الوضع الأيديولوجي (الأوضاع الأيديولوجية) في إيران

الوضع الأيديولوجي (الأوضاع الأيديولوجية) في إيران

الوضع الأيديولوجي (الأوضاع الأيديولوجية) في إيران

“في كانون الثاني/يناير 2016، وبرعاية معهد واشنطن عُقدت ورشة عمل حول التحديات التي تواجه سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والتي تطرحها الاتجاهات الجديدة في الأيديولوجية السياسية. وهذا المرصد السياسي هو جزء من سلسلة من المساهمات الخطية المقدمة من قبل المشاركين”.

يزداد مفهوم الأيديولوجية المُعرَب عنه في دستور جمهورية إيران الإسلامية وضوحاً عند وضعه في المنظور التاريخي.

الخلفية الإقليمية

تعود الفترة موضع الاهتمام هنا إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما انبثق ما يُسمى بعصر الأيديولوجيا في بلدان الشرق الأوسط العربية بعد أن خفتت أضواؤه في دول أوروبا الغربية. وعلى وجه الخصوص، دافع الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر عن القومية العربية التي بلغت ذروتها مع إنشاء الجمهورية العربية المتحدة التي دامت زمناً قصيراً بين 1958 و 1961. وبعد ذلك، حمل حزب البعث في كل من العراق وسوريا لواء القومية العربية.

أما بالنسبة إلى بذور الفكر السياسي الإسلامي، فقد زُرعت من خلال الأعمال الأولى للمفكر الهندي- الباكستاني أبو الأعلى المودودي (1903-1979) الذي واصل تطوير هذه الأفكار سعياً لجعل جمهورية باكستان الإسلامية “دولة أيديولوجية”. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان سيّد قطب المصري (1906-1966) هو من أضفى طابع التطرّف على الأيديولوجيا الإسلامية، حيث كان يعتبر أيديولوجيا القومية العربية التي يناصرها جمال عبد الناصر خاطئةً – ومجرد تقليدٍ لقومية الكفار. ومع ذلك، وفي نهاية المطاف، فإن العقيدة الإسلامية التي صاغها المودودي وسيّد قطب قد نضجت لتتحول إلى “الإسلام السياسي الانتخابي” الذي يجسّده في قرننا هذا كل من جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر وحزب «النهضة» في تونس. وأمام هذه التطورات، يمكن القول على نحوٍ مقنع إنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») يعتبر الإسلاميين الانتخابيين مقلّدين ويرى أنّ مهمته ترمي إلى العودة إلى تقاليد السلفية المحض المناهضة للأيديولوجيات (“السلف الصالح”، أو الأجيال الأولى من المسلمين) الغير ملوّثة بالطائفية أو الأيديولوجيات المستوحاة من الغرب.

المسار الايراني

سلكت أيديولوجيا الدولة في إيران مساراً مختلفاً عما سلكته أيديولوجيات أماكن أخرى من منطقة الشرق الأوسط. فالقومية الإيرانية على وجه الخصوص نشأت خلال “الثورة الدستورية” بين عامي 1906 و 1911، في معارضةٍ لنظام سلالة قاجار الملكية التي بدأت تتدهور في أواخر حكمها، وتبنّاها بالكامل مجدِّدو الدولة في عهد رضا شاه بهلوي (1925- 1941). وعلى الرغم من أنّ قومية رئيس وزراء إيران السابق محمد مصدق (1951- 1952) قد أقلقت الغرب، لم يكن هو وحلفاؤه في حزب «الجبهة الوطنية» الإيراني من دعاة الأيديولوجيا، ونجحت القيادة الإيرانية بقمع حزب «تودة» ونظرته الشيوعية أيضاً. ومن العناصر الثانوية الأخرى التي أدت دوراً، كان حزب «سومكا» الفاشي (أو «حزب العمال القومي الاشتراكي» الإيراني)، علماً أنّ الحزب قد يكون عاد إلى الساحة الآن بفضل استعادة خرائط “إيران الكبرى” التي كانت حوزته على يد القائد السابق لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني محسن رضائي واحتمال استخدامها من قبل جنرالات في «الحرس الثوري». وفي الوقت نفسه، بدأت أيديولوجيا المودودي وقطب تتسلّل إلى إيران من خلال الأعمال المترجمة في أوائل السبعينيات، لكنّها أخذت تخبو أمام الأيديولوجيا الإسلامية الثورية الحداثية والانتقائية التي نشرها علي شريعتي (المفكر الإيراني الإسلامي المتوفى عام 1974). ولم يعتنقْ أتباع روح الله الخميني قائد الثورة الإيرانية اللهجة المعادية للأكليروسية (أي المعادية لرجال الدين) التي نادى بها شريعتي، ومع ذلك، فلم يكن سوى أثناء الثورة الإسلامية عام 1979 ومباشرةً بعدها أن أقام آية الله محمد بهشتي وحسن آية بسرعة أيديولوجيا ملائمة مؤيدة للأكليروسية لتحلّ محلها.

وقد تعرّض تصوّر شريعتي للحداثة الإسلامية لهجوم إضافي من مهدي بازركان، رئيس الوزراء الإيراني المؤقت السابق، بدءاً من أواخر الثمانينيات. وأخيراً أعرب في مقاله الشهير بعنوان Farba-tar az ideolozhy أي “أغنى من الأيديولوجيا”، الذي نُشر عام 1993 في مجلة “كيان” عن رفضه للأيديولوجيا على أنّها مُسيئةٌ عند تطبيقها على الإسلام.

وعلى الرغم من أنّ الأيديولوجيا المؤيدة للأكليروسية أتت متأخرةً بالاستناد إلى فكرة الخميني لـ “ولاية الفقيه” الغير واضحة المعالم، فقد أُدرجت فعلاً في دستور الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك، فمن منظور الأيديولوجيا، إنّ النجاح المعلن للثورة الإيرانية على أنّها الثورة الأولى لأيديولوجيا إسلامية عالمية جديدة مثّل التزاماً بتصدير الثورة إلى الخارج. وصحيح أنّ لهذا الالتزام كانت في البداية نيةٌ قوية بتحقيق وحدة إسلامية. وتُؤكّد ديباجة دستور الجمهورية الإيرانية على هذا الالتزام بمواصلة الثورة في الخارج من أجل إنشاء “أمةٍ موحدة وعالمية من المؤمنين”. إلاّ أنّ محاولة تنفيذ هذا الالتزام سرعان ما أثبتت أنّ الأمر ليس ممكناً سوى في بلدان مثل لبنان من خلال إقامة «حزب الله». وفي المقابل، فشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً في بلدان مثل العراق وأفغانستان وخصوصاً باكستان، حيث أثارت ردود فعل عنيفة طائفية من المسلمين هناك وفي أماكن أخرى على المدى الطويل.

وتَمثّل ردّ الفعل الأكثر ضراوة في ظهور الجهاد العالمي السني بقيادة تنظيم «القاعدة» في التسعينيات، ولاحقاً في بروز تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهما تطوران بددا دور إيران على أنّها الدولة المصدرة للثورة الإسلامية. وأما اليوم، فلا تراود صناع السياسة الخارجية الإيرانية أي أوهام بشأن اعتناق عقيدتهم الإسلامية في الشرق الأوسط، إذ إنّهم يعرفون أنّ صلاحيتها انتهت منذ وقتٍ طويلٍ، وذلك بغض النظر عن مواقفهم المتباينة حول قضايا أخرى.

ونظراً إلى هذا الوعي، يمكن للمرء أن يمضي قدماً نحو تقييم الأوزان النسبية للالتزام الأيديولوجي مقابل الهيمنة الإقليمية على السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية. وبالتالي يتحول الموضوع إلى المرشد الأعلى الحالي آية الله علي خامنئي الذي برزت مساهمته الشخصية في الأيديولوجيا الرسمية للبلاد في حملته التي استهدفت الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي ومفهوم “الغزو الثقافي” الغربي. وفي الآونة الأخيرة، وبينما امتنع في عام 2014 عن تأييد المحادثات النووية صراحةً، انتظر المعارضون المتشددون للصفقة النووية بقيادة صحيفة “كيهان”، عبثاً إشارةً من آية الله حول عودته إلى موقفه السابق. وعندما أتت إشارته أخيراً في أواخر عام 2015، اتخذت شكلاً أكثر ليونةً تمثّل في منع “التغلغل الثقافي الغربي” من مرافقة العقوبات التي تم رفعها. ومع ذلك، كان يُقصد على الأرجح من هذه الخطوة التهدئة الداخلية للمتشددين بعد الاتفاق النووي وأنها لن تؤثر على سياسة إيران الخارجية. وفي الوقت نفسه، يبدو أنّ أهداف السياسة الخارجية للمتشددين تتخذ منحىً جيوسياسياً وليس أيديولوجياً. والأمر نفسه ينطبق بفعالية على الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، على الرغم من أنهما يميلان إلى التأكيد على الهيمنة الإقليمية طويلة الأمد والهدف الأقصر أجلاً المتمثل في إنهاء العقوبات الاقتصادية وعزلة إيران كدولة منبوذة.

خرائط قديمة، وطموحات دائمة

تُبيّن الخرائط التي استعادها قادة «الحرس الثوري» الإيراني على وجه التقريب حدود الامبراطورية الساسانية عشية الفتح الإسلامي في القرن السابع، والتي تقع عاصمتها قطسيفون بالقرب من بغداد، وتشمل الخريطة الساحل الجنوبي للخليج العربي وكذلك اليمن. ويقيناً، فإن نفض الغبار عن هذه الخرائط لم يشِر إلى وجود مصلحة في إعادة إحياء أيديولوجيا حزب « سومكا» بل إلى رغبة في استعادة الهيمنة الإقليمية الإيرانية. وفي نيسان/أبريل 2015، في اليوم الذي سبق إعلان معالم الصفقة النووية في لوزان في سويسرا، قام رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بزيارة مدروسة جيداً إلى وسط مدينة تكريت التي كانت قد تحررت مؤخراً من سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية». وعلى الرغم من النفي غير المقنع الذي أبداه جميع الأطراف، كان كل منهم يعلم أنّ الأسبوع الذي سبق الغارات الجوية الأمريكية كان حاسماً في كسر الحصار.

وبالتراجع قليلاً خطوة إلى الوراء، فإنّ فرض تنظيم «الدولة الإسلامية» سيطرته على ما يُعرف بالمثلث السني أرغم الحكومة الإيرانية على إيفاد الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي»، إلى بغداد في حزيران/يونيو عام 2014، قبل [إرسال] القوات البرية الإيرانية. وينبغي التذكير هنا أنّه في عام 2008، كان سليماني قد اقترح إبرام صفقة مع الولايات المتحدة عن طريق الرئيس العراقي آنذاك، ممثل الأكراد جلال طالباني، متجاوزاً تماماً رئيس الوزراء العراقي وحكومته. وفي أيلول/سبتمبر 2014، وتحديداً يوم وصول الرئيس روحاني إلى نيويورك، شنّت الولايات المتحدة غارتها الجوية الأولى على سوريا، مستهدفةً معسكر تدريبي لـ «جماعة خراسان» التابعة لتنظيم «القاعدة» والتي أعلن مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية أنّها تشكّل خطراً أكبر للأمن الداخلي من تنظيم «الدولة الإسلامية». وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد حددت هوية زعيم الجماعة في عام 2012 على أنّه عضوٌ في تنظيم «القاعدة» كان قد مُنح اللجوء في طهران بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان فضلاً عن كونه مدير عمليات التنظيم من إيران. وبالتالي، ليس هناك أدنى شك في أنّ «فيلق القدس» أعطى قادة الولايات المتحدة في العراق معلومات قيمة حول «جماعة خراسان» لكي تشن واشنطن غاراتها في سوريا.

استيعاب الواقع

بشكلٍ أكثر شمولاً، يفهم صنّاع القرار في إيران، بمن فيهم آية الله خامنئي، بوضوح فشل جهودهم في تصدير الثورة الإسلامية، وبشطل صارخ في العراق حيث خسروا الحرب أمام صدام حسين، وفي باكستان حيث كان للعنف الطائفي أثراً مدمراً بصورة خاصة على الطائفة الشيعية. ويدركون أيضاً أنّ مكاسب إيران في السياسة الإقليمية لا تُعزى بتاتاً إلى تصدير الثورة بل بصورة كاملة إلى سقوط عدوّيها المجاورين الرئيسيين هما صدام حسين في العراق و”طالبان” في أفغانستان. ويعلمون أيضاً أنّهم خلعوا العباءة الإسلامية الثورية – أولاً أمام الجهاد العالمي لـ تنظيم «القاعدة»، والآن أمام ما يُعرف بخلافة «الدولة الإسلامية». وخلافاً لذلك، تشرح المصلحة الوطنية والواقعية السياسية، باقتدار السياسة الخارجية الإيرانية بعد الثورة، بدءً من محاولتها إنهاء العزلة الدبلوماسية للبلاد وإلى دعمها لنظام الأسد ضد الإسلاميين السنة، وللحوثيين الزيدية ضد تنظيم «القاعدة» في اليمن.

سعيد أمير أرجوماند

معهد واشنطن

معهد واشنطن