في بداية شهر مايو عام 2012، بعد مرور سبعة شهور على إعلان الإدارة الأميركية أنها بصدد إنشاء “محور” جديد في السياسة الخارجية الأميركية باتجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ، قامت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك هيلاري كلينتون بزيارة إلى الهند. كانت النقاشات التي دارت بين كلينتون ومسؤولين كبار في مدينتي نيودلهي وكالكتا شرقي الهند حول مخاوف الهنود تجاه مبيعات النفط والتجارة في المنطقة.
أثارت الزيارة اهتمام العديد من المراقبين، من بينهم وولتر ميد الأكاديمي ورئيس تحرير مجلة “لارج فور ذا أميركان انترست”، وهي مجلة متخصصة في شؤون السياسة الخارجية. كتب ميد مقالا بعنوان “الاستراتيجية الكبيرة للإدارة في آسيا” قال فيه إن “زيارة كلينتون إلى الهند هي أحد مفاتيح برنامج يطبق على نطاق واسع. منذ أن أعلن الرئيس باراك أوباما ‘المحور باتجاه آسيا’، وأكدت كلينتون أن هذا هو ‘قرن الولايات المتحدة في المحيط الهادئ’.. سياسة واشنطن في آسيا مازالت تطلق النار في جميع الاتجاهات”.
قرأ جاكوب سوليفان، نائب رئيس موظفي كلينتون في وزارة الخارجية، الذي صار لاحقا كبير مستشاري السياسة الخارجية في حملتها الرئاسية، فقرر إرسال المقال لها، وعلق عليه قائلا “هذا مقال رائع، الرحلة إلى الهند كانت موفقة جدا”. ووفقا لمجلة “ذا ديبلومات” (الدبلوماسي)، سرعان ما تلقى سوليفان ردا قصيرا من كلينتون على بريده الإلكتروني كان نصه “ذكرني، ألم نكن نحن، وليس البيت الأبيض، من استخدم مصطلح ‘المحور’ أولا؟”.
في خضم الاندفاع الأميركي تجاه آسيا، كانت إدارة أوباما تخطط للانسحاب من العراق، ومن منطقة الشرق الأوسط بأسرها. يقول دبلوماسيون إن سياسة الرئيس أوباما كانت واضحة منذ بدايتها بأن منطقة آسيا والمحيط الهادئ ستكون هي الأولوية، عندما لقب نفسه بـ”أول رئيس في المحيط الهادئ”.
كان ذلك خلال خطاب ألقاه في العاصمة اليابانية طوكيو عام 2009، قال فيه إن “أيام التخاذل الأميركي تجاه المؤسسات الإقليمية الآسيوية متعددة الأطراف قد ولت”. لكن لم يكن سوى كلينتون من دفع بمصطلح “المحور” تجاه آسيا. وذكرت كلينتون المصطلح، الذي تحول لاحقا إلى “علامة تجارية”، ثلاث مرات في مقال نشرته في مجلة فورين بوليسي في أكتوبر 2011 لتوضيح خططها لـ”قرن المحيط الهادئ في أميركا”.
واليوم، يقوم أوباما، الذي وصل إلى طوكيو الأربعاء قادما من هانوي، بزيارته السابعة إلى المنطقة. وتختلف هذه الزيارة “التاريخية” عن سابقاتها، إذ تبدو تمهيدا لاستراتيجية أكثر توسعا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ تبني المرشحة في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأميركية هيلاري كلينتون نهجها للعلاقات الدولية على أركانها بشكل كبير.
وتقول ميريا سوليس، الباحثة في شؤون آسيا والمحيط الهادئ في معهد بروكنغز، إن “أوباما يريد عبر زيارته لفيتنام واليابان أن يرسل رسالة قوية للمنطقة بأنه يحافظ على سياسة المحور التي تتبناها إدارته”. وتؤمن كلينتون بأن صعود الصين والهند المتنامي خلال القرن الحادي والعشرين كقوتين كبيرتين يحتم على الولايات المتحدة أن تعيد تركيز نفوذها بعيدا عن مناطق نفوذها التقليدية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط.
