أحسن الرئيس السيسي صنعًا بزيارته ذات الأبعاد الاستراتيجية لأوغندا ومباحثاته البناءة مع الرئيس موسيڤيني، وفوق أن أوغندا دولة مهمة في شرق إفريقيا؛ فإن منابع النيل تقع في مدينة جنجا ثاني أهم مدينة في أوغندا وعلى شمال بحيرات ڤيكتوريا الكبرى، ولقد تعرفت على أوغندا عن قرب حينما أرسلني أستاذي المرحوم بطرس غالي وكان وزير الدولة للشئون الخارجية لزيارة عدد من الدول الأفريقية ومنها أوغندا للبحث في سبل التعاون الاستراتيچي في وقت كانت الدول العربية تقاطع مصر، والتي ترتب عليها، نتيجة للتعاون الوثيق بين وزارة الداخلية ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية، تدشين مؤتمر وزراء الداخلية الأفارقة، ومن خلال إدارتي لبرنامج البعثات الدراسية في البنك الدولي بواشنطن؛ حيث أنشأنا ماچستير إدارة السياسات الاقتصادية في جامعة مكريري -هارڤارد أفريقيا- بأوغندا وجامعة غانا وفي الكاميرون وساحل العاج، وكانت أجمل هدية قدمها لي رئيس قسم الاقتصاد بالجامعة ووزيرة منابع النيل في جنجا.
ومن نافلة القول التأكيد على أن العلاقات المصرية- الأفريقية تعود إلى عمق التاريخ الإنساني، وإن كانت العلاقات في العصر الحديث تعود إلى قيام مصر بكافة مؤسساتها بدعم حركات التحرر الوطني في القارة السمراء؛ فلا يمكن إغفال العلاقات الوطيدة بين مصر وغانا –مثلاً- في عهد الرئيس نكروما، والتي وصلت إلى حد زواجه من سيدة مصرية فاضلة، ولا يمكن إغفال دور الصندوق الفني لافريقيا التابع لوزارة الخارجية، والذي لعب دورًا أساسيًا في دعم وتدريب الثوار الأفارقة وفي إرسال البعثات العلمية والتعليمية في فترة بناء الدولة القومية في افريقيا في أعقاب الاستقلال أو في استضافة القيادات الأفريقية الشابة في مختلف التخصصات للتعليم والتدريب الفني، وفي الخمسينيات والستينيات وُجد خبراء مصريون في الشئون الأفريقية على رأسهم الدكتور بطرس غالي والدكتور عبد الملك عودة والدكتورة حورية مجاهد، والذين أثمرت جهودهم في إنشاء معهد البحوث والدراسات الأفريقية بجامعة القاهرة، وقد خلقوا جيلاً جديدًا في ذات التخصص، واستضافت مصر قيادات فكرية أفريقية مثل علي مزروعي العالم الكيني الشهير، والذي كان أستاذًا بالولايات المتحدة، كل ذلك عمق من الوشائج بين مصر وأفريقيا.
بيد أن التطورات اللاحقة في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق مبارك أدت إلى الإقلاع عن هذا الاتجاه التنسيقي/ التكاملي ودفعت إلى أولويات أخرى في السياسة الخارجية المصرية نحو الشمال وخاصةً أوروبا والولايات المتحدة، مما أدى إلى تساؤلات كثرة من الخبراء الأفريقيين في عدد كبير من الدول الأفريقية بشأن غياب الدور المصري، وهو الغياب الذي أفسح المجال في أفريقيا لتعميق العلاقات الإسرائيلية- الأفريقية، والتي امتدت إلى غرب أفريقيا بعد أن كانت محصورة في شرقها، وأكثر من ذلك، امتد النفوذ الإيراني إلى الدول الأفريقية خصوصًا دول حوض النيل، وترتب على هذا الفراغ –أيضًا- تجزئة السودان إلى دولتين متصارعتين على الرغم من أن السودان تشكل -إلى جانب ليبيا- العمق الاستراتيچي للأمن القومي المصري، وأدت تلك التطورات –أيضًا- إلى تحويل منظمة الوحدة الأفريقية، والتي أُنشئت بجهود مصرية عام 1962 في أديس أبابا إلى الاتحاد الأفريقي الأكثر عصرية وملاءمة لطبيعة العلاقات الدولية الراهنة، والذي صار أكثر فاعلية في إدارة الصراعات الأفريقية ومحاولة إقامة سلام أفريقي.
وتقع العلاقات المصرية- الأفريقية ضمن علاقات الجنوب- الجنوب في مقابل حوار الشمال- الجنوب، والذي لم يثمر كثيرًا تحت وطأة سعي الدول الكبرى إلى تحقيق مصالحها القومية على حساب الدول الأفريقية ودول آسيا وأمريكا اللاتينية ما عدا مجموعة البريكس، والتي تضم إلى جانب روسيا والصين الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وهي أول منظمة مشتركة بين الشمال والجنوب وبين القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي التي تحاول إنشاء نظام دولي جديد يحل محل النظام اليوروأمريكي، وذلك بإنشاء بنك التنمية الجديد، والذي يحل محل صندوق النقد الدولي، وهيئة الاحتياطي الدولي التي تحل محل هيئة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، وتقوم هاتان المؤسستان بتقديم الدعم المالي لدول الجنوب بشروط أكثر ملاءمة.
والحقيقة أن عودة مصر الحميدة إلى أفريقيا يمكن أن تفتح الأبواب على مصراعيها نحو مواجهة التحديات التي تواجه دول القارة، والتي يمكن أن تمتد ما بين توسيع التجارة البينية إلى التنسيق الاستراتيچي، إلى توثيق التبادل الثقافي والفكري والتعليمي، ولا شك أن تبادل الطلاب والأساتذة يمكن أن يكون في قلب العلاقات المصرية- الأفريقية، وأول خطوة في هذا الاتجاه تتمثل في الشراكة والتوأمة بين الجامعات المصرية والجامعات الأفريقية؛ حيث تلعب القوة الناعمة دورًا رئيسيًا في تنشيطة وتقوية وتكريس التعاون والتكامل في المجالات الأخرى، وقد يكون مناسبًا المبادرة بإنشاء مجموعة من المؤسسات المشتركة لمواجهة الإرهاب الذي يهدد بعض الدول الأفريقية، وعلى رأسها نيچيريا ومالي وتشاد، ودول عربية مثل؛ السودان وليبيا وتونس، في شكل “المؤسسة الأمنية الأفريقية”، والتي تضم وزراء الداخلية لتلك الدول، كما يمكن –أيضًا- إنشاء”المنظمة الأفريقية للتعاون الاستراتيچي”، والتي تضم وزراء الدفاع ورؤساء الأركان العرب والأفارقة على نمط منظمة شنغهاي للتعاون، وكذلك إنشاء”كونسرتيوم” يضم أهم الجامعات الأفريقية بُغية تكثيف تبادل الأساتذة والطلاب والمقررات فيما بينها. إن مثل هذه التنظيمات تدفع بالعلاقات المصرية- الأفريقية إلى الأمام، كما أنها توحد المواقف الأفريقية إزاء محاولات دول الجوار الجغرافي لاختراق أفريقيا.
د.عبدالمنعم المشاط
صحيفة الأهرام