عاكفاً على معالجة باب عربة معدني محروق ومغطى بزيت المحركات، كان الرقيب حسين محمود غارقاً في عمل الصباح. كانت ثمة هياكل ملتوية لعربات مدمرة للجيش مركونة وسط الغبار الكثيف الذي تولد بفعل حركة الشاحنات التي كانت ما تزال تمضي زاحفة نحو الأطراف الحضرية لمدينة الموصل.
انضم إليه جنديان آخران معهما مفاتيح ربط صناعية، محاولين عبثاً فك الباب عن مفاصله. وقال أحدهم: “إننا نحتاجه من أجل إلى عربات الهمفي التي ما تزال تعمل. نحن تحت ضغط لتزويدها بالقطع”.
وفي الأثناء، بدت ساحات التصليح المرتجلة حول ضاحية غوغالي إلى الشرق خارج الموصل، المنطقة الخلفية المباشرة للحرب مع “داعش”، والتي تقف كأكبر تذكير مرئي للحجم التدميري والصعب -والطويل- المرجح أن يطبع هذا القتال.
التقدم المدهش الذي تميزت به الأسابيع القليلة الأولى من الحملة لاستعادة ثاني كبريات المدن العراقية التي تعد آخر معقل حضري للمجموعة الإرهابية في العراق، ترك مكانه لواقع مؤرق: لن يسلم “داعش” الموصل، وسوف يكافح جيش العراق الواهن من أجل استعادتها.
منذ أن دخلت القوات العراقية إلى غوغالي، ضاحية الصناعات الخفيفة، في أواسط شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أصبح يعتري التقدم السابق شيء من البطء. وقال حسين: “عندما بدأنا (الهجوم) كنا نتحدث عن أسابيع. والآن، فإننا نأمل أن يكون التحرير في وقت مبكر من العام المقبل. لكن هؤلاء الناس ليسوا جبناء. إنهم يقتلون بالسهولة نفسها التي يتنفسون بها”.
تتواجد القوات التي نشرت وراء خطوط المواجهة الاسمية المعلمة بأكوام من القاذورات، على بعد خمسة أميال من مسجد النور حيث أعلن زعيم “داعش”، أبو بكر البغدادي، عن نفسه خليفة للمسلمين قبل حوالي 30 شهراً. ولكن كل شارع وقاطع باتجاه المسجد -وهو هدف رمزي عالٍ للمعركة- يشهد ارتفاعاً متزايداً في الكلفة من الدماء والأموال.
وتستمر السيارات المفخخة -من النوع الذي حطم العشرات من عربات الهمفي المركونة في ساحات الخردة المرتجلة- في التسبب بخسائر كبيرة في العربات المدرعة التي قدمتها الولايات المتحدة، والتي تشكل أساس سلاح المدرعات في الجيش العراقي.
من الصعب قياس حجم الخسارة التي تلحقها هذه الهجمات بالمفخخات بالمعنويات. لكن القوات العراقية التي نشرت في غوغالي وفي الطرق المفضية إليها تصر على قول أنها ستكسب الحرب، بغض النظر عن طول المدة التي ستستغرقها العملية. ومع ذلك، يعترف البعض بأن من الممكن أن يستمر القتال في أنفاق وأزقة الموصل حتى وقت متأخر هو الصيف المقبل.
وقال الرقيب محمد توفيق: “سمعنا أنهم حفروا أنفاقاً وأرسلوا فتياناً بسترات انتحارية. إيقاف هؤلاء هو شيء لم نتدرب عليه”.
ليس خوض قتال بطيء وطاحن هو النتيجة التي كان القادة السياسون العراقيون يأملون فيها في هذا المنعطف الحساس في التاريخ الحديث للبلد. وقال الرائد سعيد علي الذي كان يقف عند نقطة تفتيش إلى الجنوب من المدينة، في موضع ليس بعيداً عن المكان الذي شهد صداماً مميتاً مع 50 عضواً من “داعش” في قرية مهجورة قبل أسبوع: “كانوا يتوقعون أن ينتهي الأمر في غضون أسابيع. حسناً، أهلاً بهم هنا ليحاولوا”.
صنف العراق القتال من أجل الموصل على أنه خطوة على طريق بناء الأمة بعد 13 عاماً من القتامة وعدم الاستقرار. كان هناك أولاً غزو أطاح بالطبقة الحاكمة السنية، ثم حرب طائفية أوقعت الطائفتين المتنافستين من الإسلام في حرب ضد بعضهما بعضا لأكثر من ثلاثة أعوام، ثم صعود التجسيدات المبكرة لتنظيم “داعش”، وتجنيد الأعداد الضخمة من المليشيات الشيعية بشكل رئيسي والتي تنافس الجيش القومي كقاعدة قوة، والتي أضفى عليها البرلمان الشرعية هذا الأسبوع.
لا تنخرط المليشيات الشيعية مباشرة في القتال من أجل استعادة الموصل، وقد اقتصر دورها على أخذ مواقع لإغلاق الطريق غرب من المدينة. ومع ذلك، تظهر اليافطات الشيعية جاهزة للعرض في المدينة من خلال رفعها على الشاحنات العراقية وعلى قمم نقاطهم الأمامية. وتثير الأعلام واليافطات حفيظة بعض السكان السنة في المدينة، الذين يعتقدون بأنها تؤطر الحرب بعبارات طائفية وليس بعبارات وطنية.
يقول صبحي جبور، المواطن الموصلي بينما كان ينتظر مساعدة لتوصيله في غوغالي في الأسبوع الماضي: “لقد توقعنا ذلك. ولكنهم، للأمانة، لم يكونوا سيئين كما اعتقدنا. طالما كانوا يريدون تحريرنا، إذن دعونا وشأننا، وسنكون مسرورين”.
وفي الأفق، تعلو أعمدة الدخان الناجمة عن الضربات الجوية. وتعد الضفة الشرقية من نهر دجلة الذي يقسم المدينة المنطقة الوحيدة التي تعمل فيها القوات العراقية، والتي تم التنبؤ بأنها أسهل نصفي المدينة على الاستعادة. وبينما تقترب القوات العراقية في نهاية المطاف من النهر، ثمة ترجيح لأن يقوم “داعش” بنسف آخر جسر من الجسور الخمسة على النهر -كانت الضربات الجوية الأميركية قد شلت الأربعة الأخرى- مما يجعل التقدم باتجاه الغرب بالغ الصعوبة، ومما يرفع احتمال أن يلعب الشيعة في الأطراف الغربية من المدينة دوراً أكثر مباشرة بعد كل شيء.
يقول محمد أحمد محمد، وهو زعيم مجتمعي، بينما كان جالساً على الطريق الرئيس المفضي للمدينة: “أنظر إلى شاحناتهم… لقد أعطاها لهم الأميركيون وكلها أصيبت بصواريخ. كل نوافذها أصيبت بطلقات القناصة. إنهم يبدون وكأنهم يقاتلون منذ خمسة أعوام. لقد اقتربت مدة (الحرب) من الشهرين”.
مقابله، على الجهة الأخرى من الشارع، ثمة ميكانيكي يصلح أسفل سيارة همفي كانت قد سحبت إلى داخل ورشة أعيد افتتاحها حديثاً. وثمة شخص آخر يعالج إطاراً مثقوباً. وفي مكان أبعد من المدينة، ثمة تسع عربات سوداء مهملة معروضة خارج ورشة شاحنات. وثمة فني من الجيش يتفحصها عله يجد أشياء يمكنه إصلاحها. وقال مشيراً إلى حطام غير قابل لتحديد شكله: “ليس هناك الكثير، قتل اثنان في هذه السيارة ولدينا ثلاثة شهداء في تلك”.
في الجوار، وقف ضابطان رفيعان في زي نظيف مثير للإعجاب، وقال أحدهما: “لا تلتقط الكثير جداً من الصور للأضرار… نحن نفضل أن لا يشاهد الناس هذا”.
حتى الآن، يرفض المسؤولون العراقيون تقديم أرقام عن الخسائر الناجمة عن القتال، وهم لا يشعرون بالارتياح من أي شيء يمكن أن ينظر إليه على أنه يمنح تعزيزاً لـ”داعش” أو يظهر الخسائر العسكرية. وقال الرائد رفيد إسماعيل، الضابط في قوات المدفعية في مدينة أربيل المجاورة: “سوف نصل إلى هناك بطريقتنا الخاصة. لا تنسوا أننا نقاتل الشيطان نفسه”.
مارتن تشولوف
صحيفة الغد