مقدمة
بصورة مفاجئة وغير متوقعة، فاز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، بالانتخابات الرئاسية الأميركية، مُلحِقًا هزيمة قاسية بمنافسته في الانتخابات من الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون. وبعكس كلينتون، التي تتمتع بخبرة واسعة وكبيرة في سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية، يمكن القول: إن الرئيس الجديد يُعتبر شخصية مضطربة، ولا يملك رصيدًا سياسيًّا معتبرًا على صعيد السياسات الدولية، وتميل تصريحاته إلى الفوضى وعدم الانسجام. وعلى الرغم من أن القضايا الداخلية المرتبطة بالتأمين الصحي، والهجرة غير الشرعية، والبطالة ستشكِّل محاور أساسية في أولويات الرئيس الأميركي الجديد، إلا أن السياسة الخارجية ستلعب دورًا مهمًّا خلال فترته الرئاسية. تهدف هذه الورقة إلى دراسة الخيارات المختلفة التي ستشكِّل محاور السياسة الخارجية الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتجادل بأن بنية السياسة الخارجية الأميركية سوف يحكمها ثلاثة عوامل متداخلة:
- أولًا: حماية المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية وضمان تفوقها في الإقليم.
- ثانيًا: المحافظة على الاستراتيجية الأميركية التقليدية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، مع إمكانية بروز سياسة انعزالية سلبية ستمكِّن إسرائيل من تحقيق تطلعاتها.
- ثالثًا: الأخذ بعين الاعتبار التطورات الملتهبة في منطقة الشرق الأوسط، في محاولة للمحافظة على مصالح الولايات المتحدة الحيوية.
الاستراتيجية الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
تميزت السياسة الخارجية الأميركية، ومنذ ستينات القرن الماضي، بالاستقرار النسبي تجاه التفاعل مع ديناميكيات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي والاستراتيجيات المختلفة تجاهها. ويؤثِّر في بنية هذه الاستراتيجية وترتيب أولوياتها عاملان مهمان. تشكِّل المؤسسات الأميركية الراسخة، والقيود القانونية والدستورية والسياسية، ومجموعات مختلفة من جماعات الضغط والمصالح وخاصة اللوبي اليهودي، ومراكز الأبحاث، ووسائل الإعلام، والرأي العام الأميركي المؤيِّد في معظمه لوجهة النظر الإسرائيلية(1) عاملًا مهمًّا في بلورة السياسية الخارجية الأميركية وتعريفها. أما العامل الثاني فيرتبط بالتحولات الدولية والإقليمية؛ حيث شكَّل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ومنذ توقيع اتفاق أوسلو مطلع تسعينات القرن الماضي، القضية الأولى ضمن أولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة في الشرق الأوسط إلى أن فرضت التطورات الإقليمية أولويات أخرى نتيجة أحداث سبتمبر/أيلول عام 2001، وما تلا ذلك من احتلال العراق عام 2003، وظهور تنظيم القاعدة، واضطراب منطقة الشرق الأوسط وتخلخل بنيتها السياسية والاجتماعية والدينية، مع بروز ما يُطلَق عليه الثورات العربية عام 2011 والتنظيمات الجهادية المتطرفة مثل الدولة الإسلامية في العرق والشام. لذلك، فإن دور الإدارة الأميركية الجديدة سوف يكون محدَّدًا بالتطورات في الداخل الأميركي من جهة وبتفاعل الأحداث في منطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية.
منذ أواخر ستينات القرن الماضي، ساعدت العوامل الداخلية والتطورات الإقليمية والدولية على دعم الولايات المتحدة الأميركية الكبير لضمان تفوق إسرائيل وتميزها في منطقة الشرق الأوسط، وذلك بغضِّ النظر عن هوية الرئيس الذي يحكم في البيت الأبيض. فعلى سبيل المثال، وقَّعت كل من إسرائيل والولايات المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي 2016، أي قبل شهرين من الانتخابات الأميركية وانتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما، اتفاقًا للمساعدات العسكرية بقيمة 38 مليار دولار للعشر سنوات القادمة، ارتفعت من خلاله قيمة المساعدات العسكرية الأميركية السنوية لإسرائيل من 3.1 مليارات دولار إلى 3.8 مليارات دولار. ويسعى الاتفاق إلى ترسيخ مسار العلاقات الدفاعية ما بين الجانبين الإسرائيلي والأميركي بهدف مواجهة التحديات المشتركة في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة، وخاصة فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، والحركات الجهادية، والتحديات لنزع الشرعية عن إسرائيل على المستوى الدولي. ويمثِّل الاتفاق أكبر التزام بالمساعدات العسكرية الأميركية تقدِّمه الولايات المتحدة لأية دولة على الإطلاق(2).
لذلك، يمكن القول وباختصار، بأن أية استراتيجية أميركية سوف تعمل في الوقت الراهن على تثبيت التقليد الأميركي في ضمان تفوق إسرائيل في الإقليم وحمايتها في المحافل الدولية المختلفة.
ترامب ورؤيته للصراع
ركَّز ترامب، في بعض مقابلاته وخطاباته، على ضرورة تقديم كافة أشكال الدعم لضمان تفوق إسرائيل ودعمها، ويمكن العثور على صيغة هذا الدعم بشكل واضح في البيان المشترك لحملة ترامب الانتخابية مع مستشاريه، جيسون جرينبلات وديفيد فريدمان. فقد عكس البيان المشترك مواقف مطابقة تقريبًا لتلك التي تتبناها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة؛ حيث نصَّ بشكل واضح على أن إدارة ترامب لن تستمر فقط في تقديم المعونة الأميركية التي لا مثيل لها في دعم إسرائيل، بل إنها سوف تبذل قصارى جهدها لتوسيع هذا الدعم وتعزيزه. البيان أكَّد أيضًا أن حلَّ الدولتين هو المرجَّح في المستقبل القريب، ولكنه لام الفلسطينيين وحدهم على فشل عملية السلام وحمَّلهم مسؤولية عدم تقدمها. وفي نبرة اتهام واضحة، اعتبر البيان أن “حل الدولتين أصبح على ما يبدو مستحيلًا الآن”، متهمًا السلطة الفلسطينية بأنها “شريكة في نشر الكراهية”، ومشدِّدًا على أن الولايات المتحدة، تحت حكم ترامب، “لن تدعم إقامة دولة إرهابية في الأراضي المحتلة”. كما أنه تعهد باستخدام حق النقض ضد أي قرار معاد لإسرائيل في الأمم المتحدة، وأكد على وعده بنقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى مدينة القدس. وبقي البيان صامتًا تجاه الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية مع تجديد ترامب وعوده بمحاربة النشاط الشعبي ضد الاحتلال والمستوطنات، مدعيًا أن “حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل” هي مجرد محاولة أخرى من قبل الفلسطينيين لتجنب الاضطرار إلى الالتزام بالتعايش السلمي مع إسرائيل، وهدَّد بشكل واضح باتخاذ إجراءات “ضد معاداة إسرائيل ومعاداة السامية”، وخاصة في الجامعات.
أضفت وعود ترامب بزيادة الدعم لإسرائيل جوًّا من السعادة على جدول أعمال اليمين الإسرائيلي، وخاصة ضمن دوائر المستوطنين؛ فهم يعتقدون أن إدارته سوف تكون أقل ميْلًا لانتقاد التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية بالمقارنة مع إدارة أوباما التي انتقدت مرارًا وتكرارًا التوسع في البناء الإسرائيلي في مناطق معينة من الأراضي المحتلة عام 1967 ولكن دون أن تتخذ أية خطوات جدية لوقفه. بل أكثر من ذلك، أصبح اليمين الإسرائيلي الداعم لضمِّ أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل أكثر جرأة، معتبرين أن أية خطوات في هذا الاتجاه لن تجد أية معارضة حقيقية من الإدارة الأميركية الجديدة. وبينما كان الفلسطينيون غير قادرين على إحراز أي تقدم حقيقي تجاه إقامة الدولة في عهد أوباما -كما أنه لم يكن من المتوقع أيضًا إمكانية تحقيق ذلك حتى في ظل إدارة كلينتون في حال فازت بالانتخابات- استمر الوضع على ما هو عليه.
ولكن يُخشى حاليًّا، وبالتحديد بين أوساط الفلسطينيين، من أن اليمين الإسرائيلي أصبح طليق اليدين في تنفيذ سياساته في الضفة الغربية وأكثر جرأة في مواصلة سياسات أكثر عدوانية تجاه الفلسطينيين. فبعد الانتخابات مباشرة، صرَّح جيسون جرينبلات، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بأن الأخير لا يعتبر المستوطنات الإسرائيلية عائقًا أمام السلام، وأنه لا يُدين بناء المستوطنات (3). هذا الموقف، والذي تجاوز المواقف التقليدية للإدارة الأميركية باعتبار الاستيطان عقبة أمام تحقيق حلِّ الدولتين، سيشجِّع اليمين الإسرائيلي على الذهاب خطوات إضافية في هذا الجانب. وبالفعل، فبعد تصريحات جرينبلات، صرَّح وزير البنى التحتية الإسرائيلي، يوفال شتاينيتس، بأن وزارته تنوي القيام بأعمال واسعة في الضفة الغربية لتعزيز البناء الاستيطاني(4). ويبدو أن ترامب المتفهم للموقف الإسرائيلي من الاستيطان، سوف يقوم بتعطيل أي جهود دولية، وخاصة في مجلس الأمن الدولي، منتقدة للاستيطان الإسرائيلي.
كما وعد ترامب أمام الإيباك، وهي من أقوى جمعيات الضغط اليهودية على أعضاء الكونغرس الأميركي، بنقل السفارة الأميركية إلى ما أسماه “عاصمة إسرائيل التاريخية”، وهو المطلب الذي ينادي به الكثير من المسؤولين الإسرائيليين الذين بدأوا يطالبون ترامب بضرورة تغيير الوضع القائم في مدينة القدس، وبالتحديد في المسجد الأقصى، من خلال نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس والسماح لليهود بأداء شعائرهم الدينية داخل ساحات الحرم الشريف (5). لكن، نقل السفارة لن يكون بتلك الأريحية مع تعقيدات الوضع الداخلي والإقليمي؛ فمنذ عام 1972، وعد عشرون مرشحًا رئاسيًّا أميركيًّا بنقل السفارة إلى القدس ولكن لم ينجح أي منهم في تنفيذ ذلك. كما أن مجلس الشيوخ الأميركي شرع عام 1995 قانونًا لنقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ حيث نصَّ على أن “سفارة الولايات المتحدة في إسرائيل ستُنقَل إلى القدس في موعدٍ لا يتأخر عن 31 مايو/أيار 1999”(6). ومع ذلك، يتم تأجيل تطبيق هذا القانون كل ستة أشهر بسبب تعقيدات الوضع السياسي والقانوني لمدينة القدس، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تصاعد للتوتر في منطقة الشرق الأوسط أو الإضرار بالمصالح الأميركية في ظل الاضطرابات التي تعصف بالإقليم.
حل الدولتين
ومع ذلك، يمكن القول: إن الخطوط العامة لبرنامج ترامب الانتخابي تؤيد حل الدولتين كفكرة عامة، حيث يرى الرئيس الجديد أن الطريق الأوحد لإنهاء الصراع يتمثل في المفاوضات الثنائية ما بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وأن يقتصر دور الولايات المتحدة الأميركية على تسهيل هذه المفاوضات. لذلك، يعارض ترامب أية خطوات فلسطينية يمكن أن تشكِّل، من منظوره، خطوات أحادية الجانب، مثل التوجه للمؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة للاعتراف بدولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967. فهو يرى أن “الحل يجب أن يكون من خلال مفاوضات الأطراف”. وبالتالي فهو سيقوم باتخاذ أية خطوات تعرقل هذه التحركات، ومن ضمنها إمكانية استخدام “الفيتو ضد أي حلٍّ يتبناه مجلس الأمن الدولي”(7).
وفي هذا الإطار، لا يمكن توقع أن تخرج سياسات ترامب عن المواقف الأميركية التقليدية من ضرورة أن تشكِّل المفاوضات الثنائية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي الأساس لأية تسوية مستقبلية للصراع، مع التأكيد على رفض أي تدخلات خارجية سواء من الأمم المتحدة أو المجتمع الدولي. وبالتالي ستمهد هذه السياسة إطارًا مرجعيًّا لتنفيذ السياسات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وخاصة ما يرتبط منها بالاستيطان وتسريع عملية تهويد الضفة الغربية والقدس الشرقية.
سياسة العزلة
قَدَّرَ تقرير صادر عن وزارة الخارجية الإسرائيلية، والذي نُشر بعد ظهور نتيجة الانتخابات الأميركية، أن ترامب “لا يرى الشرق الأوسط على أنه (استثمار حكيم)، وأنه من المرجح سوف يسعى جاهدًا للحد من تورط الولايات المتحدة في المنطقة”(8). وبالنظر إلى تصريحات ترامب المختلفة حول سياسته الخارجية التي تسعى إلى خفض تورط الولايات المتحدة واشتباكها في الخارج، فهناك احتمال أن لا يحظى الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بموقع متقدم على جدول أعمال الإدارة الأميركية. ومع ذلك، سوف يعمل هذا الخيار أيضًا لصالح الحكومة الإسرائيلية الحالية. علمًا بأن أي نهج انعزالي يمكن أن يتبنَّاه ترامب لن يُحدث قطيعة كاملة مع نهج الرئيس السابق أوباما، والذي لم يحتل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي أولوية قصوى لديه، وخاصة خلال السنتين الأخيرتين من حكمه. فقد فقدت الإدارة الأميركية بالفعل الاهتمام بعملية السلام بعد فشل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في تسهيل مفاوضات ناجحة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في عام 2014.
ولكن من الواضح أن الانسحاب الأميركي يمكن أن يخلق ظروفًا مثالية ليس فقط للحفاظ على الوضع الراهن الذي يضمن التفوق الإسرائيلي، بل أيضًا سيشجِّع الحكومة الإسرائيلية اليمينية على محاولة قمع كل من ينتقد سياساتها داخليًّا وخارجيًّا، وبالتحديد في ملف التوسع الاستيطاني واستمرار تقلص الخيارات التفاوضية مع الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، يمكن أن تسهم العزلة الأميركية في تشجيع الصعود الروسي كقوة كبرى في المنطقة؛ فقد حافظت إسرائيل على تنسيق جيد مع الروس حول قضايا الأمن في الشرق الأوسط، وخاصة الحدود السورية-الإسرائيلية، وتعكس الزيارات التي يقوم بها نتنياهو إلى روسيا، وديمتري ميدفيديف إلى القدس ورام الله، الاهتمام الروسي المتزايد بالانخراط في أزمات المنطقة. ومع ذلك لا يبعث النشاط الكبير للروس في منطقة الشرق الأوسط الكثير من الأمل لدعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان ومجتمع مدني حر وقوي سواء في إسرائيل أو فلسطين. وبالتالي، يمكن أن تشكِّل إسرائيل، على أغلب تقدير، دورًا محوريًّا في إعادة توجيه السياسة الخارجية الأميركية تجاه أزمات المنطقة بشكل عام والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بشكل خاص. وفي هذا الإطار، سوف تسعى إسرائيل إلى أن تلعب دورًا مهمًّا في إجهاض التحركات العربية والإسلامية الداعمة للدبلوماسية الفلسطينية في الأمم المتحدة وضمن المؤسسات الدولية. فعلى أغلب تقدير، سوف تستثمر إسرائيل التحركات الأميركية في منطقة الشرق، الهادفة إلى محاربة ما يطلق عليه “الإرهاب الإسلامي”، للزجِّ بالفلسطينيين في هذه الأزمات ومحاولة تصويرهم على أنهم جزء من التوترات وعدم الاستقرار في المنطقة. وعلى أغلب تقدير، فإن المواقف الإسرائيلية سوف تتواءم بصورة أو أخرى، مع الملفات الحساسة في المنطقة وخاصة ما يرتبط منها بالبرنامج النووي الإيراني، وتنامي قوة حزب الله في لبنان، وطبيعة التشكل السياسي في سوريا، والدور الإقليمي لتركيا.
السيناريوهات المتوقعة
سيبقى من الصعب التنبؤ بسياسيات ترامب تجاه حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في هذه المرحلة. ومع ذلك، جميع السيناريوهات المحتملة لمواقف إدارته بشأن هذه القضية يبدو أنها تعمل لصالح الأجندة السياسية لليمين الإسرائيلي. وفي أغلب الأحيان سوف تبرز ثلاثة سيناريوهات حيال تدخل الإدارة الأميركية في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
أولًا: تعزيز الاستراتيجية الأميركية التقليدية
من غير المتوقع أن تنحرف السياسة الخارجية الأميركية بصورة كبيرة خلال الفترة القادمة، وذلك خوفًا من أن ينعكس أي تغير جذري في زيادة التوترات والاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي تهديد مصالح الولايات المتحدة الأميركية الاستراتيجية. لذلك، فمن المرجح أن تحافظ إدارة ترامب على الثوابت الأميركية التي ميَّزت سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة خلال العقود الماضية، والتي عملت على ضمان تفوق إسرائيل وتميزها في الإقليم وتوفير شبكة أمان للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين في المحافل الدولية. لذلك، من المستبعد أن ينفرد ترامب بقرارات مصيرية يمكن أن تخالف في توجهاتها العامة استراتيجيات المؤسسات الأميركية الثابتة، وأن تميل مواقفه تدريجيًّا باتجاه مركز السياسة الخارجية الأميركية.
ثانيًا: الانعزال السلبي وزيادة الضغط على الفلسطينيين
صرَّح ترامب في أكثر من مناسبة بأنه سوف يبقى “محايدًا” في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وبالتالي فإنه من المتوقع أن يعزِّز ترامب سياسة الانعزال السلبي التي بدأها أوباما، والتي تضمن تفوق إسرائيل وعدم السماح لأي فاعل دولي بتعطيل المخططات البنيوية لإسرائيل في التوسع الاستيطاني وتسريع ضم مدينة القدس، وإبقاء الحصار المفروض على قطاع غزة، وترسيخ واقع جديد في الضفة الغربية يضمن السيادة الإسرائيلية. وضمن هذا السيناريو، سيكون من المستبعد أن تسمح الإدارة الأميركية الجديدة، كسابقاتها، لأي فاعلين دوليين آخرين بأن يكسروا هذه القاعدة. وبالتالي، فإن هذا الخيار سيعني أن الفلسطينيين سيُتركون في مواجهة ميزان دولي مختل يميل لصالح إسرائيل.
وفي هذا الإطار، من المستبعد أن يُقدِم ترامب على تنفيذ وعوده الانتخابية التي يمكن أن تفجر الوضع الفلسطيني الداخلي وتزيد الوضع التهابًا في منطقة الشرق الأوسط، وخاصة نقل السفارة الأميركية إلى مدينة القدس والتي يمكن أن تجلب ردود فعل عربية وإسلامية يمكن أن تؤثِّر على مصالح الولايات المتحدة. وعوضًا عن ذلك، سوف يكثِّف ترامب من سياسة الضغط على الجانب الفلسطيني وخاصة حركات المقاومة ذات الطابع الإسلامي (حركتي حماس والجهاد الإسلامي). فعلى ما يبدو، فإن الرئيس الأميركي الجديد لا يكره فقط المقاومة بل أيضًا طبيعتها الإسلامية؛ حيث اتهم “كلًّا من حركتي حماس والجهاد الإسلامي تحديدًا، بتربية الأطفال الفلسطينيين على “العنف وكراهية اليهود”(9). لذلك، فمن المتوقع أن يزيد من الضغوط على حركات المقاومة وداعميها وبالتحديد من دول الخليج العربي وذلك في مسعى منه إلى محاصرة مصادرها المالية.
ثالثًا: تطوير مصالح غير متوقعة في عملية السلام
فاجأ ترامب، خلال مقابلة له بعد الانتخابات، الكثيرين عندما قال إنه مهتم بتحقيق اتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين(10). وبسبب صعوبة التنبؤ بتصرفاته، حتى من قِبل قيادات الحزب الجمهوري ومستشاريه، فإنه لا يمكن استبعاد أن ترامب، رغم كل ما قاله في حملته الانتخابية، سوف يسعى إلى تعزيز التدخل الأميركي في المنطقة؛ فربما يشكِّل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي استثمارًا منخفض التكلفة نسبيًّا، بالمقارنة مع جميع القضايا والنزاعات الملتهبة في المنطقة. وكما أعرب الروس عن اهتمامهم بتسهيل محادثات جديدة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، قد ينجذب ترامب إلى الانضمام لهذه المفاوضات، خاصة أن هناك مؤشرات تقارب شخصية بينه وبين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. ومع ذلك، وحتى إذا ما أقدم على مثل هذا التدخل، وبسبب عدم خبرته في الشؤون الخارجية، يمكن أن يكون أي تدخل مرتبطًا إلى حدٍّ كبير بمستشاريه أو نوابه الذين يحيطون به، وخاصة نائبه، مايك بنس، أو من سوف يعيِّنه وزيرًا للخارجية. ومع ذلك، يبقى هذا السيناريو غير مرجح كثيرًا.
خاتمة
كافة السيناريوهات التي يمكن رسمها لحدود التدخل الأميركي في مرحلة ترامب تجاه الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يبدو أنها لا تبشِّر بالكثير من التفاؤل لإحياء آمال الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة في المستقبل القريب. لذلك، سيكون رهان القيادة الفلسطينية على المسار الفلسطيني (وبشكل جدي) ضمن المؤسسات الدولية وخاصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية. وفي هذا السياق، سيكون من المفيد للجانب الفلسطيني التوقف عن التعويل المبالغ فيه على الإدارة الأميركية المنفردة لعملية السلام، واللجوء عوضًا عن ذلك إلى مصادر القوة الفلسطينية الداخلية المتمثلة في إعادة توحيد الجهود الفلسطينية والتوصل إلى تسوية تنهي الانقسام الفلسطيني الداخلي.
______________________________
محمود جرابعة و ليهي بن شطريت
مركز الجزيرة للدراسات
مراجع
1-Gallup, Americans’ Views Toward Israel Remain Firmly Positive, 29.02.2016. http://www.gallup.com/poll/189626/americans-views-toward-israel-remain-firmly-positive.aspx
2- قناة الجزيرة الإخبارية، أميركا وإسرائيل توقِّعان اتفاق مساعدات غير مسبوقة، 14 سبتمبر/أيلول 2016: إضغط هنا.
3- وكالة معًا الإخبارية، مستشار ترامب: الرئيس لا يعتبر المستوطنات عائقًا أمام السلام، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2016:
https://maannews.net/Content.aspx?id=875875
4- قناة الجزيرة الإخبارية، وزير إسرائيلي: فوز ترامب سيسمح لنا بتوسيع الاستيطان، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2016:http://www.aljazeera.net/news/international/2016/11/10/%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%88%D8%B2-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%B3%D9%8A%D8%B3%D9%85%D8%AD-%D9%84%D9%86%D8%A7-%D8%A8%D8%AA%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%86
5- قناة الجزيرة الأخبارية، مشعل: على ترامب تغيير سياسة أميركا تجاه فلسطين، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2016:http://www.aljazeera.net/news/arabic/2016/11/10/%D9%85%D8%B4%D8%B9%D9%84-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D8%A7-%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D9%87-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86
6- المصدر، هل ينقل ترامب سفارة بلاده إلى القدس؟، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2016: http://www.al-masdar.net/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D9%86%D9%82%D9%84-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%B3%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%87-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%AF%D8%B3%D8%9F/
7- مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تقدير استراتيجي (90): مسارات القضية الفلسطينية في برامج مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية، يوليو/تموز 2016: http://www.alzaytouna.net/2016/07/14/%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-90-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3/
8- Ynetnews, Foreign Ministry: ‘Trump doesn’t see the Middle East as a “wise investment”, 11.11.2016. http://www.ynetnews.com/articles/0,7340,L-4877730,00.html
9- مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، تقدير استراتيجي (90): مسارات القضية الفلسطينية في برامج مرشحي الانتخابات الرئاسية الأميركية، يوليو/تموز 2016: http://www.alzaytouna.net/2016/07/14/%D8%AA%D9%82%D8%AF%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-90-%D9%85%D8%B3%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3/
10– http://www.wsj.com/articles/donald-trump-willing-to-keep-parts-of-health-law-1478895339