ويمكن القول إن غياب مؤسسة أمنية وعسكرية قوية في هذا البلد المتعدد الأعراق والطوائف جعل الدولة اللبنانية تسقط رهينة بين يدي النخب السياسية الخاضعة لأجندات الطوائف المهيمنة والمتعارضة في كثير من جوانب سياساتها مع مشاريع الدولة الوطنية اللبنانية، التي طمحت في بداية تأسيسها لأن تكون دولة مدنية علمانية وعصرية متفتحة على كل أبنائها.
المشكلة الكبرى في لبنان كانت، وما زالت تكمن في خضوع رجال السياسة فيها، لإملاءات وتوجيهات المرجعيات الدينية التي تتحكم في المشهد السياسي من خلف الستار. وقد زادت الأزمة السورية من حدة هذا الاستقطاب في الداخل اللبناني، بعدما انقسم اللبنانيون إلى معسكرين كبيرين يدعم أحدهما أطراف المعارضة، ويصرّ الطرف الآخر على دعم نظام بشار الأسد، ويعتبر ذلك دفاعاً استباقياً عن لبنان من مخاطر تقدم العناصر التكفيرية نحو لبنان.
وتشير مجمل المعطيات إلى أن هذا الانقسام اللبناني أدى إلى انتقال الصراع من خانة الصراع المسيحي -الإسلامي مع بداية الحرب الأهلية في منتصف السبعينات من القرن الماضي، إلى صراع سني – شيعي. ومثل هذا الصراع كما وصفه أحد المحللين الغربيين، يزيد من تهميش الدور القيادي للجيش اللبناني الذي يعاني منذ عقود من الزمن، ضعفاً كبيراً في العدة والعتاد، بالرغم من المشاريع الكثيرة التي تم الحديث عنها من أجل إعادة تسليحه بمعدات حديثة، والتي كان آخرها ما ذكرته إحدى وكالات الأنباء الروسية، عندما ذكرت أن لبنان طلب من روسيا أنظمة «كورنيت» الصاروخية، ومدافع ودبابات من طراز تي-72. ويبدو أن هذا التوجه اللبناني الجديد من أجل اقتناء أسلحة روسية، يأتي بعد التماطل الكبير الذي لمسه من طرف القوى الغربية التي تخضع في الأغلب إلى ضغوط «إسرائيلية» من أجل إبقاء الجيش اللبناني في حالة ضعف مزمن.
ونستطيع أن نلاحظ أن الوضع الإقليمي للبنان ازداد صعوبة بسبب الانقسام العربي الحاد بشأن العديد من ملفات المنطقة، وبدأ لبنان يعيش لحظات صعبة من الضبابية على مستوى سياسته الخارجية، بعد أن تراجع دور مصر الإقليمي نتيجة انخراطها في معالجة مشكلاتها الداخلية العويصة التي تفاقمت بسبب اندلاع موجة العنف الإرهابي في سيناء، ولم يمض سوى وقت قصير قبل أن يجد لبنان نفسه محاصراً من قبل قوى إقليمية غير عربية في مقدمها «إسرائيل»، وإيران، وتركيا. وتضاعفت في السياق نفسه حدة الاستقطاب الداخلي ما بين محورين متعارضين إلى أبعد الحدود أحدهما يدافع عن النفوذ الإيراني في البلد ويعتبره دعماً للمقاومة، والثاني يدافع عن الدور العربي ويصفه بأنه دعم محايد يهدف إلى الدفاع عن القرار السيادي اللبناني. وفشلت بذلك كل محاولات لبنان الهادفة إلى ترسيخ ما أسمته بسياسة النأي بالنفس عما يحدث من تطورات مأساوية في سوريا، نظراً للصلات التاريخية التي تجمع مختلف الأطراف اللبنانية بالملف السوري على مستوى التاريخ والجغرافيا والمعطيات الجيوسياسية والجيواستراتيجية، وذلك ما جعل مثل هذه السياسة الحيادية الوهمية، تسقط في نوع من الطوباوية الحالمة التي تفنِّدها معطيات الواقع العملي، الأمر الذي يتطلب البحث عن مقاربة سياسية داخلية جديدة تأخذ في الحسبان مواقف كل الأطراف بالنسبة للشأن السوري، وتسعى إلى إيجاد أرضية تفاهم مشتركة على المديين القريب والمتوسط، يمكنها أن تحول دون انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة اللبنانية بعد إصابة مؤسسة الرئاسة بشلل تام.
لا شك لدينا إذاً، في أن الشعب اللبناني على اختلاف توجهاته بات يعلم جيداً أن ثقافة التعايش السلمي ما بين الطوائف والأديان أضحت مهددة في المنطقة برمتها، وأن الأذى الذي يمكن أن يلحق بالكيان السوري ستكون له تداعيات خطيرة، على ما تبقى من الوجود المسيحي في الشرق. كما الضغط الاقتصادي والديموغرافي الذي باتت تمثله مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان، يمكن أن يسهم في تفجير الوضع الداخلي في حال استمرار الأزمة السورية ودخولها في مرحلة أكثر تدميراً ومأساوية خلال الأشهر المقبلة. وبخاصة إذا ما فشلت كل الجهود الدولية الهادفة إلى إيجاد حلول سلمية وتوافقية بشأن الأزمة السورية، التي تجاوزت تداعياتها السلبية المحيط الإقليمي العربي، وأضحت أزمة دولية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
وعليه فإن الكثير من المحللين باتوا مقتنعين أن التوافق الدولي والإقليمي بشأن المعضلة السورية، وتحديداً التقارب الروسي – الأمريكي في مرحلة ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية المقبلة من جهة أولى، زائداً عليه إمكانية تخفيف حدة الاحتقان ما بين السعودية وإيران من جهة ثانية، يمثلان عاملين محوريين من شأنهما أن يؤثرا بشكل إيجابي في مستقبل التوافق السياسي الداخلي اللبناني. وفي حال تطور الأوضاع باتجاه سلبي وتفريط اللاعبين الدوليين والإقليميين في الاستقرار الهش الحاصل حالياً في لبنان، فإن منطقة الشرق الأوسط برمتها ستتعرض لزلزال أخطر بكثير من الزلزال السوري، لأن لبنان يشكل في زعمنا ما يمكن أن نشبّهه بالإبرة التي يمكنها أن تغيِّر الشيء الكثير في كفة ميزان الذهب الدقيق الذي نستطيع أن نزن به حجم كل دولة في المعادلة السياسية للشرق الأوسط الجديد. ومن الواضح في كل الأحوال، أن أسلوب التهميش وقلة الاهتمام الذي تواجه به القضايا المتعلقة باستقرار لبنان وتطوره، ناجم في جزء كبير منه، عن تراجع القضية الفلسطينية بالنسبة لسلم الأولويات لدى مجمل القوى العربية والإقليمية، وقد يستعيد لبنان ما يستحقه من عناية واهتمام عندما يعود الاهتمام العربي بمسائل الأمن القومي المشترك، إلى سابق عهده.
الحسين الزاوي
صحيفة الخليج