نماذج متعارضة: اتجاهات العلاقات الإسلامية- العسكرية في الإقليم

نماذج متعارضة: اتجاهات العلاقات الإسلامية- العسكرية في الإقليم

4383

على الرغم من مرور خمس سنوات على عمليات الانتقال السياسي والتغيير عقب الثورات العربية؛ لا تزال العلاقاتُ بين الإسلاميين والمؤسسات العسكرية تُثير جدلا متصاعدًا في دول الإقليم، في ظل التفاوت والاختلاف بين نماذج التفاعلات بين الطرفين في تلك الدول، وثبات سعى التيارات الإسلامية في توظيف الدين للهيمنة على السلطة، سواء بالتحالف مع بعض نظم الحكم، مثل حالة السودان، أو بدعم اتجاهات الانقسام والانفصال والتفكك والصراع مع مؤسسات الدولة، وفي صدارتها المؤسسة العسكرية، مثل حالات ليبيا واليمن وتركيا والجزائر.

تحولات جوهرية:

شهدت بعض دول الإقليم في الآونة الأخيرة تحولات جوهرية في مسار العلاقات بين المؤسسات العسكرية والتيارات الإسلامية؛ حيث عادت “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” في الجزائر للمطالبة بمحاكمة قيادات الجيش في 11 يناير 2016 بدعوى وقوفهم حائلا دون وصولها للسلطة منذ 24 عامًا، وتوازى ذلك مع تعزيز الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة سيطرته على الأجهزة الأمنية بإصدار قرار يقضي بحل جهاز الاستخبارات الأمنية، وتأسيس “مديرية المصالح الأمنية” التي تضم كافة أجهزة الأمن والاستخبارات، وتتبع الرئاسة مباشرة، وهو ما سبقه إقالة عدد كبير من القيادات الاستخباراتية وفي صدارتهم اللواء محمد مدين الشهير بـ”الجنرال توفيق” الذي تمت إقالته في منتصف سبتمبر 2015.

ولا ينفصل ذلك عن صدور حكم بالسجن لمدة خمس سنوات على عبد القادر آيت واعرابي الملقب بـ”الجنرال حسان” القائد السابق لفرع مكافحة الإرهاب بالاستخبارات الجزائرية في نوفمبر 2015 في اتهامات بتسليح بعض الفصائل المسلحة في منطقة الصحراء لاختراق التنظيمات الإرهابية في المناطق الحدودية من شمال مالي، كما صدر حكم بالسجن بحق الجنرال حسين بن حديد بسبب تصريحات انتقد فيها سياسات بوتفليقة داعيًا الجيش للتدخل لإنقاذ الدولة في إطار بعض المواقف المعارضة لترشح بوتفليقة للولاية الرئاسية الرابعة من جانب بعض قيادات أجهزة الأمن والاستخبارات.

في المقابل، شهدت تركيا بداية محاكمة القيادي الديني فتح الله كولن و68 آخرين من المنتمين لحركة “الخدمة” التي يتزعمها كولن في 8 يناير 2016، حيث تواجه الحركة اتهامات بالتآمر وتشكيل وإدارة تنظيم إرهابي مسلح، والحصول على أسرار الدولة بغرض التجسس السياسي والعسكري، ومحاولة الإطاحة بحكومة الجمهورية التركية، أو عرقلة قيامها بمهامها، وانتهاك سرية الحياة الخاصة، وتسجيل بيانات شخصية بشكل مخالف للقوانين، وتزوير وثائق رسمية، وتلفيق تهم، وكشف معلومات سرية متعلقة بأمن الدولومن بين المتهمين بالانتماء لحركة كولن عددٌ كبيرٌ من القيادات الأمنية والعسكرية والإدارية يتصدرهم يورط أطايون المدير السابق لشعبة مكافحة الإرهاب بمديرية أمن إسطنبول، وهو ما دفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نقل وإقالة أكثر من 2000 من قيادات الشرطة أغلبهم ينتمون لأقسام التحقيقات والمخابرات، وإقالة 96 من القضاة ومدعي العموم بدعوى انتمائهم لتنظيم كولن، كما اعتقلت السلطات التركية عددًا من الصحفيين والقيادات الإعلامية منذ عام 2014، من أبرزهم بولنت كينيس رئيس تحرير صحيفة “زمان” التركية الأكثر توزيعًا وكولتكين أوجي الكاتب بصحيفة “بوجون” التركية، بالإضافة إلى وضع عددٍ من الشركات والمدارس التابعة للحركة تحت الحراسة من بينها مجموعة شركات “كوزايبيك”.

وفي ليبيا، لم ينتهِ تشكيلُ الحكومة التوافقية بقيادة فايز السراج بسبب عدم التوافق بين مختلف الأطراف الليبية على من يشغل وزارة الدفاع، ورفض الإسلاميين تولي اللواء خليفة حفتر لهذا المنصب؛ حيث أصدر مجلسُ النواب الليبي المعترف به دوليًّا في طبرق قرارًا في 9 فبراير 2016 بتمديد مهلة تشكيل حكومة الوفاق الوطني بسبب الخلافات حول بعض الوزارات السيادية في ظل تمسك بعض أعضاء مجلس النواب والعسكريين بتولي اللواء حفتر وزارة الدفاع، وترشيح المعارضة بعض الشخصيات البديلة مثل السفير عبد الباسط البدري، وقائد الكتيبة “204” للدبابات مهدي البرغثي. في المقابل، تعرض الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر لانشقاق بعض العناصر، وفي مقدمتهم المتحدث باسم عملية “كرامة ليبيا” محمد الحجازي في 21 يناير 2016 في إطار محاولات الاختراق والتفكيك المتبادل.

 أما اليمن، فلا تزال مواقف حزب “التجمع اليمني للإصلاح” التابع لجماعة الإخوان المسلمين غير واضحة فيما يتعلق بدعم شرعية حكم الرئيس عبدربه منصور هادي في مواجهة الحوثيين، فعلى الرغم من أن المواقف المعلنة للحزب تدعي دعم قوات التحالف والمقاومة الشعبية في مواجهة الحوثيين وقوات علي عبدالله صالح؛ إلا أن المنتمين للحزب يواجهون اتهامات بالاتفاق مع الحوثيين ضد الرئيس هادي، خاصةً عقب عدم مشاركة القيادي بالإخوان حمود المخلافي في تحرير تعز، وفق بعض المصادر، وإفراج الحوثيين في 15 يناير 2016 عن 4 قيادات تابعين للحزب، وهو ما فسره بعض المتخصصين في الشئون اليمنية بوجود توافقات ضمنية بين الحوثيين وبعض الفصائل التابعة للحزب، خاصةً في ظل الاتهامات للفرق العسكرية التي كان يتصدرها بعض القيادات العسكرية الموالية للإخوان المسلمين في اليمن بتسليم المواقع العسكرية دون مقاومة للحوثيين، والانسحاب من المناطق المحصنة، وهو ما أدى إلى تسهيل هيمنة الحوثيين على العاصمة صنعاء.

أنماط العلاقات:

 يكشف تتبع التحولات سالفة الذكر عن مدى اختلاف أنماط العلاقات العسكرية- الإسلامية ما بين دول الإقليم، وتتمثل أهم هذه الأنماط فيما يلي:

1- تحالفات السلطة: يُمثل نظام الرئيس السوداني عمر البشير نموذجًا للتحالف بين التيارات الإسلامية والعسكريين لدعم بقاء نظام الحكم في السلطة؛ إذ يستند بقاء نظام البشير على تحالف مصلحي ثلاثي بين الحركة الإسلامية السودانية وحزب “المؤتمر الوطني” والمؤسسة العسكرية، وتمكن البشير من الاعتماد على هذا التحالف في التصدي لموجات الحراك الاحتجاجي العنيف في السودان، ومحاولات الإطاحة بنظام الحكم، والتي كان أبرزها المحاولة التي نفذت في نوفمبر 2012، وتورط فيها قائد الحرس الجمهوري الأسبق العميد محمد إبراهيم عبد الجليل، وقائد القوات المشتركة السودانية التشادية العقيد فتح الرحيم عبدالله، وعدد من القيادات الوسطى في جهاز الأمن والمخابرات.

