أكراد العراق… اللعب على أوتار التوافق الوطني العراقي

أكراد العراق… اللعب على أوتار التوافق الوطني العراقي

أكراد العراق

أطلق الدستور العراقي، على المناطق المُختلَف حول عائديتها الإدارية، بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان، اسم “المناطق المتنازع عليها”، ولا يخفى ما في هذا المصطلح من استدعاء لمفهوم “النزاع″ وروحيته وثقافته، وتكريس لمنطق الصراع، في حين يفترض بالوثيقة الدستورية أن تتسامى فوق هذا المستوى الاصطلاحي، وأن تتبنى وترسخ لغة قانونية تتسم بالموضوعية والحياد، في تعريف المناطق والقضايا والجهات؛ بهدف تهيئة الأرضية الدستورية اللازمة، والمناخ الثقافي، والإطار التفاوضي المطلوب، لحوار عقلاني، وحَوْكمة رشيدة، ومعالجة عادلة للقضايا محل الخلاف السياسي.

وإلى مثل هذا المنطق في تعريف القضية، واستخدام اللغة والمفردات والصيغ والتوصيفات، وبناء المعاني السياسية والسرديات والأُطر، كان قد أشار الكاتب والمثقف الكردي الراحل سامي شورش، في مقابلة له مع مجلة “صوت الآخر” الكردية عام 2007، عندما تحدث عن أهمية “إيجاد لغة سياسية مشتركة وفهم سياسي مشترك” بين الكرد والعرب.

وأطلق شورش “نبوءة” سياسية مبكرة عن العلاقات العربية – الكردية في العراق؛ إذ أكد أن استمرار “النهج الخاطئ في اللغة السياسية، سيمتد دون شك إلى الذهن الجمعي عربا وكردا، ومن الممكن في المستقبل أن تنبثق عن هذا الوضع تداعيات سيئة، لا يمكن للنخب السياسية آنذاك أن تسيطر عليها”. ويوضح شورش كيف أثَّرت ممارسات الأنظمة السياسية العراقية ضد الكرد على علاقتهم بالعرب، يقول “يتفهم الكرد أن ما لحق بهم من أذى وتدمير وإبادة، جاء بفعل سياسات النظام العراقي والحكومات السابقة، وأن العرب لم يكن لهم دور في ذلك، لكن كما نعلم أن الحياة دائما رمادية، والفرز بين المربعات في السياسة عادة حالة صعبة، لذلك شابت العلاقات الكردية العربية الكثير من المشكلات”.

وقتها استبشر الكاتب والسياسي شورش، في حواره بمستقبل العلاقات الكردية – العربية، دون أن يغفل الإشارة إلى “الاحتمالات السيئة”، التي يبدو أنها اليوم تتحقق بعد سنوات على رحيله، فيقول “إذا ما سارت الأمور في العراق بشكل طبيعي وديمقراطي، فالعلاقات الكردية – العربية فيه ستكون أقوى وأوطد علاقات بين شعبين في منطقة الشرق الأوسط، لكن إذا واجهت هذه العلاقات، أو واجه العراق، عثرات وانتكاسات في طريق الديمقراطية، فإنها ستسوء، وهذا ما لا يتمناه أي كردي أو عربي؛ لأن مصير الشعبين مشترك” داعيا إلى “تأسيس أفق سياسي جديد في هذه العلاقات”.

محاصصة المكونات

إلى وقت قريب كان يُنظر إلى الطرف الكردي باعتباره شريكا سياسيا يتم اللجوء إليه، من السنة والشيعة على السواء، عند احتدام النزاع السياسي الطائفي بينهما. لكن هشاشة النظام السياسي العراقي، والقائم على المحاصصة بين المكونات الدينية والمذهبية والإثنية، وغياب الثقة بين الفاعلين السياسيين، ونقص السلام والتصالح بين الهويات الاجتماعية، واشتداد الصراع على السلطة والثروة والأرض، واختلال التوازن السلطوي، وابتذال مفهوم “الشراكة الوطنية”؛ كلها عوامل قادت إلى تراجع في الدور الكردي في بغداد ذي الطابع “التوافقي” التقليدي، والذي كان يستند، بحسب وصف سياسيين كرد، إلى مبدأ “الوقوف على مسافة متساوية من السنة والشيعة”، لصالح دور جديد بدا أكثر تحديا للحكومة المركزية التي يرأسها حزب “شيعي” وأكثر انحيازا إلى وجهة النظر “السنية” المعارِضة في توصيف ومقاربة الواقع السياسي العراقي.

فهل تكمن مصلحة الكرد في استمرار النزاع السني – الشيعي، أم في الدخول على خط الأزمة بهدف تفكيك النزاع، وفض الاشتباك المذهبي في العراق، وبناء السلام الوطني لصالح مشروع عراقي، مدني علماني ديمقراطي، يوفر للكرد الاستقرار والأمن سواء استمروا جزءا من العراق أو أعلنوا دولتهم المستقلة؟! وكيف يمكن تفعيل الدور الكردي في السياسة العراقية مجددا خارج أُطر التنازع على السلطة والثروة، أو المحاصصة المكوناتية، أو المواجهة القومية مع العرب، أو الانحياز لطرف على حساب آخر، أو الحياد السلبي، أو الانطواء على الذات؛ وإنما في سياق الاندماج في عملية بناء الدولة، وتعزيز سبل الحَوْكمة القانونية والإدارية والتدبير السياسي، وترسيخ المؤسسات، وحماية الشرعية الدستورية، وصيانة التجربة الاتحادية الوليدة؟!

يؤكد الأكاديمي الكردي وجيه عفدو أن “الكرد رقم مهم في المعادلة العراقية، ولهم دور أساسي في عملية التحول الديمقراطي في العراق، لكن لهم أيضا مطالبهم التي يسعون إلى تحقيقها” مضيفا في مقابلة مع “العرب” أن “تحقيق الديمقراطية والتوافقات السياسية شرطان لتفعيل الدور الكردي مجددا في العملية السياسية” لافتا إلى أن “الكرد كان لهم دور واضح في تشكيل الحكومة العراقية الحالية التي يرأسها العبادي، وكذلك الحكومة السابقة برئاسة المالكي الذي وصل إلى السلطة بعد مباركة كردية”.

ومن الناحية البراغماتية، يرى عفدو، وهو أستاذ العلوم السياسية بجامعة دهوك في إقليم كردستان العراق، أن “من مصلحة الكرد استمرار الصراع بين السنة والشيعة باعتبار أن الطرف الأضعف منهما سيستقوى بالكرد”. لكن، على المستوى الاستراتيجي، هو يعتقد أن “تحقيق التوازن والاستقرار ليس من مصلحة العراق فقط، وإنما من مصلحة الكرد أيضا، فبالديمقراطية، يستطيع العراقيون بناء دولة مدنية قوية، وعندما نقول (الديمقراطية) نعني بها عدم تهميش الكرد”.

بالنسبة إلى الكرد، وفي ظل تقلبات المنطقة فإن “العمق العراقي” يبقى أساسيا في كل الأحوال لضمان السلامة الإقليمية لكردستان

الطائفية المميتة

تبدو كردستـــان، بحـكم مكـــــانتها الجيوسياسية الصاعدة نتيجة التطور الاقتصادي النسبي، وتنامي علاقاتها الإقليمية، والتحولات الجارية في المنطقة، مؤهلةً للعب دور ما عراقيا بما يسهم في إنقاذ المشروع الديمقراطي في العراق، والمحافظة على مدنية الدولة الاتحادية واحتضانها للتنوع الثقافي في البلاد. ويعتقد الباحث السياسي الكردي زيرفان سليمان صديق، المتخصص في حقوق الإنسان والتعددية الثقافية، في حديث لـ”العرب”، أن موضوع “الدور الكردي عراقياً” يحمل في طياته أبعادا سياسية واقتصادية واجتماعية مُبيِّنا أن “الكرد كان لهم دور أساسي وفعال في بناء الدولة الوطنية المدنية في العراق بعد سقوط النظام السابق عام 2003، وذلك عن طريق مشاركتهم الفعالة في إنجاح العملية السياسية” لافتا إلى “فرص كثيرة سنحت للكرد للاستعجال بمشروع الانفصال، ولكنهم فضلوا البقاء مع العراق (الموحد التعددي الديمقراطي) كما هو مُبيَّن في الدستور العراقي، والذي صوَّتت عليه الغالبية العظمى من الشعب الكردي في العراق”.

ويُضيف زيرفان صديق قائلا “كانت القيادة الكردية في بغداد متمثلة برئيس الجمهورية السابق جلال الطالباني، وفي أربيل متمثلة برئيس الإقليم مسعود البارزاني، على مسافة واحدة من الإخوة السنة والشيعة وهذا ما يشهد به الجميع″ مشيرا إلى “التصريحات التي صدرت من القيادة الكردية، والجهود التي تم تبنيها، من أجل إنجاح مشروع المصالحة الوطنية في العراق محذرين من الانجرار وراء الطائفية والمذهبية، لأنهما لن تجلبا إلا الدمار واتساع الفجوة بين أبناء الشعب العراقي” ومؤكدا أن “هذا ما حدث فعلا بعد تبني السياسات الإقصائية من قبل الحكومة المركزية لمصلحة طرف ضد طرف آخر” لافتا إلى أن هذه كانت “بداية توجيه الضربة المميتة لمشروع المصالحة الوطنية في العراق، وإفساح المجال أمام الجماعات الإرهابية للعب على وتر الطائفية، والذي نجحت فيه إلى حد كبير، وكان من الأسباب الرئيسية التي آلت بوضع العراق إلى ما هو عليه الآن”.

ورغم اعتقاد الباحث أن “تهديد داعش لأمن إقليم كردستان أدى إلى أن ينصبَّ تركيز الأكراد على حماية الإقليم من الإرهاب، والانشغال بالشؤون الداخلية كتوفير رواتب الموظفين وإدارة جبهات القتال” فإنه يستدرك ليشير إلى “أعداد كبيرة من المقاتلين السُّنَّة الذين يتم تدريبهم وتجهيزهم في الإقليم من أجل الحرب على داعش” وهذا في نظره “دليل آخر على حسن تعامل الأكراد مع مشروع المصالحة الوطنية بين السنة والشيعة” لكن زيرفان صديق يشدد على أن “ما حصل عليه الأكراد مقابل حُسن التعامل هذا ما هو إلا وعودا والتزامات غير منفذة وبلا قيمة”. ومن أجل تفعيل دور الأكراد في إنجاح المشروع الديمقراطي في العراق، يطالب الباحث صديق بأن تكون هنالك “ضمانات من بغداد للكرد، وإبداء حسن النية في التعاطي مع الإقليم” ومن أهم الطرق لذلك، بحسب رأيه، هو “اعتماد ليونة أكثر في المفاوضات من أجل حل الخلافات حول الموازنة المالية، وصرف مستحقات موظفي الإقليم، وأن تلتزم بغداد بتنفيذ التزاماتها وفقا للاتفاقية السياسية التي أبرمت بين أربيل وبغداد حول حل المشاكل العالقة، ومنها مسألة تصدير النفط، حيث التزم الإقليم بتنفيذ التزاماته وفقا للاتفاقية وبشهادة وزير النفط العراقي”.

العمق العراقي

هل فات الأوان فعلا أم أن فرص التصالح العراقي ورأب الصدع الطائفي ما زالت متاحة وهي تحتاج إلى أطراف ضامنة وداعمة مثل الطرف الكردي؟! لا سيَّما في ظل فاعلية السياسات الإقليمية والدولية في الحالة العراقية، وتأثير التوازنات الخارجية على استقرار الداخل العراقي، والصورة الإيجابية المتبلورة عن كردستان وسياستها لدى المجتمعين الإقليمي والدولي؛ وهذه العوامل مجتمعة ربما تؤهل الإقليم الكردي للعب الدور المطلوب إذا توافرت لدى ساسته الإرادة لذلك، وتوافرت لدى الأطراف المحلية والإقليمية والدولية إرادة استدعاء الدور الكردي.

بالنسبة إلى الكرد، وفي ظل تقلبات المنطقة، فإن “العمق العراقي” يبقى أساسيا في كل الأحوال لضمان السلامة الإقليمية لكردستان. وفي مثل هذه الحالة، فإن عليهم ألا يتركوا بغداد من دون دور كردي يمد يده للجزء “العربي” من العراق، ويقوم بمساعٍ حميدة تُسهم في صناعة الاستقرار السياسي، وتُحافظ على كيان الدولة العراقية.

همام طه

صحيفة العرب اللندنية