تحوّل فتوى الجهاد الكفائي التي صدرت في يونيو 2014 وتشكّل على أساسها ما سمي بالحشد الشعبي، إلى قانون أقره مجلس النواب العراقي، حاملا اسم التشكيل ذاته، هو بمثابة انتقال يدشن مسارا بات يحكم المجتمع العراقي، يتعلق بهيمنة رجل الدين وسلطة حامل السلاح، ما بدد إمكانية أن يكون العراق دولة مدنية.
إقرار قانون الحشد الشعبي أشر على بدايات مبكرة لاستحقاقات عراق ما بعد داعش، بانضواء أكثر من 140 ألفا من حملة السلاح تحته، من الذين ينتمون إلى أكثر من ستين فصيلا مسلحا، يدين أكثر من أربعين منهم بالولاء في مرجعيته الدينية إلى الولي الفقيه في إيران، يجعل من سيطرة الأخيرة بالقوة وبالفعل على التوجهات السياسية والمجتمعية في العراق حقيقة راجحة.
وإلا ماذا يعني تشريع قانون لتشكيل مسلح، خارج سلطة وزارة الدفاع، موازيا للجيش العراقي، ويتمتع باستقلالية كاملة، ويتألف من قيادة وهيئة أركان وصنوف عسكرية ذات طابع قتالي، بما يتماهى، مع الحرس الثوري الإيراني، حتى وإن جاءت الأسباب الموجبة لهذا القانون، بطبيعة ملفقة مثل “تكريما لكل من تطوع” من العراقيين، ودفاعا ضد “كل من يعادي العراق ونظامه الجديد”، و“تعزيز هيبة الدولة وحفظ أمنها”.
لا أفترض بأن الحشد الشعبي، سيشارك في تصدير الثورات، كما هو الأمر عليه مع الحرس الإيراني، لكن شرعنة ميليشيات بوصفها تشكيلات رسمية مقاتلة، وإعطائها صلاحية التحرك داخل محافظات البلاد، سيكون من صلب مهماتها، كما نصت إحدى فقرات القانون على “إعادة انتشار وتوزيع القوات في المحافظات”، تندرج ضمنها المحافظات الشمالية والغربية التي تخلصت من تنظيم داعش.
ولكن كيف للقائد العام للقوات المسلحة، الذي أنيطت به حصريا، سلطة توزيع الحشد وتحركاته، أن يأمر مجاميع مسلحة تدين بالولاء التام لمرجعيات دينية شيعية، داخل العراق وخارجه، وتمتثل لقراراتها؟ والتي تلقت دعما عسكريا من إيران عبر تدريبها وتجهيزها، ومواصلة دعمها المالي الذي يصل إلى مئات الألوف من الدولارات، عدا عن كونها أذرعا عسكرية، وقاعدة مناصرة، أيضا، لأحزاب شيعية مهيمنة داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية. ما يجعل الفقرة القانونية التي تدعو إلى فك ارتباط منتسبي الحشد مع كافة الأطر السياسية والحزبية، كما جاء في القانون الذي تم تشريعه، موضع شك إن لم تكن موضع ريبة. وهو السؤال المحير ذاته الذي يحيل إلى أن الحشد يتألف من مكونات الشعب العراقي، لكنه استبعد قوات البيشمركة الكردية منه، والمجموعة المسلحة لجماعة أثيل النجفي مثلا.
إضافة إلى أن الحشد الشعبي الذي بات بعد إقرار القانون، مؤسسة عسكرية ذات صفة قانونية، يذكّر بنهج العسكرة الذي مضت فيه أحزاب الإسلام السياسي، والمؤسسة السياسية في العراق بتوصيفاتها العديدة، منذ العام 2006، حماية لوجودها، حيث سيضاف إلى ست تشكيلات عسكرية وأمنية أخرى. ذلك ما يستدعي الخشية على تبديد ما تبقى من أمل في محاولات تعزيز فكرة “المدنية” في العراق، على مستوى الدولة والمجتمع، مرة بدفع المكونات العراقية الأخرى للتنافس على تشكيل مجموعات مماثلة للحشد، لحماية كيانها ووجودها منه، خشية إعادة تاريخ سابق، انطوى على ممارسة انتهاكات طالت مجموعات لتلك المكونات، كما حدث في ديالى والأنبار وصلاح الدين، ومرة ثانية، في إفراغ روح المواطنة العراقية لجهة الولاء الطائفي والإثني والعشائري. ما يعني إفراغ فكرة الدولة من جوهرها المتمثل بالمجتمع والمؤسسة المدنية القائمين على مبدأ المواطنة والقانون.
إقرار قانون الحشد، تلغيم للعملية السياسية في العراق التي أنشأت توافقاتها ما بعد العام 2003، برعاية أميركية والتي دأبت على صيانتها بشكل دائم بذريعة الشراكة المؤتلفة وفق اصطفافات طائفية وإثنية، وهو ما عبر عنه أسامة النجيفي نائب رئيس الجمهورية ورئيس كتلة “متحدون”، في أنه “ليس من حق أحد تقرير مصير البلد بتشريع قانون دون الرجوع إلى مبدأ الشراكة”، ما يعني تحول هذا المبدأ إلى لحظة صراع بين قوى وأطراف تعيد فعل التشظي في المشهد السياسي العراقي، واستحداث تنازعات تضر تماما بفكرة “المدنية”.
قانون الحشد، هو شرعنة لثقافة الميليشيا بكونها أمرا واقعا لا نزاع فيه، وتهيئة للمجموعات المنضوية تحته، لتبرير بقائها في زمن ما قبل الدولة، من أجل التماهي مع البديل القادم، الذي لا بد له من مماثلة ولاية الولي الفقيه.
سعد القصاب
صحيفة العرب اللندنية