حين يفقد البناء الأوروبي معنى وجوده

حين يفقد البناء الأوروبي معنى وجوده

349
الاتحاد الأوروبي فكرة قبل أن يكون مؤسسة. هذا ما يؤمن به مؤسسوه، والقائمون عليه. في أدبيات هؤلاء، الفكرة الأوروبية تتمثل في البناء المشترك الذي يجب إنجازه، ليس فقط بوصفه مجموعةً سياسيةً تعمل وتنتظم وفق مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والاستقلالية وحرية الاستثمار والتبادل والمنافسة، بل أيضاً باعتباره مؤسسةً تتميز بنمط العمل الجماعي، والالتزام بمنظومة قيم مشتركة. تستمد الفكرة الأوروبية قوتها من ارتباطها النظري الوثيق بمقولة القيم العالمية التي لا تتجزّأ، قيم الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والتضامن. وفي تلك الأدبيات، الاعتراض على أداء المؤسسة أو سياستها لا يعني رفضاً، ولا يشكل تهديداً للفكرة. لكن الفارق بين الأدبيات والواقع بات أكبر من الآمال والنيات الأوروبية. الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم سلسلة أزماتٍ لا تهدّد وجود مؤسساته وهيئاته، بقدر تهديدها ما تبقى من وجوده المعنوي، أو بوصفه قيمةً معنوية.
تتفاقم أزمة المهاجرين واللاجئين إلى درجةٍ تكاد تطعن الوجه الإنساني للممارسة الأوروبية. تضاف إليها أزمة الإرهاب، لتشكلا معاً ذريعةً لإعادة البحث في مسألة الحدود بين دول الاتحاد. التساؤل يغدو إذاً مشروعاً عن معنى البناء الأوروبي، في ظل عودة بعض الدول إلى فرض قيودٍ على حرية الانتقال عبر الحدود، وما يعكسه ذلك من تنامي الحذر وانعدام الثقة وانتهاك القواعد المشتركة. الخوف على مستقبل الفكرة الأوروبية بات أكثر من مبرّر، في ظل تزايد نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تستغل نقمة الرأي العام الأوروبي حيال تفاقم الوضع الاجتماعي والبطالة، لتغذية خطابها الشعبوي والعنصري، ولتضليل المواطنين، وحرف أنظارهم عن الأسباب الفعلية والعميقة للأزمة الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا.
مشكلة اليونان تكشف، أقلّه حتى الآن، عن استحالة انتصار منطق التضامن الأوروبي على منطق أسواق المال والمصارف. هكذا، يتم إقرار تدابير وإجراءات تحدّ من التقديمات الاجتماعية للمواطنين، تحت ذريعة تعزيز القدرة التنافسية للشركات. ثم تتكتّل المصارف، وتستميت من أجل عرقلة قوانين “الضرائب على التعاملات المالية”، الكفيلة، وفق تقديرات بعضهم، بتوفير 50 إلى 80 مليار يورو سنوياً (صحيفة لوموند، 21 يوليو/تموز 2015). كارثة ديون اليونان وخطر إفلاسها المالي لا يساويان شيئاً أمام الخسائر التي تتكبّدها أوروبا، نتيجة غياب تدابير جدية لمكافحة عمليات التهرب الضريبي في منطقة اليورو، والتي تقدّر قيمتها، بحسب محللين أوروبيين، بألف مليار يورو سنوياً (صحيفة ليبراسيون، 15 يوليو/تموز 2015). وليست المسألة اليونانية أقل خطورةً من مشكلة العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا التي لم تنضم أصلاً إلى العملة الموحدة واتفاقية شنغين، والتي ستنظم استفتاء في 23 يونيو/حزيران الحالي حول خيار خروجها من الاتحاد الأوروبي، أو بقائها فيه.
يستبعد المراقبون أن تتخلى بريطانيا عن عضويتها، لأسبابٍ ودوافع اقتصادية وجيوسياسية.

لكن لندن وضعت بروكسل أمام خيارين، كلاهما مرّ. تخرج، أو تبقى بشروطها وتختار ما يحلو لها من المبادئ المنصوص عليها في المعاهدات الأوروبية، وتضع، بالتالي، العراقيل أمام استكمال البناء الأوروبي. هكذا، نجحت لندن، كالعادة، في استثناء نفسها من الالتزام بقواعد شراكة غير منسجمة مع مصالح أسواقها المالية، وغير مطابقة لسياساتها الاقتصادية والنقدية. انتزعت أيضاً من الأوروبيين ضوءاً أخضر لممارسة سياسة اجتماعية، لا تحترم مبدأ المساواة بين مواطني الاتحاد، حيثما أقاموا وعملوا. ثم حصلت على ما هو بمثابة حق فيتو ضد أي قرارٍ يتعلق بالسياسة النقدية في منطقة اليورو، إذا ارتأت أنه يضرّ بعملتها الوطنية، وباستقرارها المالي. حصل ذلك في إطار اتفاق بين لندن وبروكسل في فبراير/شباط الماضي، محاولة لتشجيع البريطانيين على التصويت لمصلحة البقاء في “الاتحاد”. كلها عوامل تدل على أن المؤسسة الأوروبية باتت محكومةً بتسوياتٍ تضمن استمرارية وجودها كمؤسسة بيروقراطية، وتؤجل أو تجنّب تفككها.
لكن، ما فائدة ذلك، حين يأتي على حساب العمل الجماعي، واستكمال الاندماج الأوروبي والسياسة الاجتماعية العادلة. وبالتالي، على حساب عملية بناء القيم المشتركة؟ بمعنى آخر، حقّق الاستفتاء البريطاني نتيجته، قبل حصوله. فحتى لو انتصر مؤيدو البقاء في “الاتحاد”، فإن المناورة البريطانية، وربما الحيلة، نسفت أي محاولةٍ مستقبليةٍ لدفع الدول الأعضاء إلى التوافق حول تشكيل الحكومة الأوروبية التي باتت إذاً هدفاً استراتيجياً بعيد المنال. علماً أن سلطة تنفيذية كهذه وحدها القادرة على إعادة الأمل بفكرة الاستقلال السياسي والدفاعي للاتحاد الأوروبي عن الولايات المتحدة الأميركية، وتعزيز مكانته على الساحة الدولية. ومن المستبعد بدونها ضمان فعالية السياسات والتدابير المشتركة الهادفة إلى تجاوز الأزمات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية في أوروبا، وتحصينها في وجه التحديات والمخاطر المحتملة في المستقبل.
من المبكر نعي الفكرة الأوروبية، وقد لا تأتي ساعتها أبداً. لكن هذه الفكرة تفقد كثيراً من معناها حين تصبح المؤسسة الأوروبية أسيرة أنانياتٍ، تأخذ في الظاهر شكلاً وطنياً، لكنها تمثل في الجوهر المصالح الضيقة للمصارف وأسواق المال التي تنجرّ دائماً إلى الربح السريع والمنافسة الحرة، ضاربةً بالقيم الإنسانية والاجتماعية عرض الحائط.

نبيل الخوري
صحيفة العربي الجديد