وأجبر الاهتمام المتنامي بآسيا كلينتون على التموضع في نقطة المنتصف بين توغل الرئيس السابق جورج دبليو بوش عسكريا ودبلوماسيا في الشرق الأوسط، وبين سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي انتهجها أوباما في المنطقة. وقالت سوليس لـ”العرب” إن “أوباما يدعم أيضا سياسة ‘إعادة التوازن’ التي طالما تبنتها كلينتون، وإذا تم انتخابها كرئيسة للولايات المتحدة فإنها ستحافظ على نفس الاستراتيجية، خصوصا في مواجهة الصين”.
وتحاول الولايات المتحدة مواجهة مارد صيني صاعد تراه واشنطن أكبر تهديدا على مصالحها على الإطلاق. وتتعدد سبل المواجهة عبر الدفع لتمرير “اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ”، وإنشاء قواعد عسكرية أميركية في المنطقة، بالإضافة إلى تقوية تحالفات واشنطن في جنوب وشرق بحر الصين. وإذا تحولت هذه الطموحات إلى واقع، فستمثل أكبر تغيير في استراتيجية الولايات المتحدة منذ مبادرة الرئيس ريتشارد نيكسون بإعادة الانفتاح على الصين.
الشرق الأوسط
في جاكرتا.. سارت كلينتون، التي كانت تقوم بأولى رحلاتها الخارجية كوزيرة خارجية، بجوار شبكات للصرف الصحي المفتوح، وفي طوكيو .. تحدثت عن الإنسان الآلي أثناء احتساء الشاي مع إمبراطورة اليابان، وفي سول التقت بطالبات سألتها إحداهن كيف علمت أن زوجها هو “الرجل المناسب”.
أجابت كلينتون “تعلمون ..أشعر اليوم أنني كاتبة عامود للنصائح أكثر مني وزيرة خارجية”. أظهرت كلينتون خلال هذه الجولة، التي قضتها في زيارة عواصم آسيوية واستغرقت أسبوعا، جليا أنها ليست وزيرة خارجية عادية. وفي حين ركز معظم من سبقوها على السياسة وليس الناس، فقد تعاملت مرشحة الرئاسة مع الدبلوماسية كحملة سياسية.
وإلى جانب تعزيز المصالح الأميركية في آسيا، أبلغت كلينتون الصحافيين أنها ترى أن جزءا من وظيفتها هو محاولة استعادة صورة أميركا التي شوهتها الحرب في العراق وغيرها من سياسات بوش التي لم تلق تأييدا شعبيا. لكن يبدو أن كلينتون، ومعها الرئيس أوباما، كانا يحاولان تحسين صورة فشل واشنطن في العراق، ليس أمام شعوب منطقة الشرق الأوسط، لكن في آسيا. وبدلا من أن تشكل عقدة العراق دافعا لتبني المزيد من خطط توسيع النفوذ الأميركي في المنطقة لتفادي النتائج الكارثية لهذا الغزو، أخذت إدارة أوباما، خصوصا خلال تولي كلينتون حقيبة الخارجية، في الانسحاب تدريجيا من المنطقة.
وقال جيمس جيفري نائب مستشار الأمن القومي للرئيس جورج دبليو بوش، والسفير الأميركي السابق في تركيا والعراق لـ”العرب” إن شكوكا كبيرة كانت تتحكم في نهج إدارة الرئيس أوباما تجاه الشرق الأوسط. وأضاف “مثل بوش، كان أوباما يحاول دفع المنطقة في اتجاه تغيير جذري، وعندما لم تؤت خطته ثمارها، سارع في الهروب من المنطقة بأسرها مستندا على اعتقاد بأن التدخل أكثر من الحد الأدنى في أي من بلدان المنطقة سيثير رد فعل جهادي يحوله إلى عراق آخر”. والتدخل الفعال الوحيد الذي كان أوباما مستعدا لأن يتحمل عواقبه هو المغامرة بإخراج إيران من عزلتها، دون الأخذ في الاعتبار محاذير حلفاء واشنطن التاريخيين في منطقة الخليج.
واليوم يتوجس الخليجيون، وعلى رأسهم السعودية، من تضاؤل الإصرار الأميركي على رحيل الرئيس السوري بشار الأسد الذي حقق مكاسب كبيرة مؤخرا بعد تدخل روسي عسكري لدعمه ضد فصائل المعارضة التي يهيمن عليها الإسلاميون، وتقاتل لإسقاط النظام منذ خمسة أعوام. وتخلى الخليجيون عن السلوك المحافظ المعهود، وتبنوا نهجا عسكريا ودبلوماسيا أكثر جرأة في أزمات المنطقة، ومنها الحرب في اليمن، لتعويض غياب أميركي عزز نفوذ إيران في سوريا والعراق ولبنان.
ولم توافق كلينتون كثيرا على سياسات أوباما في المنطقة، لكن عقدة اقتحام السفارة الأميركية في بنغازي ومقتل السفير كرستوفر ستيفنس عام 2012، شكلت هاجسا أبعد كلينتون كثيرا عن الإقدام على الحفاظ على نفوذ أميركي متراجع في المنطقة.
ورغم ذلك قال ليو دوتشيرتي، مدير مجلس الشرق الأوسط التابع لحزب المحافظين البريطاني الحاكم لـ”العرب” إن “انسحاب واشنطن من الشرق الأوسط كان عاملا مدمرا. كلينتون تعلم ذلك جيدا”. وأضاف “السؤال الأهم كان دائما: هل هذا التوجه نابع من داخل المؤسسات الأميركية أم هو توجه شخصي لأوباما؟، أعتقد أنه توجه شخصي فقط، وأن كلينتون ستنصاع إلى توجه المؤسسات المهتمة بما يجري في الشرق الأوسط، لكن من دون أن تستعيد الولايات المتحدة كامل نفوذها هناك”.
ويعتقد دبلوماسيون في لندن أن توجه أوباما المندفع تجاه آسيا خفف إلى حد كبير من الخلافات بينهما. وتقول كلينتون في مذكراتها التي نشرت في كتاب بعنوان “خيارات صعبة” إن “الرئيس شاركني تصميمي على جعل آسيا نقطة محورية في سياسة إدارتنا الخارجية… بتوجيه منه، دعم استراتيجيتنا موظفو مجلس الأمن القومي، بقيادة الجنرال جيم جونز، يعاونه توم دونيلون، وخبيرهم لآسيا جيف بادر. ومارسنا طوال السنوات الأربع التالية ما سميته ‘حشد الدبلوماسية المتقدمة’ في آسيا”.
وقال جيفري لـ”العرب” إن “معظم المتخصصين في الشرق الأوسط يعتقدون أن كلينتون مستعدة لتبني مخاطر أكثر والالتزام بتدخل على الأرض في المنطقة، على عكس دونالد ترامب الذي لا نعرف بالضبط ما يخطط للقيام به، لكن في أسوأ الحالات لن يتبنى نهجا سلبيا كنهج أوباما”. وعلى عكس كلينتون، التي تظهر التزاما واضحا تجاه آسيا، يحمل دونالد ترامب، بعدما تأكد ترشيحه عن الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر الماضي، نظرة أكثر عداء لحلفاء الولايات المتحدة في آسيا، ويصفهم بـ”الجشعين”. لكنه تعهد في المقابل بـ”اقتلاع” تنظيم داعش، الذي سيطر على مساحات شاسعة في سوريا والعراق، من البلدين.
لا فرق كبيرا
وتعمدت كلينتون تجنب تقديم أي وعود تجاه الشرق الأوسط قد تؤخذ عليها لاحقا، وتحرج أوباما الذي يقول سياسيون أميركيون إنه على اتصال مباشر مع كلينتون، ويجمعهما تنسيق مباشر خصوصا في ما يتعلق بالسياسة الخارجية. وكانت كلينتون على علم بأهداف زيارة أوباما إلى آسيا، التي من بينها تجهيز المسرح في منطقة جنوب شرق آسيا أمام رئيسة محتملة تبدو متيمة بها.
وقالت كلينتون في مذكراتها “الكثيرون شعروا في المنطقة أن صب الاهتمام على العراق وأفغانستان والشرق الأوسط قد أدى إلى تخلي أميركا عن دورها التقليدي القيادي في آسيا. بولغ في بعض هذه المخاوف، لكن الشعور كان مشكلة في حد ذاته. اعتقدت أن علينا توسيع ارتباطاتنا مع الصين ووضع آسيا والمحيط الهادئ في مقدمة أجندتنا الدبلوماسية”.
ومن غير المتوقع أن تتخذ كلينتون، الحذرة والمتشككة في كل شيء، نفس الخطوة، إذ أثبت توليها لحقيبة الخارجية أنها “تفضل الدخول في حرب كلامية وهي تحتسي كوبا من القهوة، عن خوض حرب تحمل فيها سلاحا”. ويعني هذا أن لا فرق كبيرا ستشهده استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، لكن من المحتمل أن يكون هذا الفرق الأكبر في آسيا والمحيط الهادئ.
وتحولت آسيا والمحيط الهادئ إلى المنطقة الأكثر حيوية اقتصاديا في العالم بعدما تعرضت أوروبا لمتاعب جمة، لكن دبلوماسيين غربيين يقولون إن هذه المنطقة قد تكون أيضا التهديد الأمني الأكبر خلال العقود القادمة. وأضافوا “في كل الحالات ستكون الصين في قلب الأحداث”. وتتركز هذه التهديدات بشكل مباشر في جنوب شرق آسيا. وتسببت كميات كبيرة من النفط والغاز تقبع أسفل جزر متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، في استعراض للقوة كاد أن يتحول إلى مواجهات كارثية بين الصين من جهة وحلفاء الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وتعتمد الولايات المتحدة في هذه المواجهة على خمس دول أساسية هي أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية وتايلاند. وحذر هيو وايت، الأكاديمي والمسؤول السابق في وزارة الدفاع الأسترالية، من “استعراض أميركا لعضلاتها في مواجهة قوة الصين الصاعدة”. وأشار وايت إلى “تنامي علاقة الخصومة الهيكلية بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين. الأمل يبقى في أن سياسة إعادة التوازن الأميركية لا تفاقم هذه العلاقة المركبة”.
وتحاول واشنطن أيضا الحصول على حق استغلال قاعدة عسكرية استراتيجية في خليج كامران باي الفيتنامي، الواقع غربي بحر الصين الجنوبي. ومن غير المعروف ما إذا كان الرئيس الأميركي، الذي يضع إقامة قاعدة أميركية في كامران باي شرطا أساسيا لرفع حظر تصدير الأسلحة لفيتنام، قد توصل لاتفاق قبل أن يصل إلى اليابان، حيث سيكون أول رئيس أميركي يزور مدينة هيروشيما. وقال فو فان تاو (63 عاما) الذي حارب في صفوف جيش فيتنام الشمالية ضد الولايات المتحدة قبل عقود “على فيسبوك هناك تساؤل: ماذا تريد من زيارة أوباما؟، هناك أشخاص قالوا إنهم يريدون الديمقراطية. أنا أريد أن يعود الأميركيون مرة أخرى إلى كامران باي. الكثيرون يتفقون معي”.
أحمد أبو دوح
صحيفة العرب اللندنية