معركة الرمادي: مكاسب التحالف وتكتيكات تنظيم الدولة

معركة الرمادي: مكاسب التحالف وتكتيكات تنظيم الدولة

معركة الرمادي

استراتيجية الحفاظ على العنصر البشري وصلتها بالموروث الديني

تقود الولايات المتحدة تحالفًا دوليًّا واسعًا يهدفُ إلى مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية لإضعافه، ومن ثم القضاء عليه؛ وفق استراتيجياتٍ قتالية، وأخرى غير قتالية، ترسمها بالتشاور مع بعض دول التحالف، وتنفذها حسب رؤيتها هي. وفي مواجهة تلك الاستراتيجيات، يضع تنظيم الدولة الإسلامية استراتيجياتٍ مقابلة للحفاظ على وجوده بالرهان على عامل الزمن، وما يتبعه من احتمالات فشل الضربات الجوية، وضرورة الدخول في مواجهاتٍ برية يعتقدُ التنظيم بقدرته على الاستمرار فيها مع الحفاظ على ما يكفي من القدرات لخوض معركةٍ حاسمة في منطقة “دابق” في سوريا مستدلًّا بموروثٍ ديني يعتقدُ بصحته.

ترتبط استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية بالحفاظ على مقاتليها بمقاربةٍ عَقَديةٍ تستند إلى أحاديثَ مروية عن النبي محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، تصف حال المسلمين في آخر الزمان، وتتحدث عن معركةٍ كبرى بين المسلمين وغير المسلمين في منطقةٍ تُسمَّى “دابق”، في ريف حلب(1)، ينتصرُ فيها المسلمون. وتعزَّزت هذه الرؤية لدى التنظيم بعد أنْ سيطر على منطقة “دابق”، صيف العام 2014، مُستذكرًا أحاديث النبي محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، والوعد الذي أطلقه أمير تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، أبو مصعب الزرقاوي، قبل مقتله، في يونيو/حزيران 2006، “بإحراق جيوش الصليب في دابق” (2).

ومع ازدياد عدد الدول في إطار التحالف الدولي التي اقتربت من 70 دولة، تعززت عقيدة أنصار التنظيم بقرب وقوع معركة “دابق” التي يتفقُ معظم الروايات المنقولة عن النبي محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، على اجتماع غير المسلمين (الروم) على قتال المسلمين تحت 80 راية (دولة) يقاتلُ تحت كل راية منها 12 ألف مقاتل؛ وقد يكون انتظار وقوع هذه المعركة التي يعتقد المؤمنون بفكر التنظيم بقرب حدوثها، سببًا في اعتماد استراتيجية الحفاظ على أكبر عدد من المقاتلين. ويراهنُ تنظيم الدولة على فشل طيران التحالف الدولي في هزيمته، ونزول قواتٍ برِّية أميركية، وغير أميركية، لقتالهم على الأرض.

العنصرُ البشري في استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية

من الصعوبة بمكان تقدير الأعداد الكلية لمقاتلي تنظيم الدولة، وتحديد أماكن انتشارهم. وتقدِّر معلوماتٌ استخباراتية أميركية أعداد مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية (وتنظيماتٍ جهاديةٍ أخرى) بما بين 21 ألفًا إلى 31 ألف مقاتل (3)؛ فيما يُقدِّر مسؤولون عراقيون أعدادهم بحوالي 200 ألف مقاتل؛ لكن مصادر من داخل التنظيم أشارت إلى 40 ألف مقاتل (4).

ألقى اتساع جغرافية سيطرة تنظيم الدولة بتبعات الحاجة إلى زيادة أعداد المقاتلين الذين لا غنى عنهم في حماية المدن التي يسيطر عليها، أو السيطرة على مدنٍ جديدة.

كما أن اتساع جغرافية سيطرة تنظيم الدولة، وزيادة عدد المدن تحت سلطته فَرَضا عليه الحاجة إلى المزيد من الكوادر الإدارية والأمنية لإدارة المدن التي يسيطر عليها في سوريا والعراق على امتداد جغرافيةٍ متصلة تصلُ إلى “ربع مليون كيلومتر مربع يقطنها ما بين 10 إلى 12 مليون نسمة” (5) يتركز معظمهم في مدن كبرى، الرقة ودير الزور في سوريا، ومدنٍ عدَّة من محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين والأنبار في العراق؛ مع زيادةٍ أو نقصانٍ في العدد الإجمالي حسب خسارة التنظيم لمدنه، أو سيطرته على مدنٍ أخرى.

بعد بدء هجوم القوات العراقية، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2015، لاستعادة مدينة الرمادي، باشَرَ تنظيم الدولة سحب مقاتليه بشكلٍ تدريجي؛ وهي ثالث أكبر مدينة خضعت لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وتبعد أقل من خمسين كيلومترًا عن مدينة الفلوجة، ذات الأهمية العسكرية للتنظيم كنقطة انطلاق باتجاه العاصمة بغداد على مسافة 40 كيلومترًا إلى الغرب منها، وحوالي 90 كيلومترًا إلى الجنوب الغربي من مدينة سامراء التي تُعد المدينة الأكثر قداسةً لدى الشيعة في العراق والعالم؛ كما أن مدينة الرمادي ترتبطُ بالمدينة الشيعية المقدسة، كربلاء، بطريقٍ يمتدُ باتجاه الجنوب الشرقي لمسافة أقل من 120 كيلومترًا.

مع أهمية الموقع الجغرافي لمدينة الرمادي لتحقيق أهداف تنظيم الدولة الذي دعا أنصاره للتقدم “إلى العاصمة بغداد ومدينة كربلاء” (6) بعد يومٍ واحدٍ من سيطرته على مدينتي الموصل وتكريت، في 10 يونيو/حزيران 2014، إلا أن التنظيم لمْ يحشد العدد الكافي للدفاع عنها؛ كما أنه لمْ يُعلن عن استقدام تعزيزات من مدنٍ أخرى؛ وتراوحت أعداد مقاتلي التنظيم المدافعين عن المدينة عند بدء هجوم القوات العراقية، في 21 ديسمبر/كانون الأول 2015، حسب تقديرات عراقية بين 200 إلى 300 مقاتل (7)، في حين قدَّرت قوات التحالف الدولي “أن نحو 700 من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية لا يزالون مختبئين في وسط مدينة الرمادي العراقية، وضواحيها الشرقية” (8).

سبقَ لتنظيم الدولة الإسلامية أنْ انسحب من مدينة تكريت بشكل تدريجي منذ الأيام الأولى لبدء عملية استعادة تكريت، في الأول من مارس/آذار 2015، دون أنْ يخوض معركة عسكرية بالمعنى المتعارَف عليه في العلم العسكري، إنما اقتصر على اتباع استراتيجية الحفاظ على العدد الأكبر من مقاتليه خارج دائرة الخطر، مع الإبقاء على عددٍ محدودٍ قدَّره بعض المصادر، وفقًا لمعلومات من “مركز مدينة تكريت بحوالي 250 مقاتلًا” (9)؛ وانخفض هذا العدد بحلول منتصف الشهر نفسه، حسب تقديرات جهاتٍ رسمية من الحشد الشعبي، إلى “ما بين 60 إلى 70 مقاتلًا” (10) محاصرين داخل المدينة؛ وهو عدد لا يكفي لخوض معارك عسكرية في مواجهة أكثر من عشرين ألف مقاتلٍ من القوات الأمنية والحشد الشعبي والشرطة ومقاتلي العشائر السُنِّية؛ وهو ما أكدته مصادر من داخل تنظيم الدولة الإسلامية قالت: إن “عملية تكريت كانت انسحابًا تم إعداده مسبقًا من قبل رجال الدولة الإسلامية حيث لمْ تجرِ أي معارك حقيقية” (11).