2- التوظيف السياسي: اعتمدت باكستان في إدارة الصراع على إقليم كشمير مع الهند على بعض الجماعات الإسلامية التي قامت بتنفيذ عمليات عسكرية في الشطر الهندي من الإقليم، كأحد أنماط الحروب بالوكالة، فضلا عن تاريخ الارتباط الوثيق بين بعض المؤسسات الأمنية والاستخباراتية الباكستانية وحركة “طالبان” على الحدود الأفغانية الباكستانية.

وفي هذا الصدد، كشفت هيئة الاستخبارات الداخلية الباكستانية في أغسطس 2015 عن قيام قيادات بهيئة قاعدة البيانات والسجل الوطني بإصدار آلاف بطاقات الهوية المزيفة لعددٍ كبيرٍ من قيادات الجماعات الإرهابية مثل غفار الطيار القيادي بتنظيم “القاعدة” المدرج اسمه على قائمة المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي (إف بي آي)، وسيد طيب أغا الرئيس السابق لمكتب التمثيل السياسي لحركة “طالبان” الأفغانية في قطر.

وفي السياق ذاته، كشفت التحقيقات التي أفضت إلى قتل القيادي بتنظيم “القاعدة” عمر لطيف في إقليم البنجاب في أغسطس 2015 عن وجود شبكة تضم عناصر أمنية واستخباراتية لتسهيلات السفر والإقامة لكوادر تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” في إقليمي بلوشستان والبنجاب، ويرتبط ذلك بتمكن الملا أحمد لوضيانفي زعيم جماعة “أهل السنة والجماعة” المدرجة على لائحة باكستان للجماعات الإرهابية من الفوز بالانتخابات المحلية في إقليم البنجاب في أبريل 2014، وهو ما يؤكد مدى تغلغل قيادات وكوادر التنظيمات الراديكالية في المجتمع الباكستاني.

3- الانقسام الداخلي: قد يؤدي التفاعل بين المؤسسات العسكرية والتيارات الإسلامية إلى حدوث انشقاقات داخلية في أيهما نتيجة محاولات التغلغل المتبادل، خاصةً في الدول التي تشهد صراعات أهلية ممتدة، ولا تتمتع ببنية مؤسسية راسخة. ففي اليمن لم يتمكن الرئيس عبد ربه منصور هادي من تجاوز الانقسامات داخل المؤسسة العسكرية بين الفرقة الأولى المدرعة بقيادة اللواء علي محسن الأحمر الذي ينتمي لحزب “التجمع اليمني للإصلاح” والحرس الجمهوري بقيادة نجل الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح، حيث تسبب العداء بينهما في تأجيج الصراع الداخلي، مع قيام الحوثيين بالتمدد في مناطق القبائل التي كان يفترض أن تقوم بحمايتها الفرق العسكرية التابعة لعلي محسن الأحمر.

وفي السياق ذاته، أدت الصراعات الأهلية في ليبيا إلى تفكيك بنية المؤسسة العسكرية، وتحويلها إلى ميليشيات متصارعة تخضع للولاءات الأولية الدينية والمذهبية والقبلية، مثل تجمع “سرايا ثوار ليبيا”، و”كتيبة شهداء 17 فبراير”، و”كتيبة شهداء أبو سليم”، التي بدأت في الاندماج مناطقيًّا إلى أن اندمج بعضها في قوات الجيش الليبي في إطار عملية “كرامة ليبيا” في مواجهة ميليشيات “فجر ليبيا” التي تقودها التيارات الدينية و”الجماعة الليبية المقاتلة”؛ إلا أن الانقسامات أصابت الجيش الليبي بإعلان المتحدث باسم قوات عملية “كرامة ليبيا” محمد الحجازي في 21 يناير 2016 انشقاقه متهمًا قائدها خليفة حفتر بـ”تقسيم المقسم”، وخلقِ شرخ اجتماعي، وإدخال المؤسسة العسكرية في المساومات السياسية.

