تثبت الوقائع السياسية التي شهدتها البيئة العربية وخاصة المشرقية منها منذ عام 2003م وحتى يومنا، إنها صبت بشكل مباشر في صالح النظام الإيراني، من خلال أولاً مصيبة احتلال الولايات المتحدة الأمريكية في عهد رئيسها السابق جورج دبليو بوش”2001م-2009م”، للعراق في التاسع من نيسان/ إبريل عام 2003م. هذا الاحتلال كان بمثابة خدمة استراتيجية قدمت من قبلها للنظام الإيراني الذي تخلص من عدو لدود وقف لعدة عقود من الزمن في وجه مشاريعه التوسعية في دول المشرق العربي. ويمكن تشبيه سعادة النظام الايراني باسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين بسعادة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش”1989م-1993م” عندما علمت بخبر تفكك الاتحاد السوفييتي الذي كان قطباً دولياً منافساً لها في مرحلة الحرب الباردة”1945م/1991م”. حيث تشير الوثائق السياسية أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش عندما سمع بذلك الخبر قفز -من شدة فرحته- من مقعده الرئاسي في البيت الأبيض. ويبدو أن هذه الفرحة انسحبت أيضاً على كل مكاتب النظام الإيراني حينما تلقت خبر احتلال العراق.
ولم يكتف النظام الإيراني بالسعادة والفرحة في التعبير عن ذلك الحدث الاستراتيجي الذي غير الكثير من الموازين على المستوى العراقي والعربي والإقليمي ولا نبالغ إذ قلنا الدولي أيضاً. ولأن هذا الحدث لا يتكرر باستمرار في العلاقات الدولية. أراد النظام الإيراني توظبفه على الوجه الأكمل بكل ما يملك من القوة مادية ومعنوية إذ اعتبر احتلال العراق فرصة تاريخية له لاحكام نفوذه وتأثيره وسيطرته عليه. وهذا ما قد تم بالفعل إذ أصبح العراق في عهد نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق”2006م/2014م” بكل مقدراته السياسية والتاريخية والثقافية والاقتصادية والأمنية والاقتصادية والعسكرية مكتب تابع في وزارة الخارجية الإيرانية.
أما المصيبة الثانية -والتي قد تكون مصطنعة من قبل دول إقليمية أو دولية أو من قبلهما معاً- والتي حلت بدول المشرق العربي واستفاد النظام الإيراني منها أيما استفادة في تبيت مصالحه فيها، هي ظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” على مسرح الأحداث في سوريا والعراق على التوالي. فالبنسبة للأولى وانطلاق ما بات يُعرف بالإعلام العربي والغربي بالربيع العربي إذ اعتبر النظام الإيراني ما حدث في تونس ومصر واليمن على أنه امتداداً للثورة الإيرانية، ولكن حينما وصلت أنفاس ذلك الربيع في الخامس عشر من آذار/مارس عام 2011م، حليفه السوري بشار الأسد اعتبره مؤامرة دولية ضد محور “الممانعة والمقاومة”! فبدل أن يعتمد حليفه على المقاربات الإصلاحية في مواجهة المظاهرات المناهضة لحكمه اعتمد على الحل الأمني والعسكري، وبفعل هذا الحل تم عسكرة الانتفاضة السورية ضد حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وبدأت سيطرته على الإقليم السوري تتضاءل. ولمواجهة هذا التراجع لا بد من ظهور متغير يساهم في تقوية النظام السوري وفي نفس الوقت اضعاف الانتفاضة السورية وهذا ما تم مع ظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” في سوريا بالعام 2013م، هذا التظيم الذي يتبنى أفكار متطرفة لا تمت بصلة للشريعة الإسلامية إذ يعتبر كل من يخالفه “كافر” وواجب قتله.