لجأ التنظيم في الأسبوع الأول من المعركة إلى سحب العدد الأكبر من مقاتليه بشكلٍ تدريجي؛ وقدَّرت مصادر مقرَّبة من تنظيم الدولة الإسلامية “عدد مقاتلي التنظيم بحدود 1200 إلى 1500 مقاتل في مركز المدينة، وناحية العلم وقضاء الدور، مع بدء العملية العسكرية، في الأول من مارس/آذار 2015؛ لكن التنظيم أبقى على حوالي 270 مقاتلًا بعد حوالي عشرة أيام استمروا فيها بالقتال مع انسحابٍ تدريجي بحيث لمْ يكنْ هناك أكثر من خمسين مقاتلًا في الأسبوع الأخير من الشهر نفسه قُتل منهم أقل من ثلاثين مقاتلًا بالقصف الجوي، وستة على الأقل فجَّروا أنفسهم في اشتباكاتٍ داخل بعض المباني” (12)؛ ولمْ تعرض وسائل الإعلام المحلية المرافِقة للقوات العراقية صورًا لجثثٍ تعود لمقاتلي التنظيم؛ ما يؤكد انسحابهم بشكلٍ مدروس من المدينة دون قتال بحلول يوم 31 مارس/آذار؛ حيث أعلنت الحكومة العراقية تحرير المدينة بالكامل. وقد بلغت خسائر الحشد الشعبي والقوات الأخرى حوالي “ستة آلاف قتيل حسب إحصائية لمصادر استخبارية أميركية، وأخرى عراقية” (13).

تحولات الولايات المتحدة بعد استعادة تكريت وسقوط الرمادي

نجاح القوات العراقية باستعادة مدينة تكريت، في 31 مارس/آذار 2015، فجَّر خلافاتٍ أميركية-عراقية حول أولوية العملية المقبلة في الأنبار، أو في نينوى التي كانت الولايات المتحدة قد أعطتها الأولوية.

رأت الحكومة العراقية ضرورة استعادة مدن الأنبار التي تشكِّل تهديدًا مباشرًا للعاصمة، مثل مدينة الفلوجة غرب العاصمة، لكن سقوط مدينة الرمادي بيد تنظيم الدولة، في 17 مايو/أيار 2015، دفع باتجاه تركيز الجهود لاستعادة المدينة ثانيةً كأولويةٍ قصوى دفعت بالولايات المتحدة لإعادة النظر في أولوية استعادة الموصل، والتركيز على استعادة الرمادي باتباع استراتيجية جديدة، مع استمرار دعم وتدريب قوات البشمركة والمقاتلين السُّنَّة لاستعادة الموصل.

تعمَّدت الولايات المتحدة إبعاد قوات الحشد الشعبي عن المشاركة في المعارك النظامية لاستعادة مدينة الرمادي؛ التي استمرت للفترة من 21 إلى 27 ديسمبر/كانون الأول 2015، بمشاركة عدَّة تشكيلات من القوات العراقية، الفرقة الذهبية وبعض وحدات الجيش وشرطة الأنبار وأفواج طوارئ الأنبار والصحوات “أبناء العشائر” وحشد الأنبار الذي يضم مقاتلين من أبناء العشائر درَّبتهم الولايات المتحدة ضمن برنامج تدريب المقاتلين السُّنَّة، دون وجودٍ يُذكَر لفصائل الحشد الشعبي التي اتخذت مواقع في محور شرق الرمادي بعيدًا عن ساحة القتال.

واعتبرت الولايات المتحدة ما تحقَّق في الرمادي “نصرًا جاء نتيجة شهرٍ من الجهود الشاقة المتواصلة التي بذلها الجيش العراقي وقوات مكافحة الإرهاب والشرطة المحلية؛ إضافةً إلى مقاتلي العشائر، مدعومين بطائرات التحالف الدولي الذي نفَّذ أكثر من 600 غارة جوية على مواقع تمركز التنظيم في المدينة”.

استراتيجية الولايات المتحدة العسكرية في معركة استعادة الرمادي

مطلع العام 2014، فرض تنظيم الدولة كامل سيطرته على مدينة الفلوجة، وأحياء مهمة من مدينة الرمادي. وطيلة أشهر ظلَّ التنظيم يشنُّ هجماتٍ منظَّمة على القوات الأمنية والمراكز الحكومية من بعض الأحياء داخل المدينة؛ وخاض خلالها حرب شوارع وعمليات كرٍّ وفرٍّ قبل انسحابه من الرمادي بشكلٍ كاملٍ، خريف العام 2014، للتمركز في بعض المناطق القريبة من مركز المدينة.

مُنذ أوائل إبريل/نيسان 2015 شَنَّ تنظيم الدولة سلسلة متواصلة من الهجمات وخاض العديد من المعارك في الأحياء الداخلية من مدينة الرمادي ضد القوات العراقية والشرطة ومقاتلي العشائر؛ وشكَّل غياب دعم طيران التحالف للقوات المدافِعة عن المدينة العامل الحاسم في سقوط المدينة بيد التنظيم الذي خاض معارك واسعة على عدَّة جبهات منذ منتصف إبريل/نيسان تمكَّن خلالها من فرض حصار على مناطق حيوية في شمال المدينة تضم مقراتٍ أمنيةٍ وحكومية، من بينها قيادة العمليات؛ واستمر التنظيم بتحقيق إنجازات على الأرض مع “توقعاتٍ معلنةٍ لمسؤولين رسميين بسقوط المدينة إذا استمر غياب دعم طيران التحالف وتراجع القوات الأمنية” (14) بشكلٍ مستمر انتهى بانسحابها من المدينة في 17 مايو/ أيار 2015.

أثبتت الضربات الجوية للتحالف الدولي، خلال أقل من عام ونصف، أنها عامل الحسم الأساسي، والوحيد، في استعادة الأراضي والمدن من تنظيم الدولة، مثل تكريت وبعدها بيجي وسنجار، وأخيرًا الرمادي.

وسبق لمعارك تكريت التي انطلقت مطلع مارس/آذار 2015، أنْ توقفت أكثر من مرةٍ بسبب عدم مشاركة طيران التحالف الدولي، ولمْ تستطعْ القوات العراقية حسم المعركة إلا بعد شَنِّ ضربات جوية على مواقع تنظيم الدولة بكثافةِ نيرانٍ عاليةٍ مُنذ 25 مارس/آذار حتى دخول القوات العراقية مركز المدينة في 31 مارس/آذار 2015.

في مواجهة التكتيكات القتالية لتنظيم الدولة، أرسلت الولايات المتحدة بعد أسبوعين فقط من سقوط مدينة الرمادي، في 17 مايو/أيار 2015، “1000 صاروخ مضاد للدبابات من طراز (إيه تي 4) للعراق” (15). كما زودت القوات العراقية بمعداتٍ هندسيةٍ متخصصةٍ ببناء الجسور العائمة التي شكَّلت أهم وسيلةٍ لعبور القوات العراقية باتجاه المجمع الحكومي عبر المجرى المائي “الورار”.

اعتمدت الولايات المتحدة على قوات مكافحة الإرهاب، أو ما يُعرف باسم الفرقة الذهبية، ومقاتلي العشائر والشرطة الذين تلقوا تدريباتٍ على أيدي مدرِّبين أميركيين؛ وركَّز طيران التحالف ضرباته الجوية خلال أيام الهجوم (21 إلى 27 ديسمبر/كانون الأول 2015) على منطقة المجمع الحكومي والمناطق المحيطة به باستخدام عدد من القنابل المتخصصة بتدمير الأنفاق والتحصينات الدفاعية؛ وعمل التنظيم على إخلاء تلك المناطق من السكان، وسحب مقاتليه إلى أحياء أخرى بعيدة عن منطقة المجمع الحكومي تمهيدًا لسحبهم إلى مناطق زراعية في محيط مركز المدينة لاستمرار حرب الاستنزاف بمجاميع متفرقة بعيدة عن الاستهداف المباشر لطيران التحالف.

اتبع تنظيم الدولة الإسلامية ذات الاستراتيجية التي اتبعها في تكريت بإبعاد العدد الأكبر من مقاتليه عن منطقة الخطر المباشر، مع الإبقاء على عددٍ محدودٍ قادرٍ على خوض معارك استنزاف في شوارع المدينة، وتفجير العجلات الملغمة، أو تفجير المباني المفخخة والعبوات الناسفة وأعمال القنص بمجاميع صغيرة متباعدة لا تطولها نيران طيران التحالف بشكل مؤثِّر.

مستقبل تنظيم الدولة استنادا إلى الماضي

تعرَّض تنظيم الدولة لانتكاسات كبيرة وغياب عن الساحة لمرات عدَّة، لكنه لا يلبث أن يعود بشكل أكثر قوة؛ وتميزت عودته إلى المشهد الراهن، منذ أواخر 2013، بقدرات قتالية أكبر، وسياسات مختلفة؛ إذ للمرة الأولى ينتزع السيطرة على مدن عدَّة في سوريا والعراق؛ كما أنه بات أقلَّ حاجة للتمويل بسبب استيلائه على كميات هائلة من الأسلحة بعد سيطرته على الموصل ومدن أخرى في العراق وسوريا.

على الرغم من خسارة تنظيم الدولة الإسلامية لنسبة مهمَّة من مدن كانت تحت سيطرته بسبب ضربات التحالف الدولي، لكن هذا لا يقود إلى القول بنهاية التنظيم الذي تتقلَّص مساحة سيطرته في العراق بشكل واضح؛ ومع انشغال الدول المعنية بالقضاء على تنظيم الدولة بالساحتين السورية والعراقية، استطاع التنظيم استغلال ذلك للتمدد خارج الساحتين إلى دول أخرى مثل ليبيا بأهميتها الجغرافية القريبة من أوروبا، واحتوائها على موانئ وثروات نفطية تعود عليه بالمال اللازم لاستمراره وقوته.

لقد نجح تنظيم الدولة في استدراج القوات الأميركية إلى الأرض بشكل تدريجي، وبات لهذه القوات وجود حقيقي يتمثل بعدة آلاف من المدرِّبين والمستشارين والقوات الخاصة من الفرقة 101 المحمولة جوًّا؛ واحتمالات زيادة عددها مستقبلًا للسيطرة على الحدود العراقية-السورية باتجاه الجنوب إلى منفذ مدينة القائم بدءًا من منفذ ربيعة في نينوى الواقع تحت سيطرة البشمركة الكردية على الحدود مع محافظة الحسكة السورية.

وإذا كانت الولايات المتحدة قد راهنت على عامل الوقت لتحقيق أكبر قدر من الخسائر في صفوف مقاتلي التنظيم وبنيته، ومن جهة أخرى بناء تحالف سُنِّي واسع ضد التنظيم؛ فإن تنظيم الدولة هو الآخر راهن على عامل الوقت لاستمرار وجود عنصره البشري، بصرف النظر عن مساحة الأرض، والرِّهان على كسب البيئة الاجتماعية الناقمة من ضحايا الضربات الجوية وانتهاكات القوات الأمنية والحشد الشعبي؛ ومن جهة أخرى احتمالات تفكُّك التحالف إذا استمر لفترة أطول دون جدوى، واستثمار هذا من جانب الخصوم السياسيين؛ مع واقع تراجع أسعار البترول والأزمة الاقتصادية التي يمر بها معظم الدول المنضوية في التحالف الدولي.

وبالعودة إلى ماضي تنظيم الدولة يمكن رسم صورة مكررة عن انحسار تواجده في المدن خلال سنوات سابقة والعودة إلى معسكرات صحراوية متناثرة على مساحات شاسعة لقسم منهم، فيما يذوب القسم الآخر بين السكان المحليين على شكل ما يُعرَف باسم الخلايا النائمة التي لعبت دورًا مهمًّا في تمكن التنظيم من السيطرة على المدن عند اقتحامه لها.

استنتاجات وتوقعات

أثبت طيران التحالف أنه عامل الحسم الوحيد في استعادة المدن من سيطرة تنظيم الدولة وفق سياسة الأرض المحروقة، لكنه لا يشكِّل عامل حسم في هزيمة تنظيم الدولة والقضاء عليه.

سيستمر تنظيم الدولة في الانسحاب من المدن التي لا تشكِّل خسارتها تهديدًا لوجوده، كما سيستمر في استراتيجية تجنُّب الدخول في معارك عسكرية كبرى مراهِنًا على عامل الوقت.

سيظل خيار خوض المعركة من عدمه، متوقفًا على استراتيجية تنظيم الدولة ومدى أهمية هذه المدينة، أو تلك، في أجندات مشروع إقامة دولة الخلافة الإسلامية بما يوازي استعداده للتضحية بمقاتليه.

في إطار استراتيجيات تنظيم الدولة للحفاظ على ما يكفي من العنصر البشري لخوض معركة “دابق” المرتقبة، طبقًا لرؤى دينية تُشكِّل جزءًا من عقيدة التنظيم، قد يتخلى عن سيطرته على مراكز مدن أخرى لتقليل عدد الجبهات القتالية المفتوحة إلى أدنى حدودها في ظل موازنة غير متكافئة بين أعداد مقاتلي طرفي النزاع المسلح الذين لا يمكن تحديد نسبة التفاوت العددي بينهما، والذي قد يصل إلى عشرات الأضعاف.
_____________________________
رائد الحامد: مركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
1-  للاستزادة: الرجوع إلى حديث النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم (عن أبي هريرة أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: “لا تقومُ الساعةُ حتى تَنْزِلَ الرومُ بِالأَعْمَاقِ، أو بِدَابِقٍ؛ فَيَخْرُجُ إِلَيهُم جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِن خِيَارِ أَهْلِ الأرض يومئذٍ…) إلى آخر الحديث، كما ورد في صحيح البخاري.
2- يمكن الاطلاع على تسجيل مصوَّر يظهر فيه فتى بملامح إفريقية من “أشبال الخلافة” ويتحدث عن دابق قبل أن يقطع رأس أحد القياديين في الجبهة الشامية (يا أميركا، هؤلاء الجنود الذين تسلِّحينهم وتنفقين عليهم الأموال لحرب الشريعة، سنبيدهم بإذن الله كما أبدنا الصحوات في العراق، لن تستطيعوا تجنُّب النزول على الأرض، والموعد دابق) على الرابط http://www.syriahr.com/?p=154235
3- الإندبندنت: داعش لديه 31 ألف عنصر تدفقوا من جميع أنحاء العالم، قناة السومرية، 9 ديسمبر/كانون الأول 2015،
http://www.alsumaria.tv/news/153771/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%AF%D8%A8%D9%86%D8%AF%D9%86%D8%AA-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%87-31-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D8%B9%D9%86%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%AF%D9%81%D9%82%D9%88%D8%A7/ar?utm_campaign=magnet&utm_source=article_page&utm_medium=related_articles
4- خطيب تنظيم الدولة في نينوى يكشف عدد مقاتلي التنظيم في الأنبار والموصل، قناة رووداو الفضائية، 1 مايو/أيار 2015،
http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/0105201516
5- مسؤول كردي: عدد قوات داعش يتجاوز 200 ألف مقاتل، جريدة الراية، 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، (الموقع الإلكتروني للجريدة)،
http://www.raya.com/news/pages/98c76bcf-20a4-483a-854e-1bb3525d7a97
6- “تنظيم الدولة” يدعو أنصاره للتقدم إلى بغداد وكربلاء، الجزيرة نت، 12 يونيو/حزيران 2014،
http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014/6/12/-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%A3%D9%86%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%87-%D9%84%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%85-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D9%83%D8%B1%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%A1
7- العمليات المشتركة: زمام المبادرة أصبح بيدنا وداعش محاصر داخل الرمادي، قناة السومرية، 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، (المتحدث باسم قيادة العمليات المشتركة، العميد يحيى رسول الزبيدي)،
http://www.alsumaria.tv/news/151959/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%B2%D9%85%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AF%D8%B1%D8%A9-%D8%A3%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%A8%D9%8A%D8%AF/ar
8- التحالف: لا يزال في الرمادي “مئات” من تنظيم الدولة الإسلامية، بي بي سي العربية، 30 ديسمبر/كانون الأول 2015،
http://www.bbc.com/arabic/multimedia/2015/12/151230_iraq_ramadi_evacuation
9- بالفيديو، ما عدد المسلحين المحاصرين في تكريت؟، قناة العالم، 10 مارس/آذار 2015،
http://www.alalam.ir/news/1684107
10- قوات الحشد الشعبي تتوقع استعادة تكريت خلال 72 ساعة، قناة الحرة عراق، 14 مارس/آذار 2015،
http://www.alhurra.com/content/tikrit-operations-iraq/267820.html#ixzz3yglrQbXZ
11- خطيب تنظيم الدولة في الموصل: لم نخُضْ حربًا حقيقية في تكريت، شبكة الإعلام الكردية (قناة رووداو)، 3 إبريل/نيسان 2015 (نقلًا عن خطبة الجمعة في أحد مساجد الموصل ألقاها أحد المسؤولين في ديوان الدعوة والمساجد، أبو سعد الأنصاري)،
http://rudaw.net/arabic/middleeast/iraq/0304201520
12- طبقًا لمعلومات حصل عليها الباحث بالتواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع مصادر مقرَّبة من تنظيم الدولة ذكرت أن الانسحاب كان مخطَّطًا له قبل بدء العملية العسكرية وتم العمل به بعد أن تبين للتنظيم جدية التحالف والحكومة في خوض معركة تكريت حتى النهاية، إضافة إلى أن التنظيم لم يقم بوضع خطوط دفاعية موازية لتلك التي وضعها حول مدينتي الفلوجة والموصل فقط.
13- فورين بوليسي: خسائر الحشد الشعبي في تكريت بلغت 6 آلاف قتيل منذ بداية العمليات العسكرية، قناة التغيير الفضائية، 1 إبريل/نيسان 2015، (نقلًا عن مجلة فورين بوليسي الأميركية)،
http://altaghier.tv/2015/04/01/%D9%81%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B3%D9%8A-%D8%AE%D8%B3%D8%A7%D8%A6%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B4%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%83/
14- معركة الأنبار يتهددها الفشل وإمكانية تغير نتيجة المعركة لصالح التنظيم المتطرف في ظل غياب الغطاء الجوي للتحالف الدولي، جريدة العرب، 12 إبريل/نيسان 2015، (العدد 9885 صفحة 3)، (تصريح نائب رئيس مجلس محافظة الأنبار، فالح العيساوي لوكالة الأناضول)،
http://www.alarab.co.uk/?id=49787
15- أميركا ترسل 2000 صاروخ للعراق وتحتفظ بنصفهم في المنطقة، وكالة رويترز، 2 يونيو/حزيران 2015،
http://www.swissinfo.ch/ara/reuters/%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7-%D8%AA%D8%B1%D8%B3%D9%84-2000-%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D9%88%D8%AE-%D9%84%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%88%D8%AA%D8%AD%D8%AA%D9%81%D8%B8-%D8%A8%D9%86%D8%B5%D9%81%D9%87%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82%D8%A9/41464396