حتّى السبعينيات من القرن الماضي كان شيعة لبنان يتوزّعون سياسيّا على الحركات اليساريّة والقوميّة، وحتّى على الأحزاب المحليّة، كحزب الكتائب اللبنانية وغيره، بينما كانت الزعامات التقليديّة العريقة للشيعة كبيت الأسعد وعسيران والخليل، وغيرها من العوائل اللبنانيّة الولاء، وغربيّة الثقافة كما أنها ذات توجه ديمقراطي سياسيّا.
في السبعينيات من القرن الماضي بدأ نشاط دعوي لرجال دين شيعة في لبنان، أهمّهم الإمام موسى الصدر، المولود في قم في إيران، والسيّد محمّد حسين فضل الله المولود في النجف في العراق وغيرهما. أخذ هذا النشاط دفعة كبرى مع انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979. وفي أوائل الثمانينيات ظهرت للوجود مجموعة غامضة قوامها تيّار انشقّ عن حركة أمل برئاسة الشيخ عباس الموسوي والشيخ صبحي الطفيلي، مع رجال دين وناشطين لهم علاقة بحزب الدعوة العراقي، وتلقّت هذه المجموعة دعما مباشراً وتدريباً عسكرياً من مجموعات الحرس الثوري الإيراني. وكان للعدوان الإسرائيلي على لبنان 1982 فضل أيضاً، حيث قدم ما تحتاجه هذه المجموعة من مبرّر لوجودها وانتشارها وتسليحها. في هذه الفترة حدث الكثير من عمليّات الاختطاف لرهائن غربيّين، تمّ قتل بعضهم وأطلق سراح آخرين مقابل فدية، وكانت هذه المجموعة هي المتّهمة بهذه العمليّات، وفي اكتوبر 1983 تمّت عمليّة نسف مقرّي المارينز والقوّات الفرنسيّة في لبنان، التي قتل فيها 300 عسكري دفعة واحدة، وكانت الشبهات تحوم حول هذه المجموعة أيضا. أخيرا في 16 فبراير 1985 تمّ الإعلان رسميّا عن ولادة «حزب الله»، وقد جاء في بيان التأسيس أنّ الحزب «ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني، مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة». كان من غير المألوف أن يعلن حزب سياسي في بلد عربي مستقلّ ولاءه لدولة أخرى من قوميّة مختلفة بعيدة جغرافيّا، وفوق ذلك في تلك السنوات كانت هذه الدولة في حالة حرب طاحنة مع دولة عربيّة هي العراق! لكنّ موضوع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي كان بوسعه تسويق أي شعار حتّى لو كان التبعيّة لإيران، كما ساعدته الأموال الإيرانيّة على إنشاء الكثير من الجمعيّات الخيريّة والاجتماعيّة، التي مكّنته من الانتشار في المناطق الشعبيّة للطائفة الشيعيّة. في هذا الوقت دعى الحزب إلى إقامة الدولة الإسلاميّة في لبنان وإنهاء الهيمنة المارونيّة. كانت هذه الطروحات غريبة تماما عن لبنان «سويسرا الشرق «، بلد الحريّة والانفتاح والثقافة، كانت المناطق ذات الأغلبيّة الشيعيّة في تلك الأيّام مثل باقي لبنان، من حيث المظاهر الغربيّة والعصريّة والأزياء ونمط الحياة. وكانت هناك طبقة ثقافيّة وسياسيّة واسعة الانتشار وصاحبة تأثير شعبي كبير، وكان لابدّ من إزاحتها كما فعل آيات الله في إيران، ولذلك حدثت في تلك السنوات عمليّات اغتيال وتصفية لمئات المثقّفين والسياسيّين الشيعة المعارضين لمثل هذه التوجّهات، خاصّة من الليبراليّين واليساريّين، أمثال حسين مروّة المفكّر الموسوعي الّذي اغتيل في فبراير عام 1987 وكان عمره وقتها 80 عاما، ومهدي عامل الذي اغتيل في مايو 1987.
سارت الأمور على أحسن ما يرام مع «حزب الله» في الفترة بين عام 1991 حتّى عام 2000 : عمليّات مقاومة قويّة ومؤثّرة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، الحرب العراقيّة الإيرانيّة المحرجة لحزب الله انتهت، وبالعكس قام صدّام حسين باحتلال الكويت، ما جعل الكثير من الدول العربيّة تقف ضدّ المحور العراقي، حتى أصبحت المساعدات تأتي للحزب من إيران ودول الخليج معاً، مؤسّسات الحزب الخيريّة اتّسعت، وانتشرت استثمارات اقتصاديّة باسم حزب الله في لبنان والعالم، ميزانيّة الحزب وصلت لمستوى دولة صغيرة ممّا سموه المال «النظيف». أمّا شعبيّة حسن نصر الله فقد بلغت مستويات كبيرة، فالقضيّة الفلسطينيّة هي التي تحدّد المزاج الشعبي العربي بشكل عام. نقطة التحوّل والتراجع الأولى لشعبيّة «حزب الله» كانت عند انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000، رغم احتفالات الحزب الواسعة بالانتصار الإلهي إلا أنّ شرعيّة سلاحه أصبحت موضع تساؤل، خصوصا أنّه لم تعد هناك أراض لبنانيّة محتلّة. فلجأ الحزب إلى استخدام قضيّة مزارع شبعا، وهي أراض حدودية غير مرسّمة بين سوريا ولبنان، احتلّتها إسرائيل في حرب 1967، ولكن هذا لم ينجح فقد بدأ أغلبيّة المسيحيين والسنّة والدروز اللبنانيّين، ونسبة من مثقّفي الشيعة بالمطالبة بحصر السلاح بيد الدولة اللبنانيّة، وبدأوا بممارسة نشاطات مختلفة سياسيّة ودبلوماسيّة للوصول إلى غايتهم، وأصبحت الضغوطات الإقليميّة والدوليّة كبيرة بهذا الإتّجاه، فما كان من «حزب الله» إلّا العودة لأسلوبه القديم الّذي يبرع فيه ألا وهو الاغتيالات!
بدأت سلسلة اغتيالات حزب الله عام 2004 وبلغت ذروتها باغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير عام 2005 بالتنسيق مع المخابرات السوريّة، ومع أن عملية الاغتيال هذه لم تكن الأخيرة لحزب الله، إلا أنها كانت نقطة اللاعودة في شعبيّة هذا الحزب داخل لبنان، حيث تحول المزاج العام السنّي والمسيحي والدرزي الذي بات معارضاً لسياساته، وخرجت مظاهرات غير مسبوقة في لبنان مطالبة بنهاية الاحتلال السوري، وطالبت أيضاً بحصر السلاح بيد الدولة، فيما بعد تمّ تشكيل محكمة دوليّة لمحاكمة المتورّطين بجرائم الاغتيال التي استمرّت لسنوات بعد ذلك، حيث حدّدت المحكمة الدوليّة أربعة متّهمين متورطين مباشرة في عمليّة الاغتيال، جميعهم أعضاء في «حزب الله»، ورغم ذلك فإنّ شعبيّة حزب الله في بعض الدول العربيّة كفلسطين وسوريا والمغرب العربي لم تتأثّر كثيرا وذلك بفضل الخطاب الإعلامي المعادي لإسرائيل، حتّى أتت الثورة السوريّة.
قامت كل الحركات السياسيّة الشيعيّة تاريخيّا على فكرة المظلوميّة ونصرة المستضعفين وتمّ استخدام هذه المفردات بكثرة في كلّ البيانات والمسمّيات للحركات الشيعيّة. عندما قامت الثورة السوريّة بمظاهراتها السلميّة ضد نظام يعلم «حزب الله» وكل جمهوره جيداً طبيعته الفاسدة والإجراميّة، أضحى «حزب الله» بموقف لا يحسد عليه، فلقد بات بين الموقف الّذي تمليه عليه الاعتبارات الأخلاقيّة والشعارات الدينيّة، وبين اتّباع سياسة الدولة الإيرانيّة، وقد أثبت حسن نصر الله أنّه كما قال دائما «ليس سوى جندي في جيش ولاية الفقيه».
بعد اتخاذ حزب الله الموقف المؤيد للأسد، تغيّرت النظرة الكلّية له عربيّا وإقليميّا، وقد تطوّرت مواقفه من التأييد الإعلامي للنظام السوري وفي الخطابات إلى إرسال مقاتليه لمشاركة النظام في كل جرائمه داخل سوريا، في ذلك الوقت تمّت إعادة النظر بطبيعة «حزب الله» وبكل تاريخه، فقد أصبح رأي الأغلبيّة أنّ القضــــيّة الفلسطينيّة لم تكن بنظر قادته إلا البــــوّابة التي تمكّنه من تسويق مشروع طائفي من حيث الجوهر، وموال لدولة أجنبيّة. وقد سمح فقدان التعاطف الشعبي لكثير من الدول مع «حزب الله» بوضعه على لوائح الإرهاب، والعمل على تجريده من مصادر تمويله، كما ترافق ذلك مع أزمة اقتصاديّة إيرانيّة نتيجة العقوبات الدوليّة والفشل الاقتصادي الداخلي، أثّرت على حجم المساعدات المقدّمـــــة له، ولا ننسى انعكاسات الصراعات الداخليّة الإيرانيّة على استقرار النظام هناك، وعلى صورة «حـــزب الله» في الخارج، فعندما تحرّك مئات آلاف الإيرانيّين في ما عرف (بالثورة الخضراء)، أدرك العالم حقيقة النظام الحاكم في إيران واعتماده في استمراره على الحرس الثوري والميليشيات الشيعيّة المتعصّبة، ممّا فضح فشل الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، التي يروّج لها حزب الله كحلم ودولة مثلى «للعدل والتطوّر».
أما اليوم فقد توضح أن «حزب الله» عبارة عن تنظيم شيعي لبناني يعيش في عصر سابق، ويخوض صراعات عفى عليها الزمن، ويهدّد الوحدة الوطنيّة والمجتمعيّة في المنطــــقة، ظروفه الماليّة والتعبويّة والعــــسكريّة باتت في أسوأ حالاتها، يتعرّض للهجوم والانتقاد من كل الجهات حتّى من ضمن الطائفة الشيــعيّة نفسها. خطابات حسن نصر الله أصبحت مكرّرة وسطحيّة ومتوتّرة وفقدت الاهتمام والمتابعة الشعبيّة، بل حتّى أصبحت مادّة للتندّر، ووجه حسن نصر الله نفسه طرأ عليه الكثير من التغيّر ولم يعد في الإمكان إخفاء الإحباط والغضب الواضح فيه. الكثير الكثير من المعطيات تدلّ بوضوح أنّ زمن حزب الله اللبناني قد ولّى.
د.عماد بوظو
صحيفة القدس العربي