الصراع الدائر في مرحلة الاستعداد لتحرير الموصل لا يشي بأن الولايات المتحدة تمسك جيداً بمسرح العمليات. كانت ولا تزال ترفض مشاركة «الحشد الشعبي». وعولت بداية على موقف رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي لم يبد حماسة لمشاركتهم. لكنه تراجع ودعاهم إلى الميدان بعدما نجحت إيران في إخماد الصراع بين قوى التحالف الشيعي، وأعادت لملمة صفوفه. وبعدما كبحت جماح حملة نوري المالكي لإسقاط الوزارة كلها وليس الاكتفاء بإقالة وزير الدفاع والمال. ولم تفلح دعوة واشنطن الرئيس رجب طيب أردوغان إلى التفاهم مع بغداد لتسوية وجود القوات التركية في بعشيقة. وغسلت أيديها من مشاركة القوات التركية في معركة استعادة ثاني أكبر مدن العراق. ويبدو أن أنقرة لن تتوانى عن الانخراط في الحرب، كما حصل شمال سورية، يوم اندفاعها نحو جرابلس. وهي بالطبع لن تعول على سير العمليات بقدر ما يعنيها المشهد السياسي بعد تحرير المدينة. أي خريطة توزيع القوى التي ستتقاسم «الغنيمة». فهي حريصة على عدم استئثار الميليشيات الشيعية والكردية بجغرافيا محافظة نينوى. تخشى أن يؤدي ذلك إلى تغيير ديموغرافي لا يبقي لها فرصة بناء حضور ونفوذ تعدهما جزءاً لا يتجزأ من فضائها الأمني الوطني. لذلك كرر الرئيس التركي قبل يومين أن بلاده لن تسمح لتنظيم «الدولة الإسلامية» ولا لأي تنظيم آخر بالسيطرة على الموصل.
تركيا مصممة إذاً على المشاركة في تحرير الموصل. وإذا لم تكن هذه في إطار عمليات التحالف الدولي بقيادة أميركا، فإن ثمة خطة «باء» وخطة «جيم» كما أعلنت حكومتها. لم تفصح عن تفاصيل الخطط البديلة. سيبقى غامضاً دور الأتراك في المعركة المقبلة، وكذلك حضورهم في المدينة. تماماً مثلما يظل غامضاً إلى حد ما تفاهمهم مع الروس في شأن سورية وشمالها ومدينة حلب خصوصاً. ولكن يرجح أن يكرروا ما حصل في شمال سورية: الاعتماد على قوات خاصة تتقدمها قوات من أبناء محافظة نينوى بقيادة أثيل النجيفي، المحافظ السابق للموصل، أشرفت وحدات تركية على تدريبها وتمويلها، لتشكل رأس حربة على رغم معارضة بغداد مشاركة هذه القوة المحلية. لذلك ثمة مبالغة في اعتبار حدة الخطاب السياسي للرئيس أردوغان في مواجهة حكومة بغداد، مجرد سلعة استهلاكية موجهة إلى الداخل التركي. لعله جزء من الاستعداد لمرحلة ما بعد تحرير الموصل. إذ لا يمكن أن تجازف أنقرة بإخراجها من العراق، سواء عبر علاقاتها المتينة مع رئيس الإقليم الكردي مسعود بارزاني وحزبه الديموقراطي الكردستاني، أو مع قوى سنية واسعة. إن هذا التصميم الذي تعبر عنه تصريحات كبار المسؤولين الأتراك دافعه إذاً إصرارهم على دور لبلادهم في الأزمة الدولية المتعاظمة حول سورية والمنطقة عموماً، من أجل أن تكون لها حصة في الإقليم حين يأتي زمن الصفقة الكبرى أياً كان شكلها ومآل بلدان الإقليم. ولا شك في أن تفاهمهم مع الروس يثمر بخلاف ما عدّوه «خيانة» غربية، أو تقاعساً سواء من أوروبا أو الولايات المتحدة أثناء المحاولة الإنقلابية وبعدها.
ولا يبدو أن إيران بعيدة عن التفاهم الروسي – التركي، وإن كانت تشعر بأنه يقتطع من طريق نفوذها في كل من سورية والعراق. وهو ما يخشى أن يتفاقم بعد تحرير الموصل إذا اشتعلت بين الميليشيات الشيعية والقوى السنية والتركية في المدينة والمحافظة كلها بعد انتهاء المعركة. ذلك أن طهران حريصة على إبعاد أي نفوذ لأنقرة عن بلاد المشرق. ولا ترغب في أن تقيم شريط نفوذ واسعاً يمتد من الموصل وأجزاء واسعة من كردستان إلى شمال سورية وريف حلب، يسهل لها ضبط طموحات الكرد. علماً أن بغداد ومن خلفها الجمهورية الإسلامية، تدعمان حزب العمال الكردستاني الذي اندفع إلى مناطق سنجار تحت شعار الدفاع عن الإيزيديين. كما أن طهران تحرص على عدم قيام إقليم سني في المحافظات الشمالية والغربية يلقى دعماً عربياً ويشكل تهديداً لنفوذها في بلاد الرافدين وحاجزاً يعيق سعيها إلى إقامة هلال واسع يربطها براً بدول «الهلال الخصيب» حتى شاطئ المتوسط.
لا شك في أن المشاركة المرتقبة لتركيا في معركة الموصل ستساهم في مزيد من خلط الأوراق. تماماً كما حصل إثر تدخلها المستمر شمال سورية. عرفت حكومة بن علي يلدريم كيف تعيد تموضعها في خضم الصـــراع الحاد بين الكبار والذي بات جزءاً أساسياً من الأزمة. انحازت إلى معسكر روسيا التي يبدو أنها غلّبت المســـار العسكري على الديبلوماسي في اشتباكــــها الواضح مع الولايـــات المتحدة والغرب عموماً. هكذا فعلت في أوكرانيا وقبلها فـــي جورجيا حيـــث فرضت وقائع جديـــدة تثقل على الاتحاد الأوروبي وعلى جمهوريات البلطيق. بينما كانت إدارة الرئيس باراك أوباما ولا تزال تغلب السعي الديبلوماسي مع الكرملين لعله ينتهي إلى تفاهم يوقف الحرب في سورية ويساهم في تدمير «دولة أبي بكر البغدادي» سريعاً، وينهي الفوضى في الشرق الأوسط انطلاقاً من سورية، ويمهد لبحث مشترك في نظام جديد للإقليم. لكن موسكو عبّرت وتعبّر كل يوم عن سعي إلى الاستئثار برسم هذا النظام. لذلك فشلت المحادثات بين وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف. ولذلك تأخرت معركة تحرير الرقة. ذلك أن القوى الكردية التي راهنت عليها واشنطن منيت بخسائر بشرية فادحة في تحرير منبج. وجاء دفع تركيا قوات إلى جرابلس ورسمها خطوطاً حمراً للانتشار الكردي ليساهما في خسائر «حزب الاتحاد الكردي» وميليشياه «وحدات حماية الشعب»، وليعقدا الحرب على الإرهاب، وكذلك التفاهم على تسوية أو هدنة لوقف القتال.
سقطت وتسقط كل الخطوط الحمر التي رفعتها الإدارة الأميركية في كل من سورية والعراق من دون أي تحرك فعال سوى الإصرار على سكة ديبلوماسية انتهت وتنتهي برفع الآخرين خطوطاً حمراً يصعب المجازفة بتجاوزها. هكذا حذر الكرملين من توجيه أي ضربة إلى قوات النظام السوري لأنه يعد ذلك ضرباً لقواته. وهكذا لحقت به أنقرة التي ترفع هنا وهناك خطوطاً حمراً بوجه الكرد، خصوصاً حزب العمال والمرتبطين به وبسياسته. وكذلك تفعل إيران التي تتشدد في التمسك بالنظام السوري ورأسه وبدورها في حروب المشرق تحت شعارات وشعارات. لذلك لم يسقط الحل السياسي فحسب أمام مصالح المنخرطين في الصراع بل سقط الرهان على تفاهم الكبار منطلقاً لتسوية أزمات الإقليم. صار الرهان على فك الاشتباك بين الكبار، بين روسيا وأميركا الحائرة بحثاً عن سبل لمنع استئثار غريمتها برسم النظام في الشرق الأوسط بعدما باتت هذه تمسك بالورقة السورية كلها تقريباً، وتتقدم نحو استعادة ما كان للسوفيات في المنطقة، في مصر وأماكن أخرى… فضلاً عن تحييدها تركيا وإن لم تضمن بقاء هذه إلى جانبها في نهاية المطاف! انكسر ميزان القوى العسكري في سورية، أو في الطريق، لذا يستحيل إرساء حل سياسي. وقد يحدث الشيء نفسه في العراق بعد تحرير الموصل.
نجحت روسيا حتى الآن حيث أخفقت أميركا. حالت دون اندلاع حرب مفتوحة بين حليفيها اللدودين اليوم، إيران وتركيا سواء في سورية أو العراق، على رغم أن الدولتين تتصارعان على تركة عربية وازنة. نجحت في استدامة حوار مع الدول العربية على رغم تعارض مواقفها مع كثير من هذه الدول بخصوص العلاقة مع الجمهورية الإسلامية ومع نظام الرئيس بشار الأسد. في حين لم تستطع المقاربات المزدوجة لواشنطن في وقف الفوضى في الإقليم. لم تنجح في إقامة نوع من التوازن في العلاقات بما يسمح بتحريك الديبلوماسية. لم تنجح في تبديد العداء بين إيران والمملكة العربية السعودية وعدد من أشقائها. ولم تنجح في إعادة ما انكسر بين حكومة حزب العدالة والتنمية التركي وحزب العمال، وبينها وبين وحدات حماية الشعب. فيكف لها غداً أن تقيم توازناً بين كل القوى المتصارعة على الموصل قبل تحريرها؟ ظلت تتمسك بشعار «ماذا عن اليوم التالي؟» لئلا تنزلق إلى الساحة السورية. وهي بالتأكيد لا تضمن ماذا سيحل بهذا اليوم بعد تحرير ثاني كبرى مدن العراق. بينما تنهج روسيا سياسة تعرف بموجبها ما عليها فعله في المقبل من الأيام.
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية