منذ زمن، والعالم يتغير وبمعدل سرعة غير مسبوق، غير أن هذا التغيير لم يؤد إلى زيادة حدة الاختراق الإعلامي والثقافي والأمني للدول فحسب، وإنما أدى أيضا إلى نمو ظاهرة الاعتمادية الدولية جراء بروز قضايا ومشاكل جديدة أضحى التعامل معها أمرا عسيرا، هذا فضلا عن اتجاه العالم إلى الاقتران بهيكلية دولية جديدة. وتبعا لذلك أضحى الإدراك الموضوعي للواقع الدولي بهياكله المؤثرة وقيمه وآلياته وسياساته فضلا عن فرصه وكوابحه مسألة في غاية الأهمية.
فمنذ انتهاء الحرب الباردة بداية عقد التسعينات من القرن الماضي، اقترن النظام الدولي بمرحلة انتقالية تتميز بخصائص تجعلها متعددة الاحتمالات ومفتوحة النهايات. ومن بين هذه الخصائص بداية تسلق قوى كبرى في قدراتها إلى قمة الهرم الدولي. وغني عن القول إن الرؤية الموضوعية لا تستطيع إسقاط دور هذه الدول في التفاعلات الدولية واحتمالاتها المستقبلية، على غرار مشاركتها في بلورة الخصائص الأساسية للسياسة الدولية، إلى جانب أثر سياساتها في حاضر ومستقبل دول عالم الجنوب. فأزمات هذا العالم وحروبه فضلا عن تخلفه وتبعيته وعدم استقراره لم تكن بمعزل عن سياسات القوى الكبرى و/أو العظمى حياله.
وعليه، نتساءل من هي هذه القوى الكبرى؟ وما طبيعة علاقتها بالولايات المتحدة الأميركية؟ وما دور القوى الكبرى في السياسة الدولية؟
في مفهوم القوى الكبرى
تجدر الإشارة في البداية إلى أن العالم اليوم يشهد تناقضا عمليا بين مبدأ المساواة القانونية للدول وعدم تكافؤها الموضوعي. فقانونيا يعبر هذا المبدأ ــ الذي يشكل أحد المبادئ الأساسية التي ينهض عليها القانون الدولي ــ عن ذاته في التكافؤ القانوني بين هذه الدول في المنظمات والمؤتمرات الحكومية وسواها.
بيد أن هذه المساواة القانونية تلغيها عمليا حقيقة تباين الدول في إمكاناتها الموضوعية والذاتية، وبالتالي نوعية قدراتها على الفعل السياسي الخارجي. وبسبب ذلك تتوزع الدول على مستويات متعددة. ويعتبر المستوى الذي يقترن بالتوزيع المتفاوت وشبه المطلق في المصادر والتأثير من بين أبرزها. وبموجبه تستحوذ أقلية من الدول ومنها القوى الكبرى على معظم مصادر التأثير العالمي. أما بقية الدول كافة فتتمتع بما تبقى. لذا، وكما هو الحال مع عموم المجتمعات الداخلية استمر النظام السياسي الدولي في التميز هو الآخر بخاصية الطبقية أو الهرمية.
لا يصح القول إن التأثير الأميركي على الدول الآسيوية يمكن أن يدفع بها إلى الانسياق المطلق وراء السياسة الأميركية
وتتباين الأراء حول طبيعة القدرات التي تجعل من هذه الدولة أو تلك قوة كبرى. فبينما يؤكد رأي على أسبقية القدرتين الاقتصادية والعسكرية، يذهب رأي آخر إلى إيلاء القدرتين الاقتصادية والتكنولوجية أولوية على سواهما. ومع ذلك نرى أن القدرة العسكرية التي لا تدعمها قدرة تكنولوجية ـ صناعية ـ اقتصادية رفيعة تبقى مرشحة للتآكل، وأن القدرة التكنولوجية ـ الصناعية ـ الاقتصادية، التي لا تدعمها قدرة عسكرية مؤثرة تبقى ناقصة على الأقل. ومن هنا يعد توفر هذه القدرات الأساسية مجتمعة في إحدى الدول، إلى جانب استعدادها لتوظيف هذه القدرات لدعم فاعلية سياستها الخارجية هو المحدد الذي ترتقي بمقتضاه إلى مستوى القوة الكبرى أو القوة الأكبر بين القوى الكبرى، بمعنى الدولة العظمى.
وعليه تتوزع القوى الكبرى حاليا على مستويين، المستوى الأول، فهو الذي يعبر عن تلك القوى التي تقوم على قدرة عسكرية تقليدية وغير تقليدية مهمة ولكن دون أن ترتقي إلى مستوى مثيلتها الأميركية، هذا فضلا عن تمتعها بواقع تكنولوجي ـ صناعي ـ اقتصادي متطور. وتندرج تحت هذا المستوى كل من الصين وروسيا الاتحادية والمملكة المتحدة وفرنسا. وقد جرت العادة على إطلاق تسمية القوى الكبرى التقليدية على هذه الدول.
وأما المستوى الثاني، فهو الذي يعبر عن تلك القوى التي تتميز بقدرات تكنولوجية ـ صناعية ـ اقتصادية متميزة ولكن دون أن يصاحبها، حاليا على الأقل، قدرة عسكرية تتماهى والقدرات العسكرية للقوى الكبرى التقليدية. وتندرج تحت هذا المستوى خصوصا كل من ألمانيا واليابان، وعادة تسمى هذه الدول بالقوى الكبرى الجديدة أو البازغة.
ظهرت جملة من المتغيرات الهامة لعل أبرزها تحرر القوى الأوروبية الكبرى من الشعور بالتهديد الأمني
القوى الكبرى والولايات المتحدة
خلال فترة الحرب الباردة (1947 – 1991) تمتعت الولايات المتحدة الأميركية بتأثير فاعل في عملية صنع السياسات الخارجية للقوى الكبرى التقليدية. فالصراع الأميركي ـ السوفييتي آنذاك دفع الولايات المتحدة إلى ضبط حركة حلفائها دعما لاستراتيجيتها الكونية. وبعد الانهيار السوفييتي، وانتهاء هذه الحرب عام 1991، لم يعد هذا التأثير كما كان في تلك الفترة.
وظهرت جملة من المتغيرات الهامة لعل أبرزها تحرر القوى الأوروبية الكبرى من الشعور بالتهديد الأمني، الأمر الذي أدى إلى انتفاء الحاجة إلى الانسياق وراء السياسة الأميركية وبالصيغة التي كانت سابقا. إضافة إلى متغير آخر له علاقة بتأثير التنافس الاقتصادي والتجاري في عالم الجنوب خصوصا بين دول أوروبية والولايات المتحدة الأميركية، هذا فضلا عن محاولة الاتحاد الأوروبي تبني سياسة خارجية تؤمن للدول الأعضاء تحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية المشتركة بجهد أوروبي متعدد الأطراف.
ورغم أن العلاقات الأوروبية – الأميركية لا تخلو من الاختلاف والتنافس، الأمر الذي لا يجعلها متطابقة المصالح في كل الأوقات، إلا أن شبكة التفاعل الوطيدة والمتشبعة التي تربط بين أطراف هذه العلاقة لا تسمح للاختلاف والتنافس القائم بينها بالتحول إلى صراع علني وحاد. وساعد على ذلك أن بعض القوى الكبرى الأوروبية، ولا سيما تلك التي تستمد تأثيرها الدولي من الارتباط الوثيق بالولايات المتحدة الأميركية، تعمد إلى توظيف مخرجات هذا الارتباط سياسيا في اتجاه إما استعادة دور دولي سابق كالمملكة المتحدة، أو تسهيل رد اعتبار مفقود على غرار ألمانيا.
وأما عن القوى الآسيوية الكبرى، فمن المعروف أن أهميتها بالنسبة للأمن القومي الأميركي تنبع من عدة متغيرات يرتبط بعضها بطبيعة العلاقات الاقتصادية – التجارية الوطيدة التي تجمعها بالولايات المتحدة الأميركية. وتبعا لذلك عمدت الإدارات الأميركية إلى تبني سياسة عامة حيال الحلفاء والأصدقاء الآسيويين كاليابان وكوريا الجنوبية قوامها أن تكون الدولة الأميركية هي الدولة الحامية لأمن هؤلاء الحلفاء والأصدقاء وضمان استقرارهم، والراعية لنموهم الاقتصادي.
وقد كان من الطبيعي أن تجعل مثل هذه السياسة القوى الآسيوية الكبرى أقل قدرة على رد التأثير الأميركي على سياساتها والمصحوب بالترهيب أو الترغيب أو بالاثنين معا. ومع ذلك لا يصح القول إن التأثير الأميركي يمكن أن يدفع بهذه القوى إلى الانسياق المطلق وراء السياسة الأميركية.
العلاقات الأوروبية – الأميركية لا تخلو من الاختلاف والتنافس، الأمر الذي لا يجعلها متطابقة المصالح في كل الأوقات
فرغم أن الصين -على سبيل المثل لا الحصر- تعمد إلى العمل بسياسة الانفتاح الواسع على العالم، وبالتالي تغليب التعاون على الصراع كسبيل لتأمين تحقيق الغاية النهائية للمشروع الصيني القومي في أن تكون القوة التي تتربع على قمة الهرم الدولي في عام 2050، إلا أن هذا الحرص لم يلغ استقلالية سياستها الخارجية، والشيء ذاته ينسحب على اليابان. فنزوعها إلى الربط بين ضمان مصالح أمنها الاقتصادي والسعي إلى تحويل قدراتها الاقتصادية إلى قدرة سياسية دولية فاعلة، جعلها لا تتردد عن قول “لا” للولايات المتحدة، وبالتالي البدء بأداء دور سياسي خارجي تعيد مخرجاته لليابان المكانة الدولية التي كانت قد تمتعت بها خلال الفترة بين 1895-1945.
دور القوى الكبرى في السياسة الدولية
ليس جديدا القول إن السياسة الخارجية لكل دولة بما في ذلك القوى الكبرى تعد محصلة لعملية تفاعل بين مجمل المتغيرات الداخلية والخارجية المؤثرة فيها. وتبعا لذلك أدت مجموعة متغيرات كنمو القدرات الذاتية وبداية انتشار المصالح وتقلص الشعور بالتهديد الأمني إلى أن تكون جل القوى الكبرى التقليدية والجديدة أكثر حرصا على مصالحها القومية العليا، وبالتالي أكثر استعدادا لتبني أنماط من السلوك السياسي الخارجي لتأمينها.
رغم معاناة الجسد القومي الأميركي من اختلالات هيكلية متعددة، إلا أن الولايات المتحدة لا زالت تمتلك قدرات اقتصادية وسلطة قرار على الساحة الدولية
فرغم معاناة الجسد القومي الأميركي من اختلالات هيكلية متعددة، الأمر الذي انعكس سلبا على نوعية القدرة الأميركية على إضفاء خاصية الفاعلية على أنماط حركتها السياسية الخارجية، إلا أن هذه المعاناة التي يعترف بها بعض المفكرين وصناع القرار الأميركيين لا تلغي أن الولايات المتحدة الأميركية لا زالت تتوافر على قدرات اقتصادية وعسكرية ومعرفية لا تتوافر لدى سواها، وهو ما يجعلها قادرة على الاستمرار في التحكم في إيقاع التأثير السياسي الدولي، وتوظيفه خدمة لمصالحها.
وفي الأثناء تعجز بعض القوى الكبرى كالصين واليابان على نشر قيمها أو أنموذج حياتها، وهو ما جعل منها قوى ينقصها النموذج القابل للمحاكاة الدولية، أو ما يعبر عنه بالمستلزمات الأساسية للتأثير الدولي. هذا وينضاف إلى ذلك بعض الصعوبات الأخرى التي قد تكون السبب في عدم نشر النموذج الصيني والياباني عالميا، ومنها صعوبات اللغة، وإن كانت لا تعد ركنا أساسيا قياسا للجانب الاقتصادي والتكنولوجي اللذين يتوفران وبصورة ملائمة جدا في كلا البلدين أو القوتين.
وفي المقابل هناك بعض القوى الكبرى التي بقيت غير قادرة على توظيف إشعاعها الثقافي كفرنسا، و/أو درايتها التكنولوجية كالمملكة المتحدة، وهذا العجز أدى إلى تخفيض وتقليص قدرات هذه القوى على الفعل الهادف والمؤثر أكثر على الصعيد الدولي.
د.مازن الرمضاني
صحيفة العرب اللندنية