يبدو أن أزمة الدخول العسكري التركي في العراق ليست في معرض الانحسار في ظل التطورات العربية والإقليمية المتلاحقة، وفي ظل تعقد الحرب المأزومة على الإرهاب بتضارب أهداف ومصالح القوى والأطراف المشاركة في هذه الحرب.
دخول القوات التركية إلى العراق كان يوم الثالث من ديسمبر/ كانون الأول الجاري عندما تم إدخال قوات تركية مدرعة (دبابات ومدافع) إلى منطقة بعشيقة في محافظة نينوى من دون إذن أو علم الحكومة العراقية، وعندما بادر رئيسها حيدر العبادي بإعلام الحكومة التركية أن أمامها يومين لسحب قواتها وإلا استخدمت بغداد كل الخيارات المتاحة، وأتبع ذلك بإبلاغ القوة الجوية العراقية أن تكون على أهبة الاستعداد «للدفاع عن الوطن وحماية سيادته»، جاء رد الحكومة التركية مراوغاً ومستفزاً. في البداية ربطت الحكومة التركية دخول قواتها بعلم حكومة بغداد المسبق، وعندما فندت الحكومة العراقية هذا التبرير جاء الرد صريحاً وعلى لسان نائب رئيس الحكومة نعمان قور تلموش بأن «القوة التركية ليست موجهة ضد الشعب العراقي بل ضد «داعش»، وبأن وجودها في العراق لأغراض تدريبية».
المؤكد أن الحكومة التركية كانت على دراية كاملة بالنقاش الأمريكي – العراقي العلني والمفتوح الخاص باقتراح تقدم به أعضاء في الكونغرس الأمريكي مطالبين بتشكيل قوة إقليمية من «دول سُنية» لمحاربة «داعش»، ورفض الحكومة العراقية القاطع لهذا الاقتراح.
وجاء الرد العراقي على الاقتراح في بيان صدر عن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء (30-11-2015) أي قبل ثلاثة أيام فقط من إدخال تركيا قواتها إلى شمال العراق. وجاء في هذا البيان أن «لدى العراق ما يكفي من الرجال لمحاربة التنظيم»، وأن «مقاتلينا الأبطال في الجيش والشرطة والحشد الشعبي والعشائر يواصلون انتصاراتهم وتقدمهم على إرهاب داعش»، ورحب البيان بزيادة الدعم الدولي للحكومة في السلاح والتدريب والإسناد، وموضحاً أن «الحرب ليست حرباً بين الطوائف أو الأديان أو الجماعات الإثنية، بل هي حرب عادلة ضد قوى الظلام والدمار والقتل».
وضوح شديد وصريح، أن العراق لا يريد رجالاً ومقاتلين بل يريد سلاحاً وتدريباً وإسناداً، وأن مسألة «القوة السُنية» الواردة في طلب أعضاء الكونغرس مردود عليها لأن ما يدور في العراق من حرب ليس حرباً دينية أو طائفية أو إثنية تستدعي تشكيل «جيش سُني» من خارج العراق لمقاتلة «داعش». ورغم ذلك بادرت تركيا بإرسال قواتها إلى شمال العراق والتبرير هو الحرب ضد «داعش»، وهنا يجدر السؤال: هل تحارب تركيا «داعش»؟ وإذا كانت لا تحارب «داعش» بل هي داعم لهذا التنظيم لوجستياً على الأقل وطرف مستفيد من الحرب التي يخوضها هذا التنظيم الإرهابي فلماذا كان التدخل التركي، وما هي المآلات أو السيناريوهات المحتملة للتدخل التركي في العراق؟
الإجابة عن هذه التساؤلات تستلزم استعراض الملاحظات التالية التي لها علاقة مباشرة بتأزم المشروع الإقليمي لتركيا خاصة في سوريا والانتكاسات العسكرية والسياسية المتعاقبة لهذا المشروع.
أولى هذه الملاحظات المفسرة للتدخل العسكري التركي في العراق هي فشل المشروع السياسي التركي في سوريا بشقيه: إسقاط حكم الرئيس بشار الأسد وتمكين الإخوان من حكم دمشق. فلا الرئيس السوري سقط على مدى خمس سنوات مضت من الحرب التي تشارك فيها تركيا ضده، ولا أمكن للإخوان فرض أنفسهم كطرف رئيسي في معادلة مستقبل سوريا ضمن تنازع هذا المستقبل بين أطراف وقوى متعددة بتعدد الأطراف الدولية والإقليمية والعربية المتورطة في هذه الحرب.
ثاني هذه الملاحظات هي فشل تركيا عسكرياً في سوريا وبالتحديد فرض منطقة آمنة في الشمال بين جرابلس وأعزاز، بهدف منع الكنتونات الكردية في شمال سوريا، وجاءت تداعيات إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية لتضع نهاية أليمة لهذا الحلم التركي بعد أن فرضت روسيا منطقة حظر على دخول أي قوات تركية إلى شمال سوريا وزادت من تعاونها مع الأكراد السوريين (وحدات الحماية الكردية) الحليفة لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض التي نجحت في فرض سيطرتها على أكثر من 500 كيلومتر من الحدود السورية مع تركيا، الأمر الذي أثار مخاوف الحكومة التركية من أن تتمدد «وحدات الحماية الكردية» السورية بالسيطرة على المناطق من جرابلس إلى عفرين. الملاحظة الثالثة تتعلق بالتطورات التي حدثت على صعيد التسوية السياسية للأزمة السورية وبالذات مخرجات مؤتمري فيينا الأخيرين، ومن بينها التوصل إلى توافق يبقي مرحلياً على الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية المقترحة.
أما الملاحظة الرابعة فتتعلق بالتطورات الميدانية التي تزامنت مع فشل الرهانات التركية في سوريا، بعد أن تم تحرير سنجار على يد قوات البشمركة العراقية وتحرير منطقة الهول على يد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، الأمر الذي أدى إلى خسارة استراتيجية لتنظيم «داعش» من شأنها قطع الطرق الموصلة بين مدينتي «الرقة» السورية (عاصمة «داعش» في سوريا) والموصل (عاصمة «داعش» في العراق) ما يعني توجيه ضربة استراتيجية لمشروع ما يسمى «الدولة الإسلامية» في العراق والشام، لكن ما هو أخطر أن هذا الإنجاز تحقق على أيدي مقاتلين أكراد الأمر الذي فجَّر المخاوف لدى تركيا، ومن هنا كان التوجه العسكري التركي نحو العراق.
بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن الدخول العسكري التركي إلى شمال العراق جاء بدافع من كل هذه التطورات وبالذات الخسائر التي واجهت وتواجه «داعش» والمكاسب التي تتحقق للأكراد، وخطورة أن تنعكس انتصارات الأكراد في شمال تركيا والعراق إلى الداخل التركي نفسه، وإعطاء حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل داخل المناطق الكردية في تركيا ويسعى لفرض خيار «الحكم الذاتي» بحكم الأمر الواقع ويستقوي سياسياً بوجود «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي في البرلمان فرصة سانحة للانتصار.
كما استهدفت تركيا من تدخلها العسكري في العراق توجيه رسائل إلى قطبي مؤتمر فيينا السوري: الولايات المتحدة وروسيا بأن تركيا لديها أوراق تستطيع أن تلعبها في العراق، ولعل هذا ما دفع الولايات المتحدة إلى دعم المطلب العراقي المؤيد من روسيا بضرورة خروج القوات التركية من العراق، وتفنيد المزاعم التركية بأن وجود القوة التركية في العراق هدفه محاربة «داعش» على نحو ما جاء على لسان نائب رئيس الوزراء التركي، لكن إلى أي مدى يمكن أن تصطدم واشنطن مع أنقرة في العراق؟
إجابة هذا السؤال يمكن أن تكشف مستقبل حدود الدور التركي الإقليمي نظراً لأن تركيا لن تخرج عن الطاعة الأمريكية، كما أن واشنطن يصعب أن تضحي بحليف تاريخي مثل تركيا خصوصاً في ظل التوجه التركي الجديد لمغازلة «إسرائيل» علناً في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أوراق اللعب التركية مع التعقد المتزايد لخريطة التحالفات والتوازنات الدولية والإقليمية.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج