب من الأعياد الرئيسية في الاتحاد السوفييتي. ثم تغيرت أهميته في ظل العديد من قادة الكرملين.
ولم تبد موسكو أيّ أهمية تُذكر لهذا اليوم حين كانت الأيديولوجية الرسمية موجهة نحو المستقبل، كما كان الحال في عهد نيكيتا خروتشوف. ولكن ليونيد بريجنيف بثّ فيها روحا جديدة في 1965. وانطلق في بناء المعالم العملاقة للوطن الأم في جميع أنحاء البلاد بعد 20 عاما من الحرب. ونبع هذا التغيير في الأيديولوجيا من المستقبل إلى الماضي من إدراك أن وعد خروتشوف ببناء “مجتمع الرفاه الشيوعي” في الاتحاد السوفييتي كان غير واقعي، وجعل “النصر العظيم” عمودا تاريخيا رئيسيا.
ثم هيمنت الرغبة الاجتماعية في مستقبل جديد وحر مرة أخرى خلال عصر البيريسترويكا تحت قيادة ميخائيل غورباتشوف. وقرر الرئيس الأول لروسيا “الحرة” بوريس يلتسين جعل العروض العسكرية في 9 مايو حدثا سنويا في 1995، وهو ما لم يكن قائما حتى خلال الحقبة السوفييتية. وكان خطاب “النصر العظيم” العسكري ينمو كل عام مع وصول بوتين إلى السلطة.
ويُجبر اليوم كل تلميذ في روسيا، بما في ذلك رياض الأطفال، على السير بالزي العسكري للحرب العالمية الثانية. وتهدف موسكو بسردية “النصر العظيم” إلى توحيد كل المناطق الروسية أيديولوجيا وخدمة طموحات الكرملين الإمبريالية والسعي إلى استعادة المكانة العالمية التي تمتعت بها الحقبة السوفييتية. وتستند أيديولوجية الكرملين الحالية إلى تقديس مطلق للماضي، حيث لا ترى “الإمبراطورية” الحالية مستقبلا لنفسها.
ومن المهم ملاحظة إطلاق توزيع شريط القديس جورج المُعتمد في احتفالات يوم النصر في 2005، لموازنة الشريط البرتقالي الذي كان يرمز إلى الثورة البرتقالية الأوكرانية قبل ذلك بسنة. وإذا كان الشريط البرتقالي يرمز إلى الأمل في مستقبل حر، يدل شريط القديس جورج على الرغبة في الحفاظ على الماضي الإمبراطوري الروسي ومحاربة “الثورات الملونة”. وأصبح شريط القديس جورج في 2014، نتيجة لذلك، هو الشعار الرسمي الفعلي للمقاتلين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا، وتقرر بعد ذلك حظره كرمز إرهابي في عدد من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفييتي.
الإلغاء الجماعي لبعض أحداث يوم النصر تجعل نظام بوتين يبدو وكأنه يطلق النار على نفسه، حيث تستند جلّ الدعاية الروسية للإمبريالية الجديدة على هذا اليوم المجيد
وتتلخص الرواية الروسية الحالية أساسا في هوس بكون الحرب ضد أوكرانيا اليوم امتدادا للحرب العالمية الثانية، مع لعب “الفاشيين الأوكرانيين” لدور الأعداء. ويتجاهل هذا التاريخ الحقيقي. ويدّعي بوتين، على سبيل المثال، أن روسيا كانت ستنتصر في الحرب العالمية الثانية دون أوكرانيا. ولكن مراقبين يقولون إنه من المستحيل تخيل مثل هذه الصورة.
وعملت الروايات السائدة على تقليص دور الحلفاء الغربيين أو تشويههم قدر الإمكان، لدرجة ربطهم بـ”الفاشيين”. ويُحظر في روسيا اليوم دراسة الفترة المبكرة من الحرب العالمية الثانية (1939 – 1941) بطريقة غير منحازة، أي حين كان ميثاق مولوتوف – ريبنتروب (الاتفاق الألماني – السوفييتي) ساري المفعول، واحتل بموجبه الاتحاد السوفييتي شرق بولندا ودول البلطيق وغزا فنلندا. ويواجه أولئك الذين “يحددون” أوجه التشابه في سياسات الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية خلال تلك الفترة غرامة كبيرة أو حتى الاعتقال.
وتشكّل الحقيقة التاريخية الكاملة عن الحرب العالمية الثانية خطرا على الكرملين. ونجح استبداله الاسم ذاته في العهد السوفييتي بـ”الحرب الوطنية العظمى” التي انطلقت في 1941، ولا تزال العديد من المحفوظات العسكرية من تلك الفترة سرية. لكن الهجوم المضاد الوشيك للجيش الأوكراني قد يقضي أخيرا على أسطورة “النصر العظيم”، وستنهار بذلك إمبراطورية الكرملين مرة أخرى بفقدان أعمدتها الإمبراطورية الأيديولوجية.
العرب