ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في مطلع التسعينيات شبكة من الأراضي غير المعترف بها في ما يسميه الروس “الخارج القريب”، وتشمل “ترانسنيستريا” في مولدافيا وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، كما وشملت أخيراً “جمهورية دونيتسك” في أوكرانيا. وعلى اختلاف الملابسات الأولية، فإنّ هذه المناطق المتنازع عليها باتت بمثابة أداة مهمة في السياسة الخارجيّة الروسية. وعلاوة على ذلك، روسيا مستعدّة ولا تتردد في استخدام القوة لصيانة مصالحها في دول الجوار، حيث شهدنا ذلك في أثناء التدخّل الروسي العسكري في كل من جورجيا (2008) وأوكرانيا (2014). وحاليا تنتهز روسيا فرصة استغلال الفوضى في العراق وسورية، وطموحات الأكراد في الحكم الذاتي في هذه الدول.
ولا حاجة إلى البيان أنّ هذا الوضع قد أقلق تركيا التي شهدت تصاعد أعمال عنف جديدة في العام الماضي في جنوب شرق البلاد بين قوات الأمن ومتمرّدين من حزب العمّال الكردستاني. ويدعي الأكراد في منطقة ديار بكر أنّ ناشطين شباباً عديدين أُرغِموا على حمل السلاح مرّة أخرى، بعد سلسلة من الاعتقالات التي لا مبرِّر لها والترهيب من القوميين الأتراك، وذلك بعد هدنة استمرّت سنين. وفوق هذا كلّه، زادت التفجيرات الأخيرة في العاصمة أنقرة التوتّر بين الأتراك والأقلية الكردية التي تشكّل نحو عشرين بالمائة من عدد السكّان في البلد.
وبينما تحاول تركيا التعامل مع الاشتباكات الجديدة، زادت روسيا دعمها الأكراد في البلدان المجاورة. فقد زوّدت الأكراد في العراق بخمسة مدافع مضادة للطائرات والذخائرة اللازمة لها. وهذه الخطوة تواجه، وبشكل مباشر، أنقرة التي نفذت غارات جويّة ضدّ مسلحي حزب العمّال الكردستاني في الأراضي التي تسيطر عليها قوّات البشمركة الكردية في العراق.
وعلاوة على ذلك، فإنّ روسيا من الأنصار الشديدين للقضية الكردية في شمال سورية. وأصبح من الواضح أن الضربات الجوية الروسية لم تساعد قوّات النظام السوري للمضي أمام المعارضة السورية فحسب، بل وفرضت الهيمنة الكردية بمحاذاة الحدود مع تركيا. وقد تعزّز التعاون بين الأكراد السوريين والروس، إذ افتتح الأكراد مكتب بعثة لهم في موسكو في شباط/فبراير الماضي. ولربما كانت تلك الخطوة الأخيرة الأكثر إثارةً لغضب أنقرة هي أنّ الأكراد أعلنوا قيام نظام فدرالي في ثلاث من المناطق الخاضعة لسيطرتهم ذات الأغلبيّة الكردية والمعروفة باسم روج آفا. ولأسباب لا تخفى على أحد تقلق الحكومة التركية من الحكم الذاتي الكردي في سوريا الذي قد يسبب المزيد من عدم الاستقرار في الجزء الجنوبي الشرقي من البلاد فبالتالي تبرر الإجراءات العلنية الروسية مخاوف أنقرة.
صرّح المؤرخ الروسيّ يوري فيلشتينسكي أنّ الحرب التركية ضدّ الأكراد ستكون لها نتائج خطيرة متنبئاً بلهجة كئيبة: “تركيا بصفتها دولة علمانية سوف تزول من الوجود”. وأردف إن عدم الاستقرار المقبل قد يهدد كلا من عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، وكذلك ترشحها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما يبدو أنه الهدف الحقيقي لفلاديمير بوتين. ومع ذلك، فإنّ فكرة زعزعة استقرار تركيا بواسطة الأكراد في المنطقة ليست جديدة. فقد طرح هذه الفكرة بالفعل منذ نحو عقدين المفكّر اليميني البارز ألكسندر دوغين، حيث أثّرت أفكاره تأثيراً شديداً على خطة الكرملين للسياسة الخارجيّة، فيدعو في كتابه أصول الجغرافيا السياسية (1997) إلى “إثارة الصدمات الجيوسياسية” داخل تركيا من خلال استغلال العلاقات العرقية الأريوسية مع الأرمن والأكراد.
وعلى الرغم من هذا التعاون الذي لا يزال يزداد تعمّقاً، بادرت روسيا مشروعها الجديد بثبات. ومن المثير للاهتمام غياب كبار المسؤولين الروس من حفل افتتاح مكتب التمثيل الكردي في موسكو، إلّا أنّ ممّن حضر هذه المناسبة ممثلو دول منشقّة أخرى، تموّلها وتسوسها موسكو. فممّن قدّم تهنئته للمسؤولين الأكراد ممثلون من أستونيا الجنوبية وأبخازيا وجمهورية دونيتسك.
يرتبط النهج الروسيّ الحذر بأمرين، أوّلهما أن هناك مصالح اقتصادية ضخمة، معرّضة للخطر فطوال السنوات الخمس عشرة الماضية، اتّسمت العلاقات بين روسيا وتركيا بالتقدّم النسبي والتعاون المتبادل. أما حالياً فإن خمس واردات الطاقة التركية تأتي من روسيا. وفضلاً عن ذلك فروسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، كما أنها بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات عليها تتعلّق بالأزمة الأوكرانيّة ازداد حجم التجارة بين روسيا وتركيا.
أما المسألة الثانية فهي الامتداد المحتمل لعدم الاستقرار إلى منطقة القوقاز. ولا يجوز تناول استئناف وتيرة التوتّر في إقليم مرتفعات قرة باغ بين أذربيجان وأرمينيا، بمعزل عن الانفصال المتزايد بين روسيا وتركيا، وهي منطقة أخرى متنازع عليها، برزت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. فتتخذ روسيا خطوات موزونة بدقّة تجاه الأكراد في سورية، من أجل الحفاظ على الاستقرار في منطقة شمال القوقاز، وخصوصاً في الشيشان وداغستان.
وباعتبار أن روسيا لا تزال تحسب أن الغرب يشكّل تهديداً لأمنها الوطني، وتعتبر توسّع “الناتو ” خطراً رئيساً لاستقرار البلد فيحلّل خبراء الأمن الروس السيناريوهات المحتملة التي تتعلّق بالهجوم الغربي على روسيا بجدّية. وينظر الروس إلى دعم الناتو العسكري الدول المجاورة في شرق أوروبا على أنّه ردّ الفعل الطبيعي للولايات المتحدة على دور روسيا المتزايد في مجال العلاقات الدولية.
وفي سياق المواجهة الحالية، أصبح واضحاً أن الدعم الروسي للأكراد في سورية والعراق سوف يزداد على المدى الطويل، بهدف تفكيك وحدة الناتو. فقد اختلفت أنقرة وواشنطن بمقاربتيهما المتضاربتين تجاه الأكراد في حين تقاتلان المتطرّفين. أوقف التدخّل الروسي في جورجيا وأوكرانيا التوسّع المتوقع لحلف شمال الأطلسي إلى هذه البلدان بشكل فعال أما استغلال الطموحات الكردية فهدفه فكّ التحالف. وفي هذه الظروف وبالطريقة نفسها، قد ينطبق ذلك على الدولة السورية أيضاً.