ليس على طريقة مؤتمر بغداد المزمع عقده قريباً، ولا المؤتمرات العديدة التي عقدت سابقاً، فالمصالحة في العراق ملف يحتاج في شكل عاجل إلى مغادرة الهمهمات السرية الخجولة، وخطابية المنابر المحكومة بالمزايدات، إلى الحديث الصريح والمعلن، الذي يمكن أن يسمح بإنتاج رؤية ما خلف غبار المعارك الحالية مع «داعش».
يجادل كثيرون من العراقيين في أسباب الأزمات التي تعصف بالبلاد منذ عقد وأكثر، فهي مؤامرات خارجية لا تتوقف، حيث تتفرغ دول الشر في العالم في جلسات يومية، للتخطيط لكيفية إقناع عراقي بقتل جاره، أو ترتيب تهمة كيدية لصديقه، أو حفر الطوائف خنادقها ونشر حقول الألغام حولها.
يستحيل التوصيف العميق للأزمة بإغفال العوامل الخارجية، ولكن لا يمكن أيضاً اجترار تلك العوامل لنسيان أن التضارب بين البنى السياسية انسحب على التضارب الاجتماعي بدلالات دينية وطائفية وقومية، وكانت له أُسس ومنطلقات وأرضية مواتية مثلما دعمته قوانين، وإجراءات أمر واقع وسلسلة طويلة من الانتهاكات التي لم يُعترف بها ناهيك عن معالجتها ومحاسبة مرتكبيها.
ولا بأس بفصل سبع من القضايا الكبرى المعلقة:
الأولى تتضمن تصفية نظام حكم البعث قبل 2003، والثانية تعيد إنتاج النصوص الدستورية، والثالثة تخص تصفية إرث الحرب الأهلية بكل المشاركين فيها، والرابعة تتعلق بحل أزمة التمثيل الطائفي والمذهبي والقومي في المؤسسات الرسمية، والخامسة تبحث في توصيف فلسفة الدولة وعلاقاتها الخارجية، والسادسة تذهب إلى إيجاد حلول دائمة لمشكلة المناطق المتنازع عليها والعلاقة بين بغداد واقليم كردستان، والسابعة تخص التعامل مع تركة مرحلة تنظيم «داعش» وضمنها المجموعات المسلحة التي تشكلت لقتاله.
ولأن السكوت في أمر إدارة مستقبل دولة ليس فضيلة، فإنه قاد إلى تراكم تلك الملفات وتشابكها وتفاعلها وتأثير أحدها في الآخر، ما يستدعي أولاً فك هذا التشابك، ومن ثم العمل على المصالحة بروح «العقد الاجتماعي الجديد» وليس عبر وعود البرنامج الحكومي.
فمن ناحية التعامل مع اجتثاث البعث، فإنه خضع على الدوام لاعتبارات سياسية، واستخدم لتحقيق تصفيات خصوصاً على مستوى الهياكل الوظيفية في مؤسسات الدولة. فبعثي كبير في موقع إداري صغير أو غير مؤثر لم يكن أمراً مهماً بقدر بعثي صغير في موقع كبير.
وعلى هذا الأساس صفيت الطبقة البيروقراطية التي أمسكت الدولة، وكانت بالضرورة طبقة من صغار البعثيين خصوصاً في مناصب وكلاء الوزارات والمديرين العامين ورؤساء الأقسام، لمصلحة أجيال جديدة من الحزبيين الذين تقاسموا آلاف المناصب كحصص لأحزابهم.
تصفية هذه القضية لا تحتاج إلى مؤتمر مصالحة بقدر إقرار القوى المهيمنة على المناصب الحكومية بمبدأ الكفاءة وتطبيقها قانون «مجلس الخدمة الاتحادي».
التطبيق العادل والمهني لهذا القانون سيتيح حل مشكلة تمثيل المكونات في الدولة، مثلما ان تطبيق القوانين اللامركزية المؤجلة ومنها قانون «مجلس الاتحاد»، سيتيح إجراء التعديلات الدستورية في ضوء مصالح المحافظات والاقاليم لا مصالح الأحزاب، ويفتح الباب لحل الأزمة الدائمة مع اقليم كردستان والمناطق المتنازع عليها على أسس دستورية دائمة.
وإجراء تعديلات دستورية سليمة وفي نطاق اللامركزية العادلة، سيكرس علاقات خارجية اقتصادية وثقافية وسياسية متوازنة مع دول الجوار ومع العالم، مثلما ان العودة إلى مفهوم «العدالة الانتقالية» في إنهاء تداعيات الحرب الاهلية ستتيح استخدام معايير «العدالة» نفسها لتصفية تركة «داعش» على رغم صعوبتها.
أزمة المصالحات العراقية ارتبطت على الدوام بإرادة الحل لا خرائطه، وبقدرة الأطراف على توفير تنازلات متبادلة ومعلنة وطي صفحات وفتح أخرى، وقبل ذلك بانقسام هذه الأطراف على نفسها بعمق.
فعلى صعيد «التحالف الوطني» الشيعي الذي يمثل القوة الأكبر في المشهد السياسي ويحمل المفاتيح الأهم للأزمات، لا يمكن تصور اتفاق ممكن داخل قوى التحالف حول مسار واحد للحلول.
إن أطرافاً عرضت نفسها كمبادر لفهم الأزمة العراقية، كتيار «المواطن» بزعامة رجل الدين عمار الحكيم، وقادت مشروع مصالحة جديداً أعمق من المشاريع السابقة، عرّضت نفسها لحملات تنكيل وتخوين في اوساط المنافسين الشيعة، وهي في الواقع منحت منافسيها ذرائع وافية لإسقاطها سياسياً.
وفي هذه القضية الحساسة لا يبدو أن ثمة أملاً بتجاوز الانقسام، من دون تدخل القوى الفاعلة في الوسط الشيعي، والمقصود «المرجعيات الدينية» التي يمكن أن يكون تصديها للمشروع مدخلاً لتهدئة الصراعات حوله.
المناكفات السياسية في الاوساط السنية ليست أقل حدة، فمعظم الوسط السياسي السنّي يخشى نتائج مشروع المصالحة، بما لا يسمح بتشكل البيئة نفسها التي سمحت لمعظم السياسيين السنّة بالتصدي للشأن العام خلال السنوات الأخيرة.
وارتفاع سقوف بعض الأطراف السنّية المعارضة للعملية السياسية حول شروط المصالحة واستخدامها المزايدات السياسية والتنكيل بالقوى الساعية إليها، لا يقل خطورة، وهو لم يسمح بإنتاج قيادات يمكن الاعتماد عليها لتمرير صفقة مصالحة شاملة مع الأطراف الأخرى.
والانقسام الكردي الداخلي وصل إلى مراحل متقدمة، ولا يؤمل بتفاهمات عراقية دائمة في اجواء صراع سياسي كردي – كردي يتخذ مسارات تزداد تعقيداً وبتداخل إقليمي صريح.
حاولت الأمم المتحدة فتح باب جديد للمصالحة العراقية بطريقة جمع الآراء ومحاولة التقريب بينها، لكن جهود المنظمة الدولية لا تراعي حاجة الاطراف العراقية إلى التصرف بحرية في إقرار مشروع شامل بمعزل عن المزايدات الداخلية، والضغوط الخارجية. هنا تحديداً يمكن القول ان ترتيبات وضغوطاً دولية على الدول المعرقلة للمشروع، تتزامن مع توافقات داخلية، وضمانات سياسية للقوى التي تتصدى له، يمكن وحدها ان تضع ألغاز المصالحة السبعة على الطاولة، للبدء بحلها.
وقد يكون من السابق لأوانه تقويم مؤتمر بغداد للمصالحة المزمع عقده قريباً برعاية الرئاسات العراقية الثلاث، التي يمكن القول أن نياتها سليمة في هذا الجانب، لكن الوقائع لا تشير إلى أن الرؤساء العراقيين الحاليين للجمهورية والحكومة والبرلمان قادرون على فرض المصالحة واقعياً، وأنهم في حاجة إلى حماية أنفسهم أولاً، ومن ثم حماية القوى الأكثر اعتدالاً من ان يتسبب تبنيها مبادئ جريئة للمصالحة بالتهامها من قبل نظرائها في المكوّن الواحد. وما عدا ذلك، فإننا أمام مهرجان خطابي جديد يضاف إلى مهرجانات العراق الممتدة.
مشرق عباس
صحيفة الحياة اللندنية