هي توقعاتٌ خاطئةٌ تماماً لمعركة ستكون طويلةً ومعقدةً ودمويةً، ولن يتخلى التنظيم بسهولة عن المدينة، بل سيقاتل آلافٌ من عناصره قتالاً مستميتاً، وسيستخدم كل ما وصل إليه من تكتيكات عسكرية شرسة، مثل المفخّخات والانتحاريين والتفجيرات وحرب الشوارع، لكن قيادة التنظيم ستتجنب، في الوقت نفسه، معارك خاسرة مكشوفة، في ظل تفوق الطيران الأميركي، فالتنظيم الذي يجمع خبرة السلفية الجهادية العالمية (وخبرتها مع الحرب الأفغانية 2001) وعناصر من الجيش العراقي وخبرته في حربي 1991 و2003، بات يدرك أهمية القصف الجوي في حسم المعارك. لذلك، سيتجنب قدر الإمكان أن يكون فريسةً سهلة للطيران.
تدرك الولايات المتحدة تماماً حجم المعركة وشراسة التنظيم. لذلك، توقّع المسؤولون معركة طويلة تستمر شهوراً. لكن، دعونا نقفز إلى الأمام قليلاً، ونفكّر في مصير داعش بعد سقوط الموصل؛ فهل نحن أمام نهايته، محلياً وعالمياً وأيديولوجياً؟ على الأغلب أنّ من تبقوا من عناصر داعش سيلجأون إلى المناطق التي يسيطر عليها في سورية وفي المناطق الريفية والبادية الممتدة بين العراق وسورية، وبعضها ربما يتجه إلى تركيا التي ستسلمه، على الأغلب، إلى بلده الأصلي، خصوصاً الأطفال والنساء الأجانب الذين ما يزالون في الموصل.
لم تُحسم سورية بعد، مثلما هي الحال في العراق، ولم تتوفر فيها إرادة دولية وإقليمية واضحة على حسم مصير التنظيم، ولا يوجد شركاء غير الأكراد للأميركيين والغربيين، فيما ما يزال التنظيم يسيطر على مدينة الرقة هناك، وعلى ريف دير الزور، وجزء من المدينة. وسيناريو انتقال العناصر من العراق إلى سورية يزعج الروس اليوم، الذين يريدون حسم المعركة العسكرية في سورية لصالح النظام، بعدما مال الميزان العسكري لصالحهم أخيراً.
مشكلة سورية أنّ التفاهمات السياسية غائبة، وهنالك أكثر من طرف مسلح في المعادلة، وأجندات دولية وإقليمية متباينة، فتحولت الدولة إلى “ساحة صراع” إقليمي ودولي بالوكالة، ما يجعل منها ساحةً أفضل للتنظيم الذي سيقاتل في الموصل بجزء من قواته وأفراده، وسينقل
البقية إلى سورية. ولا يعني ذلك أنّ خسارة الموصل ليست موجعةً وقاتلة للتنظيم، بل هي كذلك، وتأتي بعد سلسلة خسائر فادحة، تعرّض لها منذ العام الماضي، سواء بخسارة أراضٍ واسعة، أو قيادات الصف الأول التي هندست الصعود الراهن للتنظيم (مثل حجي بكر، عبد الرحمن البيلاوي، أبو مسلم التركماني، أبو علي الأنباري، أبو محمد العدناني)، وانقلاب الجميع ضده، بسبب أيديولوجيته ومواقفه المتشدّدة، سواء من المعارضة السورية المسلحة أو القوى الإقليمية والدولية، لكن العامل المؤثر والحاسم في قلب موازين القتال يتمثل في “الموقف التركي” الذي ضرب مصادر قوة التنظيم في الصميم.
سيكون التنظيم أضعف حالاً ومحاصراً بعد خسارة الموصل، ولن يحتفظ بالرقة وقتاً طويلاً، وعلى الأغلب سيعود إلى “خطة ب”، وهي التخلي عن المدن والتحول إلى خلايا نائمة ومتفرقة، كما حدث معه في العام 2007-2008، عندما انقلب المجتمع السنّي عليه، وتشكلت الصحوات، وتحول نحو حرب العصابات والعمل الأمني، بعدما كان أعلن عن تأسيس دولة العراق الإسلامية حينها.
لا يعني هذا أنّ التنظيم لن يصعد مرّة أخرى. ذلك ممكن، وهو ما حصل معه بالفعل، بعد أن أحسّ “المجتمع السنّي” العراقي بالإحباط وخيبة أمل من حكومة نوري المالكي والنفوذ الإيراني، وتعرّض للإقصاء والتهميش، على الرغم من المشاركة في الانتخابات، ما أوجد البيئة المناسبة، مرّة أخرى، للتنظيم وصعوده. وقد لا تكون الصيغة المقبلة هي داعش نفسها أو امتداداً لها، ربما يجد السنة، بعدما دفعوا ثمناً غالياً لوجود التنظيم ودوره، خياراً عسكرياً آخر، فيما لو فشل الحل السياسي ثانية.
على الطرف الآخر، ما هو مصير الولايات التابعة للتنظيم التي بايعت أبو بكر البغدادي، وعلى الذئاب المنفردة والخلايا النائمة في الغرب، الذين تأثروا كثيراً بخطاب التنظيم وأجندته، بمعنى آخر: هل سينتهي التأثير المرعب الأيديولوجي للتنظيم؟ وهل ستختفي ظاهرة الذئاب المنفردة أو تقلّ كثيراً بعد الضربات العسكرية وانتهاء قوة التنظيم في العراق وسورية؟ نحن، هنا، أمام أكثر من مستوى من مستويات النظر والتحليل.
يتمثل الأول في الخبرة التاريخية لمثل هذه الحركات سابقاً، فلم تؤدّ الهزائم العسكرية والانكسارات إلى انتهائها وانقراضها، بل على النقيض من ذلك تماماً، في أوقاتٍ كثيرة، عادت أقوى مما سبق، مثلما حدث مع حركة طالبان بعد الحرب الأفغانية 2001 وحالة “التنظيم” نفسه بعد الصحوات 2008. وبالطبع، هذه ليست القاعدة الرئيسة، فهنالك حركات جهادية
تراجعت وانقلبت على نفسها، من خلال المراجعات، كما حدث في مصر مع الجماعة الإسلامية، وما تبقى من جماعة الجهاد بعد خروج القيادات، فهنالك متغيران رئيسان يحكمان مستقبل التنظيم الحالي في العراق وسورية: الظروف السياسية، بخاصة للمجتمع السنّي، ومقدار الشعور بعدم جدوى النموذج أو فشله أو العكس من ذلك، لدى الأنصار والمؤيدين، وعلاقته مع البيئة الاجتماعية المحيطة به.
يتمثل المستوى الثاني بخصوصية تنظيم داعش، مقارنةً بكل الحركات السابقة، بما فيها القاعدة، فقد شكل التنظيم “طفرة” حقيقية في عالم “السلفية الجهادية”، إلى درجةٍ أصبح فيها منظّرو التيار المعروفون ضده، ويخشون من النقلة الواسعة التي قام بها، فهو أعلن تأسيس دولةٍ وإقامة الخلافة، واستخدم الرموز الإسلامية بكفاءة عالية، مداعباً “مخيال” آلاف الشباب الجهادي والإسلامي في العالم العربي والإسلامي، وحتى في الغرب، وأحدث صورةً متوحشة (لكنّها قوية) مفقودة في العالم العربي، تناقض حالة الوهن والضعف والفراغ الاستراتيجي في العالم العربي، قدّم نفسه حامياً ومدافعاً عن الهوية السنّية، وتحدّث بلغةٍ طائفيةٍ صريحةٍ وواضحةٍ، وأوجدت كل هذه الخصائص “جاذبية” كبيرة للتنظيم لدى الآلاف، فهل ستنتهي جاذبيته، مع تراجعه الحالي وضعفه وانكساره العسكري في العراق وسورية؟ الجواب معقد وصعب، ويحتاج إلى تحليل ونقاش أوسع. لكن، هنالك عموماً اتجاهان رئيسان في القراءة الممكنة:
يتمثل الأول في أنّ التنظيم ليس نهاية المطاف في تدشين “اليوتوبيا” الإسلامية، وخلق الجاذبية لها، بل هو فتح الباب، ولن يتنازل كثيرون من هؤلاء الشباب عن تلك الأيديولوجيا، أو الطموحات والخيال الحالم، بمجرد نهاية التنظيم عسكرياً، خصوصاً أنّ هنالك آلاف العائدين وميراثا لقتلى عديدين، كما أنّ الشروط الموضوعية والواقعية التي تحرّك فيها ما تزال قائمة، وربما تصبح “المأساة السنية” أكبر بعد نهايته في العراق وسورية، وسيكون هنالك شعور عارم بوجود استهداف للإسلام السني. سيبقى ذلك كله مبرّرات “المنظومة الأيديولوجية” لداعش قائمة.
يتمثل الاتجاه الثاني في التحليل، وهو المناقض للأول، في أنّ تجربة التنظيم الفاشلة في إقامة الدولة الإسلامية ستنعكس سلبياً على نسبة كبيرة من الشباب الذين علّقوا الآمال على “الدولة الموعودة”، وكانوا واثقين من الانتصار ومن امتدادها، وكان شعارها بحدّ ذاته “باقية وتتمدّد” محفّزاً لهم على الانضمام والعمل والنشاط، وتنفيذ العمليات لدعم “المشروع الجديد”. لكن، بعدما ينفض غبار المعارك، ويكتشف الشباب أنّ المشروع كان ارتجالياً وليس واقعياً، ستنتهي جاذبيته، وسيعودون إلى خياراتٍ أخرى، مثل القاعدة، أو ربما خارج السياق الجهادي كاملاً.