من هنا يمكن اعتبار ظهور هذا التنظيم في الوقت الذي كان يترنح فيه النظام السوري بمثابة الفعل المضاد للانتفاضة السورية. وقد استفاد النظام الإيراني من هذا الظهور لتنظيم الدولة في سوريا، الذي قد يكون هو من اصطنعه مع النظام السوري وحليفهما الدولي روسيا ليرسلا رسالة جماعية للجماعة الدولية بأن ما يحدث في سوريا ليس انتفاضة شعب ضد حاكم مستبد- كما تظنون- بقدر ما هي اعمال ارهابية وجب على جميع الدول التصدي لها، لذا قام النظام الإيراني بإرسال مليشياته الشيعية من مختلف دول الجماعة الدولية وفي مقدمتهم حزب الله اللبناني، بذريعة مواجهة التنظيم التكفيري لكن في حقيقة الأمر أرسلت هذه المليشيات لمقاتلة المعارضة السورية المناهضة بشكل فعلي لحكم الرئيس السوري بشار الأسد. ولما فشل النظام الايراني وقواته ومليشياته من القضاء على المعارضة السورية المسلحة لجأت إلى روسيا كي تتدخل عسكريا بحجة محاربة تنظيم الدولة “داعش”. إذ في الثلاثين من أيلول/سبتمبر من العام الماضي تخلت روسيا عن دعمها العسكري غير مباشر للنظام السوري إلى تدخلها العسكري المباشر في الأزمة السورية. وبهذا التدخل الروسي اجتمع عسكرياً ثالث الأثافي” النظام الإيراني، والنظام السوري، وروسيا” في مواجهة المعارضة السورية المسلحة بحجة محاربة تنظيم الدولة. هذا الظهور المرسوم بعناية لتنظيم الدولة شكّل فاجعة للمكوّن الاجتماعي السنّي في سورية. فالمناطق السنّية هي التي تتلقى حمم الطائرات السورية والروسية. ومن هذه المناطق ذاتها خرج ملايين النازحين داخل سورية واللاجئين خارجها.
فثالث الأثافي يحاصرون مدينة حلب إذ يعتبر ذلك تحوُّلاً في الصراع المفتوح في سورية. فحلب هي العاصمة الاقتصادية. وهي مدينة سنّية، وقريبة من تركيا. ولحصار المدينة آثاره الميدانية وأثمانه على أي طاولة مفاوضات جدية ستنعقد لاحقاً. تقول فلسفة التاريخ” الموعظة والعبرة أو المغزى والمعنى” أن مسارح الحروب المدمّرة لا تعود كما كانت حين تصمت المدافع. إذا استمرت الأمور في الاتجاه ذاته فإن سورية أخرى ستولد بعد اكتمال معركة حلب،ولن تشبه سورية ما قبلها. من الصعب أن تأخذ على طاولة المفاوضات ما تعذّر عليك الحصول عليه ميدانياً. سيكون من الأصعب على المعارضة السورية بعد معركة حلب، الإصرار على موعد لمغادرة الرئيس بشار الأسد. وفي هذا السياق يمكن القول أن ظهور تنظيم الدولة في سورية كان سبباً في استمرار بشار الأسد في الحكم لغاية الآن وربما في قادم الزمان، أو تقسيم سورية وهذا ما أشار إليه” أقصد التقسيم هنا” قبل عدة أيام مدير الاستخبارات الأمريكية “جون برينان” بالقول: “أن سورية متجهة إلى التقسيم”، فهذا التقسيم سيمنح بشار الأسد دويلة لتمارس إيران وروسيا نفوذهما عليها.
كان تدحل روسيا عسكرياً وبشكل مباشر، إيذاناً ببداية التقسيم. وهو ما تأكد لاحقا من التركيز على مناطق معينة وإحكام السيطرة عليها. والتساهل في التعامل العسكري مع مناطق أخرى بعضها أكثر أهميةً وحيويةً من منظور السيطرة على الأراضي السورية، وإبقائها “موحدة”. وعندما كانت روسيا تقصف قوات المعارضة السورية، بزعم ضرب نقاط تمركز تنظيم الدولة في سوريا”داعش”، فإن الإدارة الأمريكية ساندت وبرّرت ولم تعترض. بل رفضت تسليح المعارضة بصواريخ مضادة للطائرات، لتدافع عن نفسها ضد القصف الروسي. ما يؤكد أنها من البداية تخدع السوريين، وتتلاعب بالمعارضة. وهي لا ترفع يدها في مواجهة روسيا، اعتراضاً أو تحذيراً، وإنما رضىً وترحيباً. فالغرض من ظهور تنظيم الدولة “المريب” في سياق الشأن السوري قد تحقق، وذلك في الحفاظ على مصالح النظام الايراني في سورية سواء كانت موحدةُ أو مقسمةُ.
أما عن المصيبة الثانية لدول المشرق العربي والتي تمثلت بفائدة استراتيجية للنظام الإيراني، هي ظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” في العراق، ففي حزيران/يونيو عام 2014م، تمكن هذا التنظيم من السيطرة على محافظة نينوى”الموصل”، وتباعاً استطاع أن يمد سيطرته على سائر المحافظات العراقية ذات الطابع السُني. هذا التنظيم كما وضحنا سابقاً تنظيم متطرف لذا وجب من وجهة نظر إيرانية على الشعب العراقي وخاصة الشيعي منه قتاله لكي يجني النظام الإيراني مكاسب هذا الظهور. أولى هذه المكاسب تأسيس الحشد الشعبي” في الثالث عشر من حزيران/يونيو عام 2014م، بناء على فتوى” الجهاد الكفائي” التي أصدرتها المرجعية الدينية العليا في العراق. إذ تم دمج الفصائل والمليشيات الشيعية في العراق في ذلك التنظيم الموالي للنظام الإيراني وولاية الفقيه، وتتفاوت التوقعات بشأن عدد مقاتلي تلك المليشيات، ولكنه يقدر بعشرات الآلاف. فما كان أن تصدر هذه الفتوى لولا ظهور تنظيم الدولة “داعش” في العراق. وهذه المليشيات
فعلى الرغم من كل جرائم وتجاوزات وممارسات طائفية ممنهجة، قامت بها مليشيا الحشد الشعبي في العراق، منذ تاريخ مشاركاتها في العمليات العسكرية في محافظات العراق “السنيّة” خلال وبعد بدء عمليات تحرير المدن التي وقعت في قبضة تنظيم الدولة (داعش) بدءاً من مدينة تكريت في آذار/مارس 2015 وحتى معركة الفلوجة في تموز/يوليو 2016،إذ تصل هذه الممارسات إلى مصاف الجرائم التي تستهدف حقوق الإنسان ومن هذه الجرائم” جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، فهذه الجرائم ووفق المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية تنطبق على أفعال مليشيات الحشد الشعبي في سائر المحافظات السنية.
وعلى الرغم من كل الاعتراضات الإقليمية والدولية الرسمية والإنسانية والحقوقية، إلا أن مشروع تثبيتها قوة عسكرية وأمنية رئيسية متنفذة ومهيمنة في العراق جار على قدم وساق، كجزء رئيسي من مراحل تنفيذ المشروع الإيراني الخاص بتصدير “الثورة الإسلامية”؛ إذ أصدر رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة حيدر العبادي قرارا ديوانيا يقضي بهيكلة الحشد وتحويل مقاتليه إلى صنف عسكري مواز لجهاز مكافحة الإرهاب. وكان القائد السابق للحرس الثوري الإيراني، الجنرال محسن رفيقدوست، وهو أحد أبرز مؤسسي الحرس بعد ثورة الإيرانية عام 1979، اقترح الشهر الماضي، تشكيل “حرس ثوري عراقي” على شاكلة الحرس الثوري الإيراني بمساهمة مباشرة من النظام الإيراني في التسليح والتدريب ونقل الخبرات. وجاء هذا القرار أيضاً منسجماً مع نصيحة عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، النائب محمد جوكار، العراق بتطبيق التجربة الإيرانية بخصوص “حرس الثورة”، وقوله “نحن على أتم الاستعداد لتزويد العراقيين بنمط هذه القوات وهيكليتها، ليتمكّن العراق من تشكيل قوات حرسه”.
فقرار هيكلية مليشيات الحشد الشعبي سيمهد الطريق لها من للمشاركة في معركة الموصل والتي كانت جميع الأطراف الوطنية والإقليمة والدولية ترفض مشاركته فيها بصفته تنظيماً غير منضبط، لا سيما بعد الانتقادات الدولية الواسعة التي وجهت له بعد الجرائم التي ارتكبها بحق المواطنين السنّة في محافظات ديالى وصلاح الدين والأنبار وبابل (جرف الصخر)، كان آخرها معركة الفلوجة وأطرافها. عقب معارك محافظة نينوى و”تحريرها”، تتمثل ببزوغ دولة “الحشد” المهيمنة على سياسة الحكومة العراقية وقراراتها، كما ستكون ركيزة عدوانٍ وتدخلٍ في الشؤون الداخلية لدول الإقليم العربي وغير العربي. عندها سيعرف العراقيون، وربما كل المهتمين بالشأن العراقي في العالم، الدور الخطير لمليشيات الحشد الشعبي، في التغيير الجيوسياسي في العراق، لصالح الهيمنة الإيرانية ومشروع ولاية الفقيه المرعب في المنطقة. فعراق ما بعد معركة الموصل لن يشبه عراق ما قبلها،
أما ثاني المكاسب الإيرانية من ظهور تنظيم الدولة”داعش” في العراق يتمثل بمساهمة كل من تنظيم الدولة ومليشيات الحشد الشعبي في تحقيق ما يطمح إليه النظام الايراني من تفريغ المحافظات السنية من مواطنيها، فكليها اتفقا على قتل وتهجير وتغيير ديموغرافي لها كل حسب مبرراته، فتنظيم الدولة فعل ذلك وفق قناعة كل من يخالفه سيكون ذلك جزاؤه، أما المليشيات اعتمدت في جرائمها من قتل وتشريد على ذاكرة تاريخية مشوهة. فهذا التفريغ في جوهره يهدف إلى ايجاد النظام الإيراني ممر بري له يوصله بحليفيه في سورية سواء الموحدة أو المقسمة وفي لبنان حزب الله . بينما ثالث المكاسب الإيرانية من ذلك الظهور يتجسد ببروز المسؤولين العسكريين الإيرانيين في المشهد العسكري العراقي بشكل علني إذ ظهر قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني في أثناء معر كة الفلوجة، ولم يتوقف الأمر عند هذا المستوى ولقطع الطريق على أي معارضة داخلية وخارجية عينت الحكومة العراقية قاسم سليماني كمستشاراً عسكرياّ لها.
تأسيساً على ما تقدم يمكن القول: لم يكن للنظام الايراني أي دور فاعل في مصيبة احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق في نيسان/إبريل عام 2003م، ولكن استطاع هذا النظام أن يوظف مخرجاته بما يخدم مصالحه الجيو سياسية في البيئة العربية والشرق أوسطية والدولية أما مصيبة ظهور تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” في سوريا عام 2013م، والعراق في عام 2014م. الذي شكل بروزه فاجعة لكل من الانتفاضة السورية وسُنة سوريا ومكون الاجتماعي السُني في العراق والذي جاء بما يخدم مصالح النظام الايراني الاستراتيجية في كلتا الدولتين، لذا من الصعوبة بمكان القبول بأن ظهور تنظيم الدولة”داعش” ليس للنظام الايراني أي يد أو تدبير في بروزه. صدق شاعر العرب المتنبي حينما قال في إحدى شطر قصائده ” مصائب قوم عند قوم فوائد” فمصائب العرب عند النظام الإيراني فوائد.
وحدة الدراسات العربية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية