تأزمت الأوضاع في سوريا والعراق مع تصاعد وتيرة العنف على نحو غير مسبوق في البلدين، بشكل بات معه التوصل إلى تسوية لهذه الأزمات أمراً في غاية الصعوبة، خاصةً في ظل تعدد أطراف الصراع، واتساع دائرة العنف بينهم, بالإضافة إلى تدهور الوضع الإنساني في كلا البلدين.
في هذا الإطار, نشرت مؤسسة راند الأمريكية دراسة أعدها “براين جنكينز” Brian M. Jenkins – كبير مستشاري رئيس مؤسسة راند – تحت عنوان: “كيف تحدد الصراعات الحالية مستقبل سوريا والعراق؟”, وقد تناول فيها أنماط القتال في البلدين منذ عام 2013, ثم استخلص تسعة استنتاجات من هذه الصراعات, وانتهى إلى ضرورة وجود استراتيجية أمريكية إقليمية في محاولة لحل الصراعات في سوريا والعراق.
القتال في سوريا والعراق منذ عام 2013
ركزت الدراسة على تناول الصراعات في كل من سوريا والعراق منذ عام 2013, ففي العراق واصل تنظيم “داعش” شن هجماته, كما استمرت حملة القصف الأمريكية ضد التنظيم, حيث شكلت واشنطن تحالفاً دولياً بقياداتها في العام الماضي 2014 للقضاء على “داعش”, ثم توسع التحالف ليشمل أهدافاً جهادية في سوريا. كما بدأت الولايات المتحدة في برنامج جديد لإعادة بناء الجيش العراقي.
من ناحية أخرى, كانت التطورات في سوريا خلال عام 2014 أكثر تعقيداً, وكان أهم تطور هو أن حكومة “بشار الأسد” أثبتت قدرتها على التعافي، واستعادت تدريجياً بعض الأراضي في البلاد. فيما كان الخاسر بين المتمردين هو الجيش السوري الحر الذى عانى الهزائم والانشقاقات، فمع حلول منتصف 2015 اختفى تقريباً، وانضم مقاتلوه إلى الجماعات الجهادية الأخرى في سوريا.
ويذكر الكاتب أن نمط القتال في عام 2015 استمر على نفس الوتيرة السابقة مع بعض الاستثناءات, حيث تكبدت القوات الحكومية السورية خسائر فادحة في النصف الأول من 2015. كما استمرت عملية القصف الأمريكي ضد “داعش”, واستطاعت قوات الحكومة العراقية والميليشيات الشيعية – بمساعدة أمريكية – استعادة “تكريت”، إلا أنهم فقدوا مدينة “الرمادي”, وقد أظهر سقوط “الرمادي” قدرة “داعش” على التكيف مع الحملة الجوية وضعف الجيش العراقي. كما صاحب ذلك سقوط مدينة “تدمر” في سوريا, فكان بمثابة انتكاسة بعد التفاؤل في واشنطن بأن قدرات تنظيم “داعش” كادت أن تتآكل بسبب الحملة الجوية.
مسارات الصراعات الحالية في سوريا والعراق
يذكر Jenkins أن التنبؤ بمسارات الصراعات أمر غاية في الصعوبة، ويكون محفوفاً بالمخاطر, مؤكداً أن سمات الصراعات الحالية ستحدد مستقبل المنطقة بعدة طرق سياسياً وعسكرياً. وقد أجمل الباحث تسعة استنتاجات في هذا الصدد، وهي كالتالي:ـ
1- جمود الصراعات: وصلت الصراعات في سوريا والعراق إلى طريق مسدود. ومع بعض الاستثناءات القليلة، فإن خريطة الصراعات في كلا البلدين لا تبدو مختلفة بشكل كبير عن تلك التي كانت موجودة من قبل, كما تتعدد الصراعات بين الحكومة والجهاديين، وبين الجهاديين وتنظيم “داعش”.
2- الاختلافات الطائفية والعرقية هي التي تقود الصراع: أصبح الصراع السوري ذا طبيعة طائفية, ففي حين تآكلت المعارضة العلمانية للحكومة، إلا أن بعض السنة لايزالون يقاتلون مع القوات الحكومية، ما يخلق صراعاً داخلياً بينهم, هذا بالإضافة إلى الصراع السني بين “داعش” و”جبهة النصرة”.
أما في العراق، فتعد الخطوط الفاصلة بين السنة والشيعة والأكراد أكثر وضوحاً, وتعوق هذه الخطوط أي تقدم عسكري، كما تؤثر على تشكيل الجيوش الوطنية, فالحكومات التي يقع كثير من أراضيها في أيدي المتمردين لا تستطيع أن تقوم بعمليات التجنيد في إطار جيوشها الوطنية، ما يجعلها أقل تمثيلاً للسكان الوطنيين وأكثر تمثيلاً للتشكيلات الطائفية.
ويترتب على هذه الطبيعة الطائفية للصراعات اثنين من العواقب؛ أولهما أن هذه الصراعات تعوق مساعدة الولايات المتحدة وشركائها في التحالف لتدمير “داعش” والإطاحة بنظام “الأسد”. وثانيهما أن الاختلافات الطائفية سوف تمنع أي تسوية شاملة للصراعات.
3- ضعف الجيوش الوطنية وانتقال القوة إلى الميليشيات: لقد فشلت الجيوش الوطنية في ظل تحول الاحتجاجات في سوريا والعراق إلى المقاومة المسلحة, ولجوء الحكومات إلى الاعتماد على الميليشيات، ما أدى إلى إضعاف الحكومة المركزية، وانتقال السلطة إلى الميليشيات التي تسعى إلى تحقيق أهداف سياسية وطائفية، ويعني هذا العودة بكل من سوريا والعراق إلى حالة عدم الاستقرار التى كانت سائدة بهما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
4- اتجاه سوريا والعراق نحو التقسيم: تم ترسيم حدود كل من سوريا والعراق عن طريق الاستعمار، وذلك في ضوء المعرفة المحدودة للمستعمر عن الحقائق الطائفية والعرقية بهما. وعلى الرغم من أن الديكتاتوريات العسكرية التي تلت الاستعمار سحقت أي تمرد عرقي أو طائفي في البلدين, فإن الغزو الأمريكي للعراق، والتمرد في سوريا، مزقا الروابط التي جمعت هذه الدول, كما عمقـت الصراعات المستمرة في البلدين الانقسامات بهما.
وفي ضوء تآكل السلطة المركزية في سوريا والعراق، فإن عملية التقسيم بهما سوف تستمر. ويرى البعض أن الاقتراح بحل هذه الصراعات عن طريق تقسيم سوريا والعراق إلى دويلات صغيرة، هو وجه آخر للإمبريالية الغربية, كما يعتقد هؤلاء أن القوى الغربية خاصةً الولايات المتحدة تعمل على إثارة الجانب الطائفي في هذه الصراعات من أجل مصالحها الخاصة. لذا يبقى الحل بيد السكان الذين أنهكتهم الحروب في سوريا والعراق؛ فعليهم التغلب على التعصب الديني، ووضع حل لدوامة العنف عن طريق بناء هيكل سياسي يحفظ الوحدة لدولهم.
5- المستقبل القاتم للسُنة في سوريا والعراق: يوضح Jenkins أن السُنة في سوريا والعراق يواجهون مستقبلاً قاتماً تحت أي سيناريو قد يحدث. ويشير إلى أن الجماعات المتمردة أو “داعش” لا تستطيع أن تُكّون حكومات يقودها السنة في سوريا أو العراق, وبالتالي ماذا سيكون المستقبل السياسي للأغلبية السنية في سوريا أو الأقلية السنية في العراق، هل يُمكنهم التوحد لإقامة دولة مستقلة تشمل غرب العراق وشرق سوريا؟
كما يتساءل Jenkins عن قدرة تنظيم “داعش” على البقاء مستقبلاً في ضوء ما أثبته من قدرة على القتال؟ ومع افتراض الغرب بأن السنة في سوريا سينقلبون على “داعش” نتيجة لإقصائهم من هذا التنظيم, ففي العراق تعتبر فكرة انقلاب السنة ضد “داعش” محفوفة بالمخاطر في ضوء تجربتهم السابقة مع الولايات المتحدة التي يعتقدون أنها تخلت عنهم بالانسحاب.
6- استمرار القتال في المستقبل المنظور: يرى الكاتب أن فكرة عقد مؤتمر سلام دولي لإنهاء الاقتتال في سوريا تبدو خيالية, فلا يبدو أن الحكومة الحالية ستكون قادرة على الوصول إلى تسوية سياسية من شأنها أن تقوض المقاومة السنية. لذا فمن المرجح استمرار الصراعات المتشابكة, كما أن سقوط “الأسد” وهزيمة “داعش” لن يُنهي الأعمال العدائية, وحتى إذا لم يعد تنظيم “داعش” قادراً على العمل بشكل علني، فإنه سوف يستمر في العمل في شكل “حرب العصابات”, وإن حدث وتفكك تحت الضغط العسكري, فإن الجماعات المسلحة السنية الأخرى ستستمر في جذب المقاتلين ومواصلة الحرب.
7- تباين مصالح وأهداف القوى الخارجية: توجد كثير من المخاوف لدى القوى الأجنبية من الصراعات الحالية في سوريا والعراق, فالتدخل العسكري المباشر واسع النطاق قد يأتي بنتائج عكسية, لأن أياً من هذه القوى لا يمكنها أن تضمن النصر لحلفائها المحليين أو تضمن هزيمة خصومهم. ويُضاف إلى ذلك، أن مصالح هذه القوى الخارجية تتنافس بدلاً من أن تتكامل مع بعضها البعض. فمن ناحية، تعارض السعودية نظام “الأسد”، بينما تزايد دور إيران في الصراعات السورية والعراقية واليمنية.
من ناحيتها, لاتزال تركيا مصممة على إسقاط “الأسد” ودعم المتمردين في سوريا, وفي الوقت ذاته تُبدي قلقاً من ظهور كيان سياسي كردي مستقل في سوريا والعراق من شأنه أن يؤدي إلى زيادة النزعات الانفصالية في تركيا. ولكن التهديد المتزايد الذي يُشكله الجهاديون والمخاوف بشأن عودة المقاتلين، دفع أنقرة إلى الاعتدال في دعمها للعناصر الجهادية.
أما إسرائيل، فترى أن نظام “الأسد” شرير لكنه حكيم، حيث أبقى على السلام على الحدود معها لمدة أربعين عاماً, وبالتالي فالأخطر على أمن إسرائيل حالياً هو منع الجهاديين من التسلل عبر الحدود، إلى جانب منع إيران من دعم ترسانة “حزب الله” العسكرية.
وبالنسبة للولايات المتحدة, تشير الدراسة إلى أنها ظلت حذرة فيما يتعلق بمستوى تدخلها العسكري في الصراعات, وقدمت مختلف أشكال المساعدة إلى البلدان المجاورة خاصةً الأردن, وإن كانت مساعدتها للثوار في سوريا بطيئة ومتواضعة بسبب المخاوف من أن تقع أسلحتها المتقدمة في أيدي الجهاديين, كما قادت واشنطن حملة جوية ضد “داعش” أثبتت أهميتها في منع مزيد من تقدم التنظيم. ومع ذلك، فإن مزيداً من التدخل الأمريكي سيزيد من خطر وقوع هجمات إرهابية في الخارج وداخل أراضيها.
8- المقاتلون الأجانب سيشكلون تهديداً عالمياً: وفقاً للمؤشرات الصادرة في بداية عام 2015، يؤكد الكاتب أن حوالي 20 ألف من الأجانب سافروا إلى سوريا والعراق للانضمام إلى صفوف المقاتلين, والغالبية منهم انضمت إلى “داعش”. ورغم استمرار حملة القصف ضد هذا التنظيم الإرهابي، بيد أن المتطوعين واصلوا الانضمام إليه. ويشكل هؤلاء المقاتلون حالياً جزءاً كبيراً من إجمالى قوة “داعش”. كما تخشى الحكومات الغربية من عودة بعض المقاتلين إلى بلادهم لتنفيذ مخططات إرهابية, لذا ترى من الأفضل حصرهم في مناطق الصراعات الحالية.
9- استمرار نزوح ملايين اللاجئين: تشير الدراسة إلى أن أكثر من 200 ألف سوري قُتلوا منذ بداية الحرب الأهلية في البلاد, فضلاً عن وجود حوالي 4 مليون لاجئ سوري في الخارج، و7 مليون نازح داخلياً. ومع استمرار القتال يُتوقع زيادة عدد اللاجئين السوريين, مع محدودية قدرة البلدان المجاورة – وتحديداً الأردن ولبنان – على الاستيعاب الدائم لهؤلاء اللاجئين, فالمسألة ليست ضغطاً على الموارد المحدودة لهاتين الدولتين فقط، ولكن استيعاب اللاجئين في حد ذاته سيؤدي إلى تغير التوازنات السياسية والطائفية المحلية بهما.
الاستراتيجية الأمريكية المطلوبة
يشير Jenkins إلى أن السياسة الأمريكية في العراق تسعى لإعادة بناء القوات المسلحة، بحيث تكون قادرة على استعادة سلطة الحكومة بالبلاد. وفي سوريا، تهدف إلى استبدال نظام “الأسد” بحكومة قادرة على هزيمة الجهاديين، وتوحيد البلاد. وهذا يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت حملة القصف الجوي تكفي، أم أن الأمر يستلزم وجود قوات برية أمريكية؟..
يؤكد الكاتب أن الولايات المتحدة يمكن أن تقاتل على الأرض، ولكن من الصعب التنبؤ بالتأثير المحتمل لذلك على مسار الصراعات في سوريا والعراق، وعما إذا سيكون إيجابياً أم سلبياً.
كما يظهر تساؤل آخر مفاده ما إذا كانت الولايات المتحدة مُلزمة أساساً بمساعدة الثوار السوريين والحكومة العراقية؟ فالبعض يرى أن واشنطن يجب أن تهزم “داعش” والجماعات الجهادية الأخرى لأنها تمثل خطراً إرهابياً مباشراً عليها. علاوة على ضرورة قتال القوات الأمريكية في سوريا والعراق من أجل حماية مصالحها، ومنع المنطقة من الانجراف إلى عدم الاستقرار التام.
ويرى الكاتب أن المطلوب من واشنطن هو استراتيجية إقليمية لتأمين المصالح الأمريكية، والتصدي للحرب الطائفية في سوريا والعراق، ونفوذ “داعش”، ومأزق الأكراد والأقليات. ومثل هذه الاستراتيجية يجب أن تتضمن الأهداف والموارد المُكرسة لتحقيقها, حيث لا ينبغي إغراق البلاد في حملات عسكرية مكلفة وكارثية تثير الرأي العام الأمريكي, كما يجب أن تتسق مع نموذج الديمقراطية الأمريكية، ومع وجود تقديرات واضحة للواقع.
Brian M. Jenkins
* عرض مُوجز لدراسة: “كيف تحدد الصراعات الحالية مستقبل سوريا والعراق؟”, والصادرة عن مؤسسة راند الأمريكية، سبتمبر 2015.
المصدر:
Brian M. Jenkins, How the Current Conflicts are Shaping the Future of Syria and Iraq (California: RAND Corporation, September 2015).
إعداد: وفاء ريحان
مركز المستقبل للبحوث والدراسات الاستراتيجية