4- الاختراق المؤسسي: تأسست العلاقةُ بين حزب “العدالة والتنمية” في تركيا والمؤسسة العسكرية على حالة من انعدام الثقة في ظل سعى حزب “العدالة والتنمية” للتغلغل في المؤسسة العسكرية واختراقها، وهو ما تجلى في إقصاء عدد كبير من القيادات العسكرية، وتصعيد القيادات الموالية للحزب، وفي هذا الصدد جاء إصدار القضاء التركي في مارس 2015 حكمًا ببراءة جميع المتهمين بتدبير مؤامرة لإسقاط حكم حزب “العدالة والتنمية” وعددهم 236 ضابطًا بالمؤسسة العسكرية ليؤكد قيام بعض عناصر الحزب بتلفيق القضية المعروفة بـ”مؤامرة أرجنكون” أو “المطرقة” التي تضمنت توجيه اتهامات لقيادات عسكرية بمحاولة الإطاحة بحكم حزب “العدالة والتنمية”.

وفي مواجهة ضغوط المؤسسة العسكرية بالكشف عن المتورطين في تلفيق الاتهامات لقيادات الجيش، أكدت بعض عناصر حزب “العدالة والتنمية” أن حركة “الخدمة” التابعة للقيادي الديني فتح الله كولن هي المسئولة عن هذه العملية، حيث استغلت الحركة وجود عدد كبير من أتباعها في مؤسسات الشرطة والقضاء لتدبير هذه القضية لدعم حزب “العدالة والتنمية” وأردوغان في مواجهة المؤسسة العسكرية في إطار التحالف العضوي بين حركة “الخدمة” والحزب قبل حدوث الانشقاق الأخير بينهما.

5- الإقصاء الشعبي: خرجت التيارات الإسلامية في بعض الدول العربية من السلطة، بعد ظهور توافق شعبي عام على ضرورة حدوث ذلك، وهو ما يتجلى في الحالة التونسية، حيث تسبب الضغط الشعبي والاستحقاقات الانتخابية في الإطاحة بحركة “النهضة” من صدارة المشهد السياسي وإن ظلت ضمن معادلات السلطة من خلال 69 نائبًا بمجلس نواب الشعب التونسي تابعين للحركة بنسبة 31.7% من إجمالي المقاعد، فضلا عن المشاركة بأربعة مقاعد وزارية في الائتلاف الحاكم بقيادة الحبيب الصيد. وفي السياق ذاته، كان سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر تعبيرًا عن وجود توافق شعبي عام على عدم استمرارهم في السلطة عقب سعيهم لاختراق مؤسسات الدولة والهيمنة على المجتمع، واستخدام السلاح في مواجهة المعارضين.

وإجمالا، من المرجح أن تستمر تعقيدات العلاقات بين المؤسسات العسكرية والتيارات الدينية في الإقليم كأحد أهم مكامن تحقيق الاستقرار وإتمام عمليات الانتقال السياسي في ظل استمرار التناقضات في التوجهات بين التيارات الدينية الساعية للهيمنة على الدولة والمجتمع والمؤسسات العسكرية التي عادةً ما يترسخ في عقيدتها الحفاظ على مؤسسات الدولة من الاختراق، والتصدي للتوظيف السياسي للدين في إطار التنافس على السلطة، وهو ما يؤدي للصدامات المتتالية في إطار اتجاهات الاحتواء والاختراق المتبادل، خاصة في الدول الأقل رسوخًا ومؤسسية في الإقليم.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية