منذ استيلائه على السلطة في انقلاب أبيض في العام 1994، ترأس يحيى جامع أسوأ دكتاتورية لم تسمع بها أبداً. فالرئيس الغامبي الغريب الأطوار والذي يمارس طقوساً في السحر والشعوذة، ويدَّعي أنه يستطيع أن يشفي كل مرض، بدءاً من نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” إلى العقم بواسطة علاج عشبي، يحكم دولته الغرب أفريقية بمزيج من الخرافة والخوف. ويشكل التعذيب الذي تقره الدولة وحالات الاختفاء القسري والاعدامات التعسفية، مجرد قلة من التكتيكات المفضلة التي توظفها أجهزته الأمنية والمخابراتية سيئة الصيت.
في الأماكن الأخرى من أفريقيا، نعى المنافحون عن الحقوق الإنسانية طاعون “الفترة الرئاسية الثالثة”، حيث يعمد المزيد والمزيد من القادة إلى إزالة الحدود الدستورية من أجل التشبث بالسلطة. لكن جامع ربما يتجه في غامبيا نحو فترة رئاسية خامسة في الانتخابات المقبلة المقررة في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وسوف يحصل ذلك، بطبيعة الحال، ما لم تتحول موجة الاحتجاجات غير المسبوقة التي انفجرت في أواسط شهر نيسان (أبريل) إلى ثورة شعبية عارمة.
كان التوتر يتصاعد ويتراكم ببطء في غامبيا منذ أعوام، لأسباب ليس أقلها البيئة الأمنية القمعية والفساد واسع النطاق، ونقص الغذاء المزمن والاقتصاد سيء الإدارة على نحو رهيب.
تحتل غامبيا المركز الأخير في غرب أفريقيا من حيث حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، لتكون بذلك البلد الوحيد الذي يعيش تراجعاً منذ العام 1994. لكن الرئيس جامع نجح على الأغلب في لجم مشاعر الاستياء، فيما يعود في جزء منه إلى قانون التعويض في غامبيا -الذي وقعه الرئيس في العام 2001- بمناسبة حادث في العام السابق حين أطلقت القوات الأمنية النار على مجموعة من الطلبة المحتجين. وفي المجمل، قتل في الحادثة 14 شخصاً في رابعة النهار. وأعطى القانون الجديد اللرئيس صلاحيات كاسحة لمنع محاكمة عناصر القوات الأمنية بسبب إخماد “التجمعات غير القانونية”.
يوم 14 نيسان (أبريل)، تفجرت مشاعر الإحباط والحنق المتراكمة منذ وقت طويل بشكل حتمي. وخرج العشرات من الغامبيين بشجاعة إلى الشوارع في ذلك اليوم للمطالبة بإجراء إصلاحات انتخابية قبل انتخابات كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وعلى نحو غير مفاجئ، تصدت شرطة مكافحة التابعة لجامع للتظاهرات، وهاجمت المحتجين وأطلقت قنابل الغاز المسيل للدموع لتفريق الحشود التي كانت قد تجمعت في ضاحية محاذية للبحر في العاصمة، بانجول.
وكان هذا الرد الأولي من النظام على الاحتجاجات مكبوحاً إلى حد كبير عند مقارنته بتطورات مشابهة حدثت في الماضي في غامبيا. لكن المواطنين احتشدوا مرة أخرى بعد يومين، يوم 16 نيسان (أبريل) ليقيموا أكبر وأكثر أجراءات التمرد استدامة ضد جامع منذ استيلائه على السلطة قبل أكثر من عقدين. وهذه المرة، ردت الشرطة المهزوزة بقوة أكبر، حيث استخدمت الذخيرة الحية ضد المتظاهرين وهاجمت الناس في الشوارع. وبالإجمال، ذكر أنه تم اعتقال 55 شخصاً، العديد منهم عذبوا بوحشية داخل المعتقل.
لعل الأكثر إثارة للصدمة هو أن سولو ساندنغ، قائد جناح الشباب في حركة المعارضة الرئيسية في غامبيا، الحزب الديمقراطي الموحد، تعرض للتعذيب حتى الموت اثناء فترة الاحتجاز، وفق ما زعم. وبعد شيوع أخبار وفاة ساندنغ، حشد الحزب الديمقراطي الموحد مؤيديه مرة أخرى وساروا بشكل سلمي في العاصمة للمطالبة بالاستجابة لمطالبهم. ومرة أخرى، هرعت شرطة مكافحة الشغب إلى المكان واعتقلت أوساينو داربو، الأمين العام للحزب الديمقراطي الموحد. ووفق نشرة صحفية للحزب صدرت مساء 16 نيسان (أبريل) فإنه تم اعتقال أكثر من دزينتين من أعضاء الحزب، بينما قتل ثلاثة آخرون بمن فيهم ساندنغ. ووجهت إلى العديد منهم تهمة “التجمع غير القانوني” بين جرائم أخرى، لكن الحزب قال إنه سينظم المزيد من المظاهرات في الأيام المقبلة.
ودان الأمين العام للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ووزارة الخارجية الأميركية كلهم الرد العنيف للحكومة الغامبية على الاحتجاجات السلمية، وطالبت وزارة الخارجية الأميركية الحكومة الغامبية بممارسة ضبط النفس والهدوء. ولكن، إذا مضى الحزب الديمقراطي الموحد قدماً بخططه لتنظيم المزيد من الاحتجاجات، فستكون هناك خطورة في أن ترد حكومة جامع القلقة بمزيد من القوة المميتة. وفي الحقيقة، هدد الرئيس أصلاً بأن “المحتجين لن ينجوا” وأنحى باللائمة على البلدان الغربية، متهماً إياها بالتحريض على إثارة القلاقل.
ولذلك، يجب على الولايات المتحدة التحرك إلى ما هو أبعد من الخطاب السياسي ومعاقبة نظام جامع على سجله الواضح من الانتهاكات. ويجب عليها فرض قيود السفر على الأشخاص المتورطين في الإساءة لحقوق الإنسان، وتجميد أصول جامع وأفراد عائلته وأعضاء دائرته الداخلية في الولايات المتحدة. ومن المؤكد أن عزبة مسكن جامع المترف في بوتوماك بولاية ميريلاند، والذي تبلغ قيمته نحو 3.5 مليون دولار، ستكون مكاناً جيداً للاستهلال به.
يعود جزء من السبب في توتر حكومة جامع إلى أنها كانت قد أحبطت محاولة انقلاب قبل عامين. وفي كانون الأول (ديسمبر) من العام 2014، شنت مجموعة غير متوقعة من أفراد الشتات -بمن فيهم اثنان من المتقاعدين من الجيش الأميركي ورجل أعمال من مينيسوتا- هجوماً على القصر الرئاسي بينما كان جامع خارج البلاد. لكن الانقلاب فشل، ورد النظام بغضب وحكم على ثمانية من المخططين المزعومين للانقلاب بالإعدام، وسجن بشكل عشوائي عشرات الغامبيين الذين شك بأنهم مرتبطون بالانقلابيين، بعضهم بعمر 84 عاماً وبعضهم لا تتعدى أعمارهم 14 عاماً.
واستدعت الحملة توبيخات قاسية من ناشطي حقوق الإنسان، لكنه تكشف لاحقاً أن الولايات المتحدة ربما كانت قد أبلغت الحكومة الغامبية سراً بأن ثمة انقلاباً كان قيد الإعداد والتنفيذ. ووفق صحيفة “الواشنطن بوست”، كان مكتب التحقيقات الفيدرالي “(أف. بي. آي) يرصد بعض اتصالات المخططين المتآمرين، وتولت وزارة الخارجية الأميركية إبلاغ دولة غرب أفريقية أخرى بأن أحدهم قد غادر الولايات المتحدة، بهدف التعرض له واحتجازه. وعلى الرغم من سجل جامع البشع في حقوق الإنسان، امتنعت الحكومة الأميركية بشكل عام عن التحدث ضده طوال السنوات. (تجدر الإشارة إلى أن القائد الغامبي استقبل في البيت الأبيض في آب (أغسطس) من العام 2014 عندما حضر أول قمة تعقد للقادة الأميركيين والأفارقة).
لكن وجهت الإدانات على جامع في الحقيقة بعد أشهر من محاولة الانقلاب ضده، عندما وقع قانوناً قاسياً ضد المثليين كجزء من إعادة هيكلة قانون العقوبات في البلد. وقد رد الاتحاد الأوروبي عبر تعليق مساعدات بقيمة 186 مليون دولار، بينما جعلت الولايات المتحدة غامبيا غير مؤهلة لقانون النمو الإفريقي والفرصة، برنامج التفضيل التجاري الذي ينص على معاملة الإفاء من الضريبة للواردات الأميركية من دول شبه الصحراء الأفريقية، وهو ما جعل غامبيا -بعد سوازيلاند وجنوب السودان- تفقد الأهلية بسبب سجلها المخيب في حقوق الإنسان.
جعلت العزلة الدولية الرئيس جامع أكثر ضعفاً في الوطن. فقبل احتجاجات أواسط نيسان (أبريل)، كانت المعارضة السياسية المتشظية في غامبيا قد شرعت في لم تشكيل جبهة موحدة، جامعة صناع قرار من الصفوة من مختلف الأحزاب لوضع أجندة مشتركة: تحديداً الإطاحة بجامع في الانتخابات الرئاسية في كانون الأول (ديسمبر).
ولكن، وحتى لو عملت المعارضة معاً، فإنها ستكون بصدد خوض معركة قاسية ضد ماكينة جامع السياسية غير الرحيمة. وكان ترهيب الحكومة للمعارضة خلال انتخابات العام 2011 فاضحاً لدرجة أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا رفضت إرسال مراقبين -في إجراء غير مسبوق لتلك الكتلة الإقليمية. وهو ما يفسر السبب في في أن على المانحين الدوليين، والولايات المتحدة بشكل خاص، أن يستثمروا في الحركة الموحدة المؤيدة للديمقراطية، وإعطاء إشارة لجامع بأنه لن يتم التسامح مع جرائم حكومته الوحشية والمتواصلة بعد الآن